غموض الحالة التركية والقطرية، هل يبشر بمحور مختلف؟

Read Time:11 Minute, 27 Second

الدكتور بلغيث عون

شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_ محور مختلف”، عبارة تعني لدينا محور معافى في الوقت نفسه من ذل العمالة ومن مرض القتل الإيديولوجي والطائفي. فإذا كان أملنا منقطعا أصليا من السعودية ومصر ومثيلاتهما من الملتزمين بأمن إسرائيل، وكان أملنا قد خاب نهائيا في إيران وما لف لفها ممن لوثت أياديهم بالدماء، فإن تركيا وقطر تمثلان حالة تستلفت النظر: كلاهما ملتزم بهم المقاومة وكلاهما لا يجد حرجا في ثورات الشعوب وحريتها. ما يشجع على القول بإمكان جدي لمحور مختلف هو الصعوبات الحائلة دون انخراطهما في أحد المحورين آنفي الذكر، وهو مجمل ما يصفه المقال في جزئه الأول: فتركيا وقطر صاحبتا الدعم المشهود لغزة وللمقاومة يتخذان دوما المسافة الفاصلة مع البعث الإجرامي والسلوك الإيراني في المنطقة. لكنهما أيضا على علاقاتهما مع الغرب، لا يحظيان بالرضا الأمريكي والصهيوني وتدبر ضدهما المؤامرات لدعمهما المقاومة.ثمة فقط تساؤل مشروع عن واقعية هذا المحور وفاعليته. وها هنا علينا أن نميز بين الوجود المنطقي والوجود الواقعي: فهذا المحور المختلف، بمجرد تحديد سماته هو موجود لا محالة منطقيا، وهو محور ثالث مؤكد. ولأن الوجود المنطقي ليس الوجود الوهمي بل الدرجة الصفر والبذرة اللازمة للوجود الفعلي، فإن الإمكانية مفتوحة لتفعيل ميداني لهذا المحور، إذا التأمت أسباب واقعية، منها ما يستوجب مراقبته وترقبه، ومنها ما يستوجب الاضطلاع به وبذل الجهد لتحقيقه.

مقدمة :

على خلاف المحاور الواضحة المأمركة المتصهينة من جهة (محور لا تخفي السعودية والإمارات أساسا انتماءهما إليه)، و”الممانعة” (التي تدعيها إيران وحلفاؤهما) من جهة ثانية، فإن الحالة التركية تماما كما الحالة القطرية تثيران الكثير من الصعوبات لفهمهما. فتركيا ذات العلاقات التاريخية بالكيان الصهيوني، هي عينها تركيا ذات الصيت في دعم القضية الفلسطينية والمقاومة وثورات الشعوب العربية. أما قطر ذات العلاقات التي لا تخفيها مع أمريكا (التعاون العسكري خاصة)، فهي عينها قطر التي تخاض ضدها كل أنواع الحروب الخليجية لدعمها المقاومة والثورات العربية للشعوب. إنه لأمر مثير لسؤال جدي عما إذا كانت تركيا وقطر تفتحان أفقا (إن لم يكن عمليا على المدى القريب) لمحور مختلف ينتمي للشعوب ومقاومتها (على خلاف محور العمالة واضح الخيارات) تماما كما يحترم الحدود الأساسية لإنسانية الإنسان العربي ويمنح الكلمة للشعوب (على خلاف محور الدمار “الممانع”).

