الإرهاب وخطاب فرنسا السياسي

Read Time:8 Minute, 12 Second

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_كيف سمم الإرهاب خطاب فرنسا السياسي ونقاشاتها حول الهجرة والمهاجرين وما تأثير ذلك على الانتخابات الرئاسية الفرنسية؟ تحليل نادية بانتِل عن بلد لم يستعد هدوءه بعد.

قبيل منتصف ليل الثالث عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2021  يجلس شابان على رصيف شارع فولتير مستندَيْن على بعضهما في صمت وأمامهما عند باب مسرح باتاكلان تشتعل الشموع من جديد.

تصادف في هذه الليلة الذكرى السنوية السادسة للهجوم على قاعة باتاكلان للحفلات الموسيقية وأستاد فرنسا والحانات في شمال شرق باريس. وتعبر أمام الشابين امرأة شابة، وتتوقَّف للحظة متفحِّصة نظراتهما وتسأل: “هل كلُّ شيء بخير؟”.

يومئ الشابان برأسيهما :نعم إنَّ كلَّ شيء بخير. ولكن في الواقع هذا السؤال الصغير “هل كلُّ شيء بخير؟” هو أكبر سؤال خلال هذا الخريف: هل عاد فعلًا كلُّ شيء بخير؟

خلال يوم الثالث عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2021 هذا، وضع رئيسُ الوزراء الفرنسي وعمدةُ باريس أكاليل الزهور في مواقع الهجمات الإرهابية وأحضرت نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس باقة ورود بيضاء إلى بار لو كاريلون وقد ألقى رئيسُ جمعية للضحايا كلمةً.

ولكن مع حلول الظلام، اختلط الشغب بالحزن. فقد قام إيريك زمور -وهو مترشِّح في هذا الوقت للانتخابات الرئاسية التالية- بإحضار الصحفيين -الذين يتابعونه هذه الأيَّام في كلِّ مكان- معه أمام باب مسرح باتاكلان.

في آخر مرة نُقلت فيها على التلفزيون الفرنسي صورٌ حية من أجواء باتاكلان الليلة، كان قد قُتل للتو مائة وثلاثون شخصًا. والآن، بعد ست سنوات، يقف هناك رجلٌ كان في السابق صحفيًا له رأي وقد أصبح اليوم سياسيًا يمينيًا، ويقول: “فرانسوا هولاند لم يحمي الفرنسيين وقد اتَّخذ القرار الإجرامي القاضي بترك الحدود مفتوحة”.

وفقط عندما وصف ناجون من الهجمات الإرهابية إيريك زمور بأنَّه “مُدَنِّس قبور” يستغل الموتى من أجل أهدافه السياسية، بدأت المعركة بالفعل؛ هناك حيث يتم نقلها في هذه الأيَّام على موقع تويتر: هجوم عنيف يتعرَّض له الناجون وأقارب الضحايا الذين ينقلون منذ شهر أيلول/سبتمبر 2021 على وسائل التواصل الاجتماعي ما يحدث في محاكمة باتاكلان الحالية.

“استمروا بهدوء وأشعلوا شموعكم ودعوا أنفسكم تُذبحون أيها الخاسرون”. “أيها الضحايا اليساريون، أنتم تعيشون فقط من أموال دافعي ضرائبنا”. وَ: “إن كان هناك شيء غير لائق، فهو ليس استغلال الاعتداءات، بل خصخصتها من قِبَل أقارب الضحايا، الذين يُبيحون لأنفسهم بوقاحة تحويل هذا الهجوم المسلـَّح إلى مسألة عائلية”.

مرشَّح المحافظين الرئاسي يعد بإنشاء معتقل غوانتانامو فرنسي

 ولكن لا حاجة للبحث المتعب في موقع تويتر لرؤية أنَّ الجدل حول الإرهاب في فرنسا قد انحدر أكثر إلى مستوى فظّ. إذ وعد مؤخرًا المرشَّحُ الرئاسي عن حزب الجمهوريين المحافظين إيريك سيوتي أثناء مناظرة تلفزيونية بإنشاء غوانتانامو فرنسي.

