شبحٌ ينتاب العالم – شبح الفاشية الجديدة

Read Time:4 Minute, 24 Second

جلبير الأشقر

شبكةالمدارالإعلامية الأوروبية…_قبل قرن وثلاثة أرباع، بدأ ماركس وإنغلز بيانهما الشيوعي الشهير بعبارة رنّانة شهيرة: «شبحٌ ينتاب أوروبا – شبح الشيوعية». كان ذلك عصر صعود اليسار الأول في أعقاب تجذّر الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر وعلى مشارف الموجة الثورية العظمى التي اجتاحت أوروبا في عام 1848، عام صدور ذلك البيان بالذات. وقد استمرّ اليسار بالصعود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى بلغ أوجّ تجذّره وانتشاره في أعقاب الثورة الروسية التي انفجرت في عام 1917، خلال الحرب العالمية الأولى.
بيد أن المرحلة التاريخية التي تلت تلك الحرب شهدت صعود «شبح» جديد، هو شبح الفاشية الذي ما لبث أن هيمن على قسم هام من أوروبا في الثلاثينيات، قبل أن تحاول ألمانيا النازية أن تفرض نظامها على أوروبا بأسرها بواسطة السلاح. لكنّ هزيمة دول «المحور»، وأهمها إيطاليا واليابان فضلاً عن ألمانيا، قضت على الموجة الفاشية تلك، وأحالت اليمين الأقصى إلى وجود هامشي طيلة عقود. بالمقابل فإن مساهمة الاتحاد السوفييتي الأساسية في دحر المحور الفاشي أعطت نفَساً جديداً للتيار الشيوعي (ليست شيوعية ماركس وإنغلز الديمقراطية الجذرية بالتأكيد، بل «شيوعية» ستالين) لبضعة عقود، انتهت بانهيار المنظومة البيروقراطية الدكتاتورية في شرق أوروبا، وهو ما رمز إليه سقوط جدار برلين في عام 1989.
تزامن ذلك مع هجمة شاملة للرأسمالية بوجهها الأكثر رجعية، متمثّلاً بالنيوليبرالية، أي الرأسمالية الفاحشة القائمة على طفيلية القطاع المالي وعلى تفكيك الإصلاحات الاجتماعية التي تحققت في السنوات التي تبعت الحرب العالمية الثانية. لا بل هيمنت النيوليبرالية على القسم الأعظم ممّا بقي من يسار، لاسيما التيار الاشتراكي، بل وبعض الأحزاب الشيوعية. وترافق كل ذلك مع دخول العالم في مرحلة انتقالية أحادية القطب، تصرّفت خلالها الولايات المتحدة الأمريكية، رائدة الردّة النيوليبرالية، بعنجهية عدوانية دشّنتها بتدمير العراق في عام 1991، ثم كمّلتها بخوضها حرب كوسوفو في عام 1999، وبعدها احتلال أفغانستان والعراق في مستهل القرن الحالي.