1 – غموض الحالة التركية

محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا كشفت بوضوح عن عدم الرضا الغربي عن تركيا، القوة الناعمة التي تنمو بعيدا عن الإرادة الغربية. لسان الحال يقول بلا ريب أن تركيا ليست مضمونة الإنماء للمحور الأمريكي. كشفت هذه المحاولة أيضا عن حقيقة الوعي الغربي، الأمريكي رأسا بالديمقراطية وحدودها. فتركيا الدولة الديمقراطية الراسخة أقدام حكامها في الانتخابات بعد تولي حكم العسكر (غير الديمقراطي)، تشهد إحدى أكبر المكائد المعاصرة وأعتى المحاولات الانقلابية عسكريا.كشفت المحاولة عن أن معيار الديمقراطية لدى الغربيين ليس هو بالضبط القبول بالتداول على السلطة عبر “الصندوق”. قد يجوز القول حتى أن هذا هو الشكل غير المطلوب دائما. المهم في الديمقراطية (وهو أرسخ من الانتخابات) أن تخدم المصالح (من ثمة كانت مساندة الانقلاب المصري مثلا الذي لم يوصم على استبداده غير المسبوق بالكارثة على الديمقراطية / بالمقابل فإن الصحف الغربية انهمرت دموعها على نهاية الديمقراطية في تركيا بسبب “المشاهد الدموية” للإقالات والإيقافات التحفظية على خلفية الانقلاب). “الديمقراطي” هو بالضبط في الوعي الغربي ‘الموظف الصالح” لدى المصالح الكبرى للغربيين.هكذا كان يفترض أن تكون مهمة “حزب الرفاه” ف”الفضيلة” منذ المرحوم أربكان ثم أردوغان الذي واصل المسيرة تحت مسمى “العدالة والتنمية”. وجه “الموظف الصالح” لم يكن غائبا تماما بحسب التقييمات الغربية رغم التوجسات الشديدة في البداية من “حزب إسلامي” بما تعنيه العبارة من راديكالية ومن عدوانية دفينة تاريخيا وإيديولوجيا تجاه الغرب. العلاقة المقبولة مع الكيان الصهيوني وإحجام حزب العدالة والتنمية عن أي إجراءات تمس “الجوهر العلماني” للدولة التركية ثقافيا (فنون وتربية وتعليم..) وسياسيا (قوانين وهياكل أمنية وعسكرية..) وغير ذلك، زرع الكثير من الطمأنينة إلى الديمقراطية التركية. غير أن التخوفات الغربية القائمة أصلا تأكدت من خلال الدعم المتواصل للقضية الفلسطينية (أسطول الحرية وحادث السفينة مرمرة؛ الضربة القاصمة التي تلقتها الموساد في تركيا مع رئيس المخابرات الذي عرف بالمعادي للكيان الصهيوني وللتطبيع مع “إسرائيل”..)، والشروع في إجراءات داخلية تمس التشريعات الخاصة بالحريات العامة (السماح بالحجاب..) وهياكل الدولة، والموقف المساند للشعب السوري والمعارضة والمصر على إزاحة حزب البعث الإجرامي من المشهد السوري بما لا يتفق والمصالح الغربية والصهيونية أساسا (الموقف الغربي والموقف الصهيوني يتخوف من “إمارة إسلامية” لذا يتمسك بنظام البعث: تراوح الموقف الصهيوني بين التزام الحياد والانتظار وبين التخوف من سقوط النظام كما عبر عاموس جلعاد عن كون سقوط بشار كارثة على إسرائيل وعبر مسؤول ثان عن أن بشار على خطى أبيه لم يعاد “إسرائيل” وبين إعلان الدعم للنظام كما ظهر في تصريح الفنان جمال سليمان في 2011 بعد لقاء بشار أن إسرائيل متمسكة بنظامه وأن تدخلا كما في ليبيا لن يحصل، ثم التصريح الأخير لليبرمان المعبر عن ارتياح لعودة حكم بشار). يضاف إلى كل ذلك الشخصية الصلبة التي أظهرها الأتراك ورمزهم أردوغان في غير ما مناسبة (في الحوارات مع الإتحاد الأوروبي – في دافوس..). ثم التقارب التركي-الروسي الذي كشف عن سياسة منفردة تتخذها تركيا، وأنها إذن لكل هذه الأسباب ليست “الموظف الصالح” المرجو.على هذه الأسس فإن حكماء “محور المقاومة” لا يجرؤون منذ محاولة الانقلاب على أن ينسبوا لأردوغان صفة العميل أو هو لا ينتمي بشكل واضح لمحور العمالة. لذلك فهم قد حللوا الانقلاب في تركيا بغضبة “محور العمالة” من تقارب أردوغان مع “محور المقاومة” وخاصة “روسيا المقاومة” وأن الانقلاب إذن يقصد به “محور المقاومة”. قيل آنذاك حتى أن إيران هي التي أفشلت الانقلاب وأعلمت المخابرات التركية به (تبين من بعد أن الأمر تركي خالص، وقد ظهرت الحيثيات ولم تعلن إيران عن موقف إلا بعد انقضاء الأمر وفشل الانقلاب. أما في اللحظات الأولى فقد علقت الرحلات إلى تركيا ومنها وانتظرت بلهفة الحسم؛ في حين أن “روسيا المقاومة” قد طرحت من البداية في أحلك لحظات الانقلاب فكرة “اللجوء السياسي” على أردوغان مساهمة في إنهاء حكمه؛ وأما النظام السوري فلا أحد ينسى البهجة العارمة التي أفقدته صوابه). كل ذلك تم قلب صورته في وقت سريع والاستعاضة عن عناصره الكريهة بعناصر جديدة وإخراجه كرد على الانقلاب. المهم أن أردوغان يقترب من “محور المقاومة”، وأنه لا يخدم المصالح الغربية-أساسا الأمريكية بشهادات “حكماء المقاومة”.أكثر من ذلك قرأنا لمحللين شهيرين أنهم كانوا ينتظرون من أردوغان أن يعلن عقب الانقلاب (وأن يتخذ مجلس الأمن القومي التركي المنعقد آنذاك) قرارات حاسمة وواضحة للانضمام إلى “المقاوم” بشار و”المقاوم” بوتين وحتى “المقاوم” السيسي.. كان يشاع أن أردوغان لهكذا توجه جديد، ولكي يوطد حكمة (وقد تخلخل جانبه الأمريكي والأوروبي)، سيمد الجسور مع مصر (بما يعني أن يشرع في تلطيف الخطاب مع السيسي وأن ينسى الانقلاب العسكري في مصر) ومع سوريا (وأن يحول بشار إلى “حمل وديع”)، إلخ.لكن أردوغان ذكر بعدها مباشرة في كلمات ثابتة بالانقلاب العسكري المصري وبجرائم السيسي المنقلب على رئيس شرعي، وردد في أكثر من مناسبة برابعة التي حولها أردوغان إلى فلسفة / “فلسفة رابعة” كما فسرها في خطابات شعبية. ثم ذكر بجرائم النظام البعثي القاتل الذي “قتل 600 ألف من شعبه ولا زال يقتل” على حد تعبيره، حتى رد بشار البعثي (لهول ما سمع بعد أن أوهموه بأنه سيتقارب معه) آنذاك متهما “نظيره التركي باستغلال محاولة الانقلاب من أجل تنفيذ أجندته المتطرفة”. هكذا لم يفهم الكثيرون كيف يصنفون هذا النظام الغريب الذي يسير في فلك الديمقراطية الغربية وحتى فلك “إسرائيل”، ومع ذلك يحصد أوفر حظ من صفات “الممانعة” و”الديمقراطية” معا على خلاف نظام البعث الإجرامي:

– إذ تخطط أمريكا لقلب نظامه الديمقراطي الصاعد، في حين تحتفظ بإصرار بنظام الإجرام البعثي المتهالك خوفا من “الإسلام السياسي”.

– والذي يدافع عنه شعبه ضد الانقلاب دون أي حماية أجنبية. مقابل ذلك فإن بشار سقط نهائيا بشعبه وحمته الميليشيات الخارجية من العراق ولبنان وأفغانستان كما إيران وروسيا وكلها قوى خارجية.ومن قبل فإن “حكماء الديمقراطية” لم يفهموا كيف يصنفون هذا النظام الديمقراطي الذي مع صفته هذه كشف عن استقلالية واسعة في قراره في الملفات الداخلية والخارجية، وكشف من ثمة أنه ليس “الموظف الصالح” وأنه يتبنى “ديمقراطية رجولية”.

هل ينتمي النظام التركي إذن إلى محور العمالة أم إلى محور المقاومة؟

أردوغان ونظامه يكونان بحسب ما تقدم مربكان لآليات القراءة التي تساوي الديمقراطية عندها الانبطاح والتبعية المطلقة، تماما كما هو مربك لآليات القراءة التي تساوي الممانعة لديها الاستبداد وسحق الشعوب. ولأن تركيا تكشف عن ديمقراطية تستجمع الكثير من عناصر القوة والاستقلالية، وفي المعنى نفسه تكشف عن استقلالية في القرار على غير النمط الاستبدادي وفي تناغم كامل مع الاختيار الشعبي ومع الديمقراطية، فإن أفضل ما يمكن أن نتخذه من قرار بشأن تصنيف تركيا هو كونها تقع في محور غامض المعالم بعد، إذ هي ليست بالتأكيد في محور ممانعة إجرامي ولا أيضا في محور ديمقراطي عميل.