لقد أصبحت مساواة الإرهاب بالهجرة إجماعًا حتى خارج المعسكر السياسي اليميني. وكأنَّما لا توجد عائلات مثل عائلة الجهادي المعروف فابيان كلاين، الذي وُلِد كاثوليكيًا في تولوز الفرنسية ومات باسم أبو آدم الفرنسي في سوريا.

وكأنَّ الإرهابيين القتلة مهاجمي صحيفة شارلي إبدو، الأخوين كواشي، لم يكبرا ولم يذهبا إلى المدرسة في فرنسا. وتحوَّلت فكرة أنَّ سلسلة الهجمات الإرهابية، التي تعاني منها فرنسا منذ عام 2012، هي مزيج معقَّد من مشكلات محلية الصنع وشبكة إسلاموية عالمية، إلى شيء أكثر بساطة، وأصبح الإرهاب مشكلة الآخرين، شيئًا دخيلًا.

عند مقارنة الحملة الانتخابية التي بدأت حاليًا 2021 بحملة انتخابات عام 2017 نلاحظ أوَّلًا إلى أي مدى أصبحت النقاشات أكثر تصلُّبًا وأكثر حدةً وأكثر عاطفيةً. عندما تم انتخاب إيمانويل ماكرون لدخول قصر الإليزيه -في عام 2017- رأى الكثيرون في ذلك رمزًا للتفاؤل. فقد تمكَّن ماكرون في آخر المطاف من إظهار نفسه للناخبين بصورة لم تعد تُشاهد إلا بالكأْد لدى أي سياسي في فرنسا اليوم: فقد كان مفعمًا بالتفاؤل.

وبعد عامين من الهجمات الإرهابية الصادمة في عام 2015 على صحيفة شارلي إبدو ومسرح باتاكلان، لم يتحدَّث ماكرون حول الخطر والانغلاق، بل تحدَّث حول الابتكار والنهضة. لقد كان ذلك وكأنَّ ماكرون يجسِّد شخصيًا التحدي، النسخة السياسية من التصميم على عدم السماح للإرهاب بتحديد الموضوعات.

والآن؟ باتت محاربة الإرهاب والجريمة من أهم موضعين في الحملة الانتخابية الفرنسية، ولا يوجد لهما من أقصى اليمين إلى الوسط سوى حلّ واحد ممكن، وهو: زيادة التشديد. في حين لا نسمع سوى القليل حول البطالة أو تغيُّر المناخ أو الإصلاحات الهيكلية.

ولم يتبقَّ تقريبًا أي شيء من هذا التحدي، من الاستمرار وكأنَّ الهجمات الإرهابية كانت اختبارًا يمكننا اجتيازه عندما نحافظ على ترابطنا. كان الفرنسيون في الصيف الماضي ينظرون بدهشة إلى الحملة الانتخابية الألمانية، ولعلهم يتساءلون: أين كانت نقاشات الهجرة والهوية، التي تهيمن في كلّ مساء على البرامج الحوارية غربي نهر الراين؟

توجد إجابات عديدة على السؤال عن السبب الذي يجعل ثقافة الحوار الفرنسية تبدو حاليًا مثل ثقافة مجموعات زبائن دائمين في حانة بعد الجولة الرابعة من كؤوس الخمر.

يمكن أن يشير المرء إلى المشهد التلفزيوني، الذي تفضِّل فيه دائمًا القنوات المتفرِّغة لنقل المعلومات دعوة الأشخاص الذين يثيرون أكبر قدر من الضجيج؛ أو الإشارة إلى شبكات التواصل الاجتماعية، التي تتشكَّل فيها الآراء في ساحة معركة بين الخير والشر.