هذا وقد ولّدت الأزمة المعيشية الحادة التي أحدثتها الردّة النيوليبرالية، سخطاً اجتماعياً متفاقماً لم يكن ما بقي من يسار قادراً على تجييره ضد النيوليبرالية ومن أجل إعادة وضع العالم على سكّة التقدم ودولة الرفاهية والمساواة الاجتماعية. بل استفادت من ذلك السخط تيارات أقصى اليمين الساعية إلى إحلال العداء العرقي أو القومي أو الطائفي بين قسم من المجتمع وآخر، محلّ العداء الطبقي بين جماهير الشغيلة وأرباب الرأسمالية الفاحشة. وقد تفاقم التجذّر اليميني منذ احتداد أزمة الاقتصاد الرأسمالي النيوليبرالي في عام 2008، مع انتشار نمط جديد من الفاشية يختلف عن القديم بتظاهره باحترام قواعد الديمقراطية الانتخابية، وقد درجت عليه تسمية «النيوفاشية»، أي الفاشية الجديدة.
شكّل انزلاق حكم فلاديمير بوتين في روسيا نحو اليمين الأقصى محطة رئيسية في هذا المسار، بما جعله تدريجياً بطل الصعود النيوفاشي العالمي، الذي شمل بعض دول أوروبا الشرقية، لاسيما المجر التي يحكمها الزعيم اليميني المتطرّف فكتور أوربان منذ عام 2010 (وقد كانت النمسا سبّاقة في مجال صعود اليمين الأقصى)، وكذلك الهند، أكبر دولة ديمقراطية في العالم من حيث تعداد السكان، حيث وصل ناريندرا مودي إلى سدّة الحكم في عام 2014، وتبعه مرادفه الفيليبيني رودريغو دوتيرتي في عام 2016، بل بلغت موجة اليمين الأقصى الولايات المتحدة ذاتها مع اعتلاء دونالد ترامب سدّة الرئاسة بدءاً من عام 2017، وأيضاً أوروبا الغربية مع تشكيل حكومة إيطالية بمشاركة النيوفاشي ماتيو سالفيني في عام 2018.
ولا زال المدّ النيوفاشي مستمرّاً، على الرغم من تعثّر الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي أمر به بوتين بالغاً ذروة تحوّل حكمه نحو أقصى اليمين. فها أن الدورة الأولى من الانتخابات الفرنسية تشير إلى مدى انزلاق المجتمع الفرنسي بدوره نحو اليمين الأقصى، إذ تُظهر نتائج الاقتراع النهائية أن مجموع أصوات اليمين الأقصى (مارين لوبن وإريك زمّور وثالث أقل أهمية) بلغ 32.28 بالمئة في مقابل 31.94 بالمئة ليس لليسار الجذري وحسب، بل لليسار بمفهومه الأعرض ممتداً من التروتسكيين في أقصى اليسار إلى الخُضر في يسار الوسط، مروراً بالحركة التي يتزعمها جان لوك ميلونشون، والحزب الشيوعي، والحزب الاشتراكي. ولا يمكن المبالغة في تقدير خطورة هذه الصدمة التاريخية التي تشهد النيوفاشية الفرنسية تتفوّق في عدد الأصوات على اليسار العريض، بما فيه الأكثر اعتدالاً.
وتكمن المصيبة الكبرى في أن الأحزاب الرأسمالية التقليدية متمادية في السياسات النيوليبرالية التي من شأنها تنفير أعداد متزايدة من الناس. فأمثال الأمريكي جو بايدن والفرنسي إيمانويل ماكرون يلتزمان بالإطار النيوليبرالي، بل يدفع به ثانيهما إلى أقصاه، بما يفاقم سخطاً جماهيرياً يجد سبيلاً إلى التنفيس في التصويت لصالح اليمين الأقصى. فيسعى جهده هذا الأخير لتوجيه السخط الشعبي ضد أكباش فداء، يحتلّ المسلمون مكانة عليا بينهم من الهند والصين إلى أوروبا وروسيا، بل حتى في الولايات المتحدة وإن كان السود هناك هم المستهدفين بالمقام الأول.
يمرّ عالمنا بمرحلة ثانية من صعود الفاشية العالمي منذ تلك التي تفاقمت بعد الحرب العالمية الأولى وتسبّبت بالحرب العالمية الثانية. وإذ كان لا شكّ في أن هاتين الردّتين التاريخيتين معاكستان لمنحى التاريخ البشري طويل الأمد، الذي يسير بجلاء تام نحو الحرّية والديمقراطية ورفع مستوى معيشة المجتمعات، وأن الموجة الجديدة سوف ينتهي بها المطاف بالتالي إلى الهزيمة لا مُحال، بقي لنا أن نتمنّى ألا يتطلّب ذلك المرور بمأساة تاريخية بالغة الحجم على غرار حرب عالمية جديدة من شأنها أن تعيد ما يتبقى من البشر إلى العصر الحجري. وهذا يقتضي أن تتمكّن التيارات التقدمية والثورية الجديدة النامية في صفوف الأجيال الصاعدة أن تنتظم بما يعزّز قوتها، وهو شرطٌ ينطبق بامتياز على المنطقة العربية إذا ما كان للميل المتجدّد الراهن إلى الدكتاتورية اليمينية أن يُدحَر وتتحقق أحلام الشبيبة التي بادرت إلى «الربيع العربي» في عام 2011 والانتفاضات الشعبية التي تلت منذ سنة النشوة الثورية تلك.

الحوار المتمدن

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post وفاة كوميديان الكوميديا غيلبرت غوتفريد
Next post مابين الغزو الروسي والغزوات الأمريكية