2 – غموض الحالة القطرية

غير بعيد بالمرة عن الحالة التركية التي شهدت محاولة انقلاب عسكرية، فإن قطر تشهد حصارا عنيفا كان يفترض أن يرفق بعمل عسكري للإطاحة بالنظام كليا. لا نطيل في تفاصيل القصة المعلومة للجميع، بل نريد فقط وضع الإصبع على التشابه الشديد بين ما جرى لتركيا وما جرى لقطر من الجهات نفسها المتواطئة هنا وهناك، في كل مرة بتغيير الوجوه المتولية تنفيذ الأجندات. وكما لم تركع تركيا، فإن قطر التي كان ينتظر منها بعد الحصار التاريخي أن تلبي المطالب الخليجية (والتي تطلب جهارا رأس المقاومة في غزة، وكل ما لف لفها من رصيدها الروحي ومخزونها الشعبي، الإخوان المسلمون، ورصيدها الإعلامي، قناة الجزيرة، وسندها السياسي والأمني، دولة قطر نفسها- كل ذلك طبعا تحت يافطة “مقاومة الإرهاب”)، لم تلب شيئا من المطالب المرفوعة لها. في الوقت نفسه فإن قطر المتهمة بحماس وبإيواء الإرهاب هي عينها التي تؤوي قاعدة عسكرية أمريكية في إطار سياسة قطرية واضحة للدولة القطرية التي تعلن بشجاعة ودون سلوك “تحت الطاولة” أنها ليست من القوة لتتحدى أمريكا والغرب، بل فقط هي تفعل المستطاع تجاه المقاومة وتجاه الشعوب. يشتد الغموض أكثر إذا تذكرنا أن قطر التي تؤوي القاعدة الأمريكية هي نفسها قطر التي تؤوي قاعدة تركية ويوجد على أرضها الأتراك الذين عملت أمريكا نفسها التي توجد على نفس الأرض القطرية، على الإطاحة بحكمهم.

3 – تركيا وقطر، وبذور محور جنيني

إن طموح الشعوب إلى محور مقاوم بريء من دم الشعوب ينظر بعين متفائلة إلى تركيا وقطر حيث يجد عناصره الهادئة في تركيا (وموقفها الواضح من حق المقاومة ودعمها الظاهر والمبطن لها) وقطر (التي لا يخفى دعمها الأمني والمالي للمقاومة)، في الوقت الذي تحافظ فيه كل منهما على علاقة متميزة بشعبها وبثورات الشعوب ليست بحاجة للتأكيد، أي على نظافة واسعة لليد من الاستبداد. أكثر من ذلك، فإن تركيا وقطر قد شرعتا بعد في تمثيل هذا الدور الطريف. فإذا كان الانقلاب التركي يعني أن أمريكا غير راضية عن الممانعة الهادئة التي تشكلها تركيا، فإن الموقف الثابت لنظام البعث من تركيا يعني ثبات موقف تركيا من مسألة الحرية والاستبداد. أيضا فإذا كان الاستهداف الشديد لقطر كما بات واضحا يعني أن قطر تشكل ممانعة هادئة، فإن الموقف الثابت أيضا للنظام البعثي الدموي وجماعته من قطر يعني ثبات موقف قطر تجاه قضية الاستبداد.إن الموقع المشكل لقطر يريد كثير فهمه انتقالا من حلف السعودية إلى حلف إيران. والأسطوانة نفسها تعود في كل مرة يتعلق فيها الأمر بالتحالفات. قيل من قبل أن تركيا عقب الانقلاب الفاشل ستدير وجهها للسعودية وتولي وجهها شطر إيران وروسيا وحزب البعث، ولم يكن الأمر كذلك إلا بمقدار. مع قطر كما مع تركيا بالأمس واليوم وغدا لا يبدو أن الحديث عن خروج من حلف لآخر دقيقا إلا بمقدار ضئيل. التقارب التركي الإيراني لا يتوقع منه أكثر مما توقعنا من التقارب التركي الروسي. أفضل تعبير عن مثل هذه العلاقات كونها في كل مرة “محدودة”، بمقدار”، ضئيلة”…كيف نفهم ذلك؟سر التحاليل “العبقرية” التي تلقي بتركيا كما بقطر، حينا في هذا الحلف وأحيانا في ذاك، يكمن بلا ريب في الصورة (الواقعة لا محالة) للأقطاب أمريكا/روسيا، إيران/السعودية.. لكن الضعف الكبير أيضا لهذه التحاليل يكمن في السقف الدنيء للتفكير بحسب واقع الحال الذي بات متحكما، ويرغمنا على القبيح والأقبح، ويكمن أيضا في الجهل الكبير بالخيار الأوسع للشعوب والذي ليس إيرانيا ولا سعوديا. واضح تماما أن تركيا وقطر لا ينظر إليهما بعين الرضا من هذا الحلف أو ذاك وأن خصائص جنينية مختلفة لقطب ممكن تقع هنا لجهة تركيا وقطر.

4 – المحور الجديد بين الواقعية والمثالية

السؤال الذي يقفز على الفور هو بالتأكيد المتعلق بمدى واقعية الحديث عن محور يجد بذوره في تركيا وقطر. فقطر وتركيا ذواتا مصالح لا تحصى مع أمريكا خاصة. إضافة إلى أن الحجم الديمغرافي والعامل الجغرافي يحول دون بناء قطب ممكن. ثم إن هذا القطب تتداعى عليه الأيدي كما الأكلة على قصعتها. فنجاح التجربة التركية يعني التضاعف المستمر لخطورتها بالنسبة للعالم الغربي وتضاعف المكائد لها مثلما رأينا مع محاولة الانقلاب الفاشلة. ثم إن الديمقراطية التركية مرتهنة لمواصلة الثقة فيها لنجاح واسع للإسلاميين في تجاوز حزبيتهم ونشر “ديمقراطية الجميع” (إحساس الجميع بوجودهم السياسي والمالي والإيديولوجي) بدل “ديمقراطية الجماعة”، وهو ما تطرح بشأنه دائما الأسئلة حتى داخل الحزب الحاكم. لكل هذه العوامل فإن الديمقراطية التركية نفسها محاطة برعب محدق يدفع إليها أو يبعد عنها. ومع هذا الوجه القاتم للتاريخ فإنه وإن تعذر عمليا وفي المدى المنظور بناء قطب حقيقي ضد الإمبريالية، لا نحرم مع ذلك معرفة شروطه المنطقية على مدى مفتوح: فإذ لا إمكانية لقطب حقيقي إلا حيث تمنح الكلمة للشعوب، وحيث يوضع الإنسان وحقوقه في المقام الأول، وإذ لا معنى للمقاومة إلا المقاومة العادلة ونظيفة اليد، وحيث أن تركيا وقطر تمسكان بهذه الأطراف للمعادلة، فإنه، من الناحية المنطقية الصرفة، يمكن التأكيد أننا بصدد قطب مختلف هو الأفضل بالنسبة للشعوب، وأن العمالة السعودية الإماراتية المصرية، تماما كما الإجرام الإيراني البعثي مجرد غبار يثور على جنبي الطريق ذات اليمين وذات الشمال. ومعنى كون هذا المحور منطقيا قائم كونه خانة موجودة لا محالة لمن يملؤها حتى وإن تعثر بناؤها قريبا. بقي أن التحقق الفعلي لهذا المحور لا يمكن التنبؤ به إلا بعد مزيد من الأحداث تتم متابعتها ورصدها باستمرار. فتركيا الراهنة تماما كما قطر الراهنة لا تتوفر فيهما بشكل مريح شروط هذا المحور، كلاهما تقع في مهب تجاذبات عنيفة.ولأن الغموض وضع طريف في الفلسفة المعاصرة خصوصا لدى ميرلوبونتي وريكور وآخرون (إذ هو يخفي ولادة ممكنة) فإننا نترك التساؤل مفتوحا عما إذا كان سيسفر الغموض التركي القطري عن محور جديد هو محور”الممانع العدل” أو، والمعنى نفسه، “الديمقراطي القوي”، الأمل الفعلي للمستضعفين في الأرض.

خاتمة

الوضع الفريد لتركيا وقطر بين اليد الممتدة للمقاومة والأخرى الممتدة لكرامة الشعوب وحريتها، جعلنا نتساءل عن مستقبل ممكن لمحور هو نظريا قائم لا محالة ويفتقد إلى تفعيل مرتقب، محور “الممانعة العادلة والنظيفة”. السؤال العالق طبعا هاهنا هو المتعلق بواقعية هذا المحور الممكن. وإذ لا نستطيع أن نقول الكثير بشأن هذا المحور تكهنا ولا تخطيطا من موقع المراقب البسيط، فإن لنا مع ذلك أن نشدد على أن الحرب التي تخاض ضده من الأطراف المختلفة دليل على تباينه مع الجميع وكونه حاصل على الحدود الدنيا للمحور. وذلك بحد ذاته مكسب طريف، ليبقى السؤال عن كيفية تنسيق الجهود لتفعيل هذا المحور المختلف في الساحة العربية والدولية.

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post تعاظم الدور الصيني في إفريقيا: الدوافع والتحديات
Next post الاقتصاد الجزائري والتنويع