وكذلك الإشارة إلى أنَّ ثقة الناس بالانتخابات والسياسيين والمؤسسات القديمة باتت تتضاءل باستمرار. ولكن بين كلِّ هذه الأطروحات المعروفة، يوجد شيء آخر. شيء من الصعب فهمه. وهذا هو السمّ الذي يتسرَّب إلى المجتمع مع كلّ هجوم إرهابي.

المجتمع الفرنسي لم يحصل على الوقت ليستعيد هدوءه

 من المعروف أنَّ الأشخاص الذين يجرون استطلاعات الرأي يحبون السؤال عن مستويات رضا الناس في بلد ما. في عام 2017، بعد عام من الهجوم الإرهابي على سوق عيد الميلاد في برلين، لم يكن هناك ما يُخيف الألمان إلى هذا الحدّ مثل خوفهم من وقوع هجمات أخرى. وفي عام 2019 -قبل بدء الجائحة- تغلب الألمان من جديد على هذا الخوف: “الألمان مرتاحون مثلما كانوا قبل خمسة وعشرين عامًا”، مثلما جاء في عنوان نشرته مجلة شبيغل أونلاين الألمانية. بإمكان أي مجتمع أن يستعيد هدوءه عندما يتم منحه الوقت للقيام بذلك.

والإرهابيون لم يمنحوا فرنسا مثل هذا الوقت منذ عام 2012. لقد تركت هجمات باريس على صحيفة شارلي إبدو ومسرح باتاكلان أثرًا عميقًا.

وكذلك نفَّذ الإرهابيون هجومين في مدينة نيس أيضًا، أسفرا عن قتل ستة وثمانين قتيلًا على الكورنيش في عام 2016 وثلاثة قتلى مسيحيين داخل الكاتدرائية في عام 2020.

أمَّا خارج فرنسا فقد تم نسيان العديد من الهجمات بسرعة: القتلى في تريبس وفي ستراسبورغ وفي مرسيليا وفي فيلجويف وفي رامبوييه وفي ماجنانفيل وفي سانت إتيان دو روفراي وفي الشانزليزيه وفي دار أوبرا باريس.

وأخيرًا مقتل المدرِّس صامويل باتي في السادس عشر من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2020 – وهو هجوم على قلب الجمهورية: على المدرسة.

يعتبر عالم الاجتماع ميشيل فيفيوركا من أبرز الخبراء الفرنسيين في شؤون الإرهاب. يقول ميشيل فيفيوركا: “لقد أدَّت حقيقة عدم توقُّف الهجمات الإرهابية في فرنسا إلى تمكُّن الإرهاب من تطوير عواقب بعيدة المدى.

وكذلك أدَّى الإرهاب إلى زيادة الرغبة في اتِّخاذ إجراءات سلطوية والحنين إلى شخصيات سلطوية. وقد تراجع التسامح”.

أمَّا حملات التضامن الدولي الكبير بعد الهجوم على صحيفة شارلي إبدو ومظاهرات مناهضة الإرهاب الضخمة في باريس – فهي بالنسبة إلى ميشيل فيفيوركا لحظات استثنائية تلاشى تأثيرها الآن: “في عام 2015، كان يوجد وهم وحدة وطنية تميَّز بالتفاهم والعاطفة.

ولكن هذه الوحدة لم تدم وقد حلَّ محلها خلاف سياسي. وبدل التضامن الدولي، ظهرت الصراعات الجيوسياسية القديمة”.

وميشيل فيفيوركا حريص على عدم تفسير الاستمرار في زيادة حدة “خطاب القانون والنظام” بسبب الهجمات الإرهابية وحدها. ومع ذلك فهو يرى أنَّ الحديث يدور قليلًا جدًا حولما يمكن أن ينشأ عن الإرهاب من قوة مدمِّرة بالنسبة للتعايش. بعيدًا عن الأسئلة حول مستوى التهديد.

وفي هذا الصدد يقول ميشيل فيفيوركا: “لقد استمر تطوُّر قدرة المجتمع الأولية على المقاومة بحيث بات يتم اعتبار كلّ شيء مشكلة سَبَبُها الهجرة”.

