Read Time:9 Minute, 30 Second

عمار أحمد الشقيري

شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_  عندما كان الأركيولوجي والمبشّر الاسكتلنديّ ديفيد لفنغستون تائهاً يكتشف منابع النيل، بين 1866 و1871، لصالح المملكة المتحدة، كان البريطاني الآخر جورج سميث يستعدّ للذهاب في رحلةٍ مدفوعةٍ بنيّة وتمويل إمبرياليّ إلى العراق، إذ لم تكتف المملكة بالـ 100 ألف كسرة التي بعثها كل من هنري لايرد وهرمزد رسّام من بلاد ما بين النهرين. كان الصراع يحتدم؛ رسّام يُنقّب لصالح القنصل البريطاني هنري رولنسون، والقنصل الفرنسيّ فكتور بلاس يُنقّب بنفسه لصالح متحف اللّوفر، وكانت ساحة الصراع في تلّ “قيونجيك” في نينوى حيث قسّمت المناطق إلى نفوذين لتجنب الصراع.بعد نهاية الرحلة سيكتب سميث مغامراته في “الاكتشافات الأشوريّة” عام 1875: “وقد جعل سميث كتابه على شاكلة كتاب هنري لايرد الأكثر رواجاً “نينوى وآثارها”، حيث صاغ حديثه عن التنقيبات وفقاً للأنماط الرائجة لأدب الرحلات وحكايات المغامرات الإمبريالية، وبهذه العملية جعل سميث من نفسه لصّاً يُغير على الفُلك المفقود”. وكان ذلك وصف رئيس قسم الأدب المقارن في جامعة هارفرد ديفيد دامروش. خلال عرضه ملحمة جلجامش في كتاب بعنوان بين الركام.كان ذلك في أربعينيات القرن التاسع عشر، لكن منذ أوائل القرن العشرين، بين 1903 و1905 أخذ الأميركيون زمام المبادرة بالتنقيب في العراق، والسرقة أيضاً. مزيحةً من واجهة المشهد كلاً من فرنسا وبريطانيا مع بقائهما على أيّة حال.كان لا بدَّ من هذه المقدمة قبل الدخول في كتاب Catastrophe! The Looting and Destruction of Iraq’s Past الصادر عن متحف المعهد الشرقي – جامعة شيكاغو 2008، والذي أعده مدير المتحف جيف امبرلينغ، والباحثة من نفس الجامعة كاثرين هانسن، وترجمه عبد السلام صبحي طه ونادية عبّاس البغدادي، فيما قام بمُراجعته د. عبد الأمير الحمداني. وصدر بعنوان الكارثة: نهب آثار العراق وتدميرها، عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر في تموز/ يوليو 2017.من بين الأرقام والحوادث المرعبة التي يعرضها الكتاب، والواقعة بين 1991-2003، يجري الكتاب بمجمله؛ يعرض الكوارث التي حلّت بمتاحف العراق، وأماكن التنقيب غير الشرعيّة، وسوق الآثار المسروقة، والمتواطئين حكوماتٍ وأفراداً ومؤسسات، لكن مع تلميعٍ لصورة السارق في أحيان كثيرة ودوره المزعوم في الحفاظ على هذه الآثار. يُمكن الحصول على خلاصة مختصرة حول من يقف وراء عمليات نهب متاحف العراق، ومناطق التنقيب الأثريّة. لم تصرّح بها بعض مداخلات الكتاب، فيما صرّحت مداخلات أخرى علانيّةً. الخلاصة الأولى تتعلق بسكوت الجيش الأميركيّ عن عمليّة النهب للمتحف الوطني العراقيّ في 2003، وتأخر الجيش، على الرغم من علمه المسبق بخطر النهب، في حماية المتحف. الخلاصة الثانية، تعاون علماء وأكاديميين وتجّار أميركيين، بالإضافة إلى جامعات، مع لصوص ومنقبي آثار غير شرعيين.

العلوم تشارك في النهب 

تقارن البروفيسورة الأميركيّة اليزابيث