قراءة في مسار الجهوية والتهيئة المجالية في بلجيكا:  فلاندرن نموذجا

Read Time:8 Minute, 40 Second

 

 

تقديم

 شعيب عمر
أستاذ الجغرافيا في الأقسام الفلامانية

لن يكون من المستغرب ان تقود سيارتك في بلجيكا من منطقة لاخرى وقد لاتنتبه ان عليك تعديل سرعة سيارتك في نفس الطريق وفي نقطة محددة! الامر لا يعدو ان يكون تغييرا في قوانين السرعة المسموح بها بين منطقتين داخل نفس البلد. منطقة تسمح بالقيادة بسرعة 90 كلم/ساعة بينما منطقة اخرى تفرض المواصلة على نفس الطريق ب 70 كلم/ساعة!
هذا الواقع يجمل مستوى التطور في تدبير خصوصيات مجالية وفق حاجيات محلية في بلد يمثل نموذجا نادرا في تدبير الاختلافات السوسيوثقافية وارتباطها بالمجال. فقد تطورت بلجيكا من بلد مركزي التدبير منذ الاستقلال عن التاج الهولندي سنة 1830 الى بلد فديرالي يتسم باللامركزية خلا ل 20 سنة فقط. الإصلاحات السياسية الكبرى لسنوات السبعينات قادت البلد الى صياغة مجموعة اصلاحات دستورية وادارية كبرى لاحقة هي التي أسست للوضع الحالي. والفديرالية هي بنص الدستور وكل الاصلاحات التي تمت احترمت مبدأ التنصيص على النظام الفديرالي كطريقة للحكم ووسيلة للتدبير والتسيير.
في اطار نقاش الجهويات الموسعة تحاول هذه الورقة اعادة استقراء مسار تجربة الجهات في بلجيكا من باب التهيئة المجالية كمساهمة متواضعة مختصرة في تقريب تجربة هذا البلد بشكل عام وفلاندرن بشكل خاص.

تاريخ وخلفيات نشوء الجهوية في بلجيكا
خلف الاستقلال عن التاج الهولندي احداث دولة تتجاذبها قوميتان: أغلبية من الفلامانيين في الشمال وهي قومية جرمانية وأقلية من الوالونيين اللاتين في الجنوب. لأسباب اقتصادية  مبنية على غنى الجنوب بخامات الفحم وظهور ملامح الثورة الصناعية خلال النصف الثاني من القرن 19 استطاع الوالون الناطقين بالفرنسية السيطرة على مقاليد الحكم في مقابل الأغلبية الفلامانية الناطقين بالهولندية. لسنوات طويلة ظلت العلاقة بين المجموعتين غير متساويتين حتى مع فرض اللغة الهولندية كلغة رسمية سنة 1873. مع نهاية الحرب العالمية الأولى وتوقيع معاهدة استسلام الألمان في فيرساي سنة 1919 حصلت بلجيكا من المانيا على اراضي شرق البلاد تعادلي حوالي 900 كلم مربع تدعى الكانتونات الشرقية. من المهم الاشارة الى ان هذا المعطى نتج عنه ظهور مجموعة لغوية  إظافية هي مجموعة الناطقين بالألمانية بمحاذاة الحدود مع ألمانيا وان كان عدد سكان هذه الكانتونات لا يتجاور 80 الفا.
استمرت المطالب الفلامانية في عدالة أكبر على مستوى الحقوق السياسية واللغوية حتى اندلاع ازمة كبيرة وعاصفة بمدينة “لوفن” حاضنة اكبر جامعة بالبلد وهي القضية المشهورة  بشعار “والن بويتن” Walen buiten  أي اطردوا الوالون. الأزمة خلفت ردود افعالية سياسية كبيرة ادت للتفكير وطرح أول واهم اصلاح دستوري للدولة تلته لاحقا مجموعة من الاصلاحات الدستورية المهمة.
– الأصلاح الأول لسنة 1970: اعتبر بداية الانتصار الكبير للفلامان وترجمة لقوتهم الاقتصادية الكبيرة بالمقارنة مع فقر الجنوب بسبب افول عهد الفحم الحجري. فقد أقر الاصلاح بوجود ثلات مجموعات لغوية-ثقافية مما اعتبر حماية للهوية الفلامانية، لكن بالمقابل اقر بوجود ثلات مجموعات ترابية مجالية وهي الخطوة الأساس في اطار تاسيس النظام الفديرالي واللاتمركز.
– الاصلاح الثاني لسنة 1980: لم تعد المجموعات الترابية ثقافية فقط بل نص الاصلاح على نقل صلاحيات الصحة والمساعدة الاجتماعية. وأصبحت كل منطقة (فلاندرن ووالونيا) تتوفر على حكومة وبرلمان جهويان بينما بقيت مشكلة بروكسل مؤجلة.
– الاصلاح الثالث لسنة 1989: أصبحت بروكسل بموجبه منطقة ذات حكم ذاتي بنفس المكانة الدستورية لفلاندرن ووالونيا. اعتبر الاصلاح تنازلا من الفلامان في قضية بروكسل لكن بالمقابل حصلوا على مزيد من الصلاحيات لتدبير التعليم والأشغال العامة والنقل وبالتالي تعزيزا للحكم الذاتي.
– الاصلاح الرابع لسنة 1993: توج هذا الاصلاح بلجيكا كبلد فديرالي بجهات ذات صلاحيات كاملة منصوص عليها دستوريا. وأصبح البلد مقسما لعشر اقاليم خمسة في الشمال يتبعون جهة فلاندرن وخمسة في الجنوب يتبعون جهة والونيا بينما بقيت بروكسل عاصمة فديرالية لبلجيكا وعاصمة لفلاندرن بينما اختار الوالون مدينة نامور عاصمة للجهة.
– الاصلاح الخامس لسنة 2001: هم تفويت اختصاصات اخرى بقيت فديرالية كالفلاحة والصيد والتعاون الدولي وتمويل الجهات وجزء من تحصيل الضرائب. لكن الاهم في هذا الاصلاح هو ما يهم التدبير المجالي والمتعلق بقوانين البلديات والاقاليم التي أصبحت قوانين جهوية  وهو ما يهم هذه الورقة.
– الاصلاح السادس لسنوات 2012 و2014: اهم مافي هذا الاصلاح هو استمرار تفويت اختصاصات اخرى كثيرة منها مايهم الصحة والقضاء وقوانين السير والجانب الاجتماعي والاقتصاد الاجتماعي وسياسة المدينة وجزء من صلاحيات المكتب الوطني للشغل وغيرها.

فلاندرن كجهة

أصبحت بلجيكا بمقتضى الاصلاحات الدستورية المشار اليها دولة فديرالية مبنية مجاليا على ثلات جهات بها عشرة اقاليم و589 بلدية. وتشكل فلاندرن الجزء الشمالي للبلاد بمساحة تقل عن 14000 كلم مربع ويسكنها حوالي 7.5 ملايين شخص ولديها حدود برية دولية مع هولندا وفرنسا وبحرية مع المملكة المتحدة. تتوفر الجهة على 327 بلدية واهم المدن هي انتوربن وغانت ولوفن وبروج وغنك وهاسلت.
تشكل جهة فلاندرن الثقل الاقتصادي الأكبر في البلد فهي تنتج أكثر من 60 بالمائة من الناتج الوطني الخام واهم الانشطة الاقتصادية ترتبط بقطاع الخدمات والصناعة والنقل والفلاحة. يعتبر اقتصاد فلاندرن من اقوى الاقتصادات الجهوية بأوروبا ويعرف نموا مستقرا وبها نسبة البطالة من النسب الاقل اوروبيا حسب احصاءات سنة 2017 (4.1 بالمائة).

مشاكل فلاندرن المجالية

نظرا لارتباط التدبير المجالي بمستوى الاختصاصات التي اقرها الدستور البلجيكي في مختلف مراحل الاصلاح التي تم الاشارة لها سابقا فأن وتيرة تطور هذه التجربة ارتبطت بوتيرة وحجم هذه الاصلاحات نفسها. من المهم الاشارة ان هذه التجربة الجهوية ارتبطت بسياقات قانونية ولكن بالأساس مجالية. بطريقة  أو بأخرى أصبحت فلاندرن تعاني من مشكلة عويصة بدأت مع حدوث طفرة صناعية كبيرة جدا سنوات الستينات. هذه الطفرة خلقت مشاكل وجب التعامل معها والتأسيس على حلول لها ويمكن اجمال هذه المشاكل كالتالي:

  • طبيعة فلاندرن الجغرافية: فهي منطقة تشكل جزءا من الاراضي المنخفظة طبوغرافيا. فأكثر من نصف مساحة الجهة لايتجاور ارتفاعها 10 امتار عن سطح البحر. هذا الوضع الطبوغرافي يجعل اجزاء من المساحة الكلية غير صالحة لنشاط بشري دون القيام باستثمارات كبيرة في البنية التحتية وتأهيلها.
    – مشكل المساحة:  تعتبر الجهة من بين الأقاليم الاوروبية الاكثر كثافة في القارة (470 شخص في كلم2) وهذا المشكل خلق حاجة ماسة باستمرار لمزيد من الارض لاستغلالها اما للسكن او لإقامة مشاريع اقتصادية. هذه الحاجة الماسة للعقار أدت لشح كبير ة وهو ما ادى لدق ناقوس الخطر وضرورة التدخل لتدبير المجال الترابي بشكل عاجل. فالعديد من الدراسات المنجزة اكدت انه وبدون تدخل لمعالجة هذا المشكل سيكون من الصعوبة الحديث عن تطور اقتصادي على المدى البعيد وضمان بقاء المستثمرين المحليين او الدوليين في بيئة لاتوفر امكانيات التوسع او توفر عقارات عالية التكلفة.
    – ارتفاع مستوى التمدين: من الأشياء المثيرة لدى البلجيكيين عموما هو الرغبة في الحصول على سكن فردي وهو يعكس البعد السوسيوثقافي في مشكلة تدبير المجالات الترابية. هذا الواقع السوسيوثقافي ارتبط بالتطور الاقتصادي الذي سمح لفئات كبيرة  من الطبقة الوسطى الخروج من حيز المدن الضيق والسكن الجماعي في عمارات  وتجمعات الى البحث عن سكن فردي او بناءه على اطراف المدن. هذه الظاهرة التي تميز سنوات السبعينات من القرن الماضي شكلت ضغطا مستمرا على الوعاء العقاري المتوفر والمحتمل. كما خلق هذا الوضع ضغطا كبيرا على برامج السكن الاجتماعي الذي تعمل عليه البلديات التي هي من مسؤولياتها المحلية.

التخطيط المجالي

قبل سنة 1962 لم يكن هناك سياسات مجالية للحديث عن مخطط مجالي. فقد عرف ما قبل هذا التاريخ تشتتا في القرارات. فالبلديات هي التي تحدد طبيعة المجال الذي يدخل تحت سلطتها الادارية وحتى الأفراد لم يكونوا ملزمين باتباع أي ضوابط  كالبناء في اماكن غير صالحة طبوغرافيا للبناء (مناطق معرضة للفيضانات ) او غير صالحة لأسباب جيولوجية (ستراتيغرافيا غير مستقرة) وهو ما ادى لنمو غير مراقب في التمدين. هذا الوضع ساهم في استفحال نتائج سلسلة من كوارث الفيضانات وبشكل خاص كارثة سنة 1953 التي خلفت خسائر جسيمة بشريا واقتصاديا.
في سنة 1962 صدر قانون بناء المدن Stedenbouwwet لكل التراب الوطني البلجيكي، فحدد لأول مرة عبر مخطط عام مألات استعمال الوعاء العقاري. فقسم بذلك المجال الترابي حسب نوعية الأنشطة التي من المسموح القيام بها. فظهرت بشكل مهيكل مناطق للسكن واخرى مخصصة للنشاط الصناعي والفلاحي ومناطق للترفيه ومحميات طبيعية لايسمح استغلالها لأي نشاط.
كان لهذا القانون هدفين أساسين :
– الهدف الاول :الحد من القرارات المتضاربة التي تتخذها المجالس المحلية مع توالي هذه المجالس المنتخبة.
– الهدف الثاني: اعداد الأرضية المجالية لإعداد مخططات تهيئة جهوية Gewestplannen ومناطقية Streekplannen ومحلية .Gemeentelijke plannen

بدأ تطبيق التخطيط المجالي فعليا في فلاندرن مع التغيير السياسي الكبير الذي عرفته البلاد مع الاصلاح الدستوري الأول واقرار نظام الجهات سنة 1970. هذا الاصلاح فقط هو الذي وفر الارضية القانونية لتقديم أول مخطط جهوي للتهئية الترابية. المخطط كان تحيينا لقانون 1962 في أهدافه لكنه كان اكثير دقة فيما يخص تحديد مجالات التعمير والاهم من كل ذلك ان المشروع بدأ وظل مستمرا وتم تحيينه حسب متطلبات التنمية الجهوية اعتمادا بالاساس على مخططات اصغر مناطقية streekplannen وبلدية او محلية BPA. وتوج هذا المشروع عبر تفويت هذا الاختصاص كلية للجهات عبر الاصلاح الدستوري الثاني لسنة 1980 . الشيء المثير في هذا المخطط ان السلطات المحلية وبشكل خاص البلدية تملك هامشا واسعا للتقرير حسب الحاجيات المحلية حول مصير وعائها العقاري وكيفية التصرف فيه دون المس بالخطوط العريضة للمخطط الجهوي. كما ان المواطنين يستطيعون ابداء اراهم في المخططات المحلية BPA من خلال حق الاعتراض على المشاريع المزمع إنشاؤها بشكل فردي او جماعي وابداء الملاحظات او اقتراح تغييرات عليه. هذا الجانب هو الذي شجع على المشاركة المدنية في تفعيل المخططات من جهة ومن جهة أخرى أصبحت المجالس المنتخبة مجبرة على التعامل مع الشكايات او الملاحظات او حتى مواجهة دعاوي قضائية.
بالنسبة للمخططات المناطقية فقد صارت اكثر حضورا من قبل وفرض واقع الامر على اكثر من سلطة محلية (مجموعات بلديات تشترك في تهيئة مشروع مثلا) حدا ادنى من التنسيق القانوني والميداني وبالتالي فرض تدبيرا اقل بيروقراطية وأقل تكلفة  وأسرع انجازا.
في سنة 1997 أصبح بمقدور فلاندرن الإعتماد على “منظور جديد” للتهئية المجالية مرتبط بالحاجيات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لفلاندرن. هذا المنظور الجديد تم تقويته سنة 1999 عبر ما يعرف ب RUP’s  وهي مخططات مستقبلية  فرض على جميع البلديات التوفر عليها واعطيت بها مهل محددة من اجل اعدادها. هذه المخططات تميزت بتحيين الحاجيات المحلية المبنية على دراسات مستقبلية لهذه الحاجيات. هذه التطور كان اعلانا عن نهاية لمخططات BPA القديمة وأصبح المخطط الجهوي ابتداء من سنة 2000 مبنيا على توقعات العام 2050.
الشيء الجديد في هذا المنظور هي انتاج مخططات مجالية مبنية على تنمية مستدامة تضمن حقوق اجيال المستقبل لذلك تم التركيز على اعادة تقييم الوعاء العقاري والاستفادة من الوعاء المهمش كأحواض صناعة السفن القديمة او المجمعات الصناعية المهجورة واعادة تهيئة المناطق المعرضة للفياضانات والتشديد على حماية المناطق الخضراء والمحميات الطبيعية.
ونظرا لموقع فلاندرن دوليا كمنطقة اتصال وحلقة وصل مهمة بين جنوب اوروبا وشمالها ومنطقة عبور نحو الجزر البريطانية، فقد ارتأى المخطط تهيئة الجهة اخذا بعين الاعتبار لهذه العناصر الدولية. فمحطات القطارات الدولية وتطوير شبكات النقل البرية والسككية يرتكز تطوريها على هذا المعطى الجغرافي.

خلاصة

مايميز تجربة فلاندرن في مجال التهئية الترابية انها ارتكزت على معطيين اثنين،
– الاصلاحات الدستورية والسياسية هي التي وفرت لها ارضية التطور والتطوير. فلم يكن من السهل الانتقال من تدبير مركزي القرارات الى تدبير اكثر عصرنة مبني على النظام الفديرالي.
– التطوير والتحيين المستمر لسياسات التهيئة الترابية عبر الاعتماد على حجم الحاجيات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. هذه الدينامية المستمرة في الموازنة بين الحاجيات والموارد أفضت في اخر الامر الى  ضرورة مشاركة المواطن في اطار التدبير والتسيير المحليين وهي ميزة لا تتوفر في كثير من الديمقراطيات حتى العريقة منها او على الأقل في دول اوروبية جارة لبلجيكا.

 

شعيب عمر
أستاذ الجغرافيا في الأقسام الفلامانية
https://www.facebook.com/oualdh.chaib

 

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post “البحوث الفلكية”: 11 أغسطس كسوف جزئى للشمس لن يشاهد بالوطن العربى
Next post بومبيو وأوغلو يبحثان ملفات مشتركة حول سوريا والناتو