انتشار جنود مسلحين في وسط المدن الفرنسية جزء من الحياة الطبيعية الجديدة

 يعمل ياكوب روس لصالح الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية ويراقب من برلين النقاشات الفرنسية. ويقول في هذا الصدد: “تكمن المشكلة في أنَّ العديد من الموضوعات، التي تتطرَّق حقًا لجذور الإرهاب قد تم إهمالها لفترة طويلة.

لذلك بإمكان اليمينيين الآن تقديم أنفسهم ككاسرين للمحرمات وأن تبدو مواقفهم المتطرِّفة كحقيقة لم يكن أي شخص يجرؤ على التحدُّث عنها”. وهكذا فقد تطوَّرت الأسئلة، التي يجب نقاشها بموضوعية -مثل مكان الدين في التعايش الاجتماعي- إلى صراعات داخلية.

وحول ذلك يقول ياكوب روس: “لقد أدَّى الإرهاب إلى انقسام في المجتمع يمكن الآن أن يعتمد عليه شخصٌ مثل إيريك زمور في حملته الانتخابية”.

من بين الأشياء التي اعتاد الفرنسيون منذ عام 2015 فحص حقائبهم في كلِّ مرة قبل دخولهم المتاجر أو المباني العامة ووجود جنود مسلحين في مراكز المدن.

وكذلك اعتاد الفرنسيون على أخبار سقوط جنود فرنسيين في مالي ضمن إطار الحرب على الإرهاب. وأصبحت الأصوات المعارضة تقل باستمرار عندما يتعرَّض المسلمون لاشتباه عام في أنَّهم إرهابيون محتملون.

لم يكن إيريك زمور بحاجة لأية اعتداءات إرهابية حتى يصبح عنصريًا، فهو يدَّعي منذ أكثر من عشرين عامًا أنَّ المهاجرين سيقضون على فرنسا – علمًا بأنَّ والديه مهاجران.

السؤال ليس: ما الذي يصرخ به إيريك زمور من جديد بالضبط، ولكن السؤال: لماذا يستمع الكثيرون له؟ وكيف خطرت على بال سياسي يساري مثل جان لوك ميلينشون في شهر حزيران/يونيو 2021 فكرةُ الثرثرة بشكل تآمري مدَّعيًا أنَّ الهجمات يتم استحضارها فجأة من أجل تهميش المسلمين وإيصال اليمينين إلى السلطة. وكأنَّ الحلّ الوحيد الموجود لدى اليسار الفرنسي كجواب على مشكلة الإرهاب الإسلاموي هو التقليل من شأنه.

وإذا وثقنا في رأي ميشيل فيفيوركا، فقد بدأت تتشكَّل حركةٌ مضادة قوية مناهضة لإرهاب الشعبويين. وتحديدًا في صالة المحكمة. يقول ميشيل فيفيوركا: “تبيِّن محاكمة شارلي إبدو في الشتاء الماضي والآن محاكمة باتاكلان أنَّ بإمكاننا الردّ على الإرهاب بشكل بنَّاء وكدولة قانون”.

فقد احتلت في كلتا المحاكمتين أقوالُ الناجين وأقارب الضحايا مساحة كبيرة – “بحيث أنَّنا بتنا نشعر أخيرًا بمعاناة الضحايا، وهو أمر لم يكن من الممكن تصوُّره قبل خمسين عامًا”.

وعلى الرغم من أنَّ المحاكمات لا يمكنها أن تشفي الجراح الكبيرة – بإمكانها أن تساعد من جديد في إذابة الجمود الناشئ. وذلك من خلال منح المجتمع الفرصة، من خلال التوعية وإعادة البناء، لفهم ما أصابه في الواقع، وما يصيبه من جديد.

قنطرة/  زود دويتشه تسايتونغ

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

gray tombstones on cemetery Previous post مقبرة إسلامية للدفن بمقاطعة خيلديرلاند الهولندية
faceless lady with notebook and laptop on floor at home Next post دليل الصحفيين أثناء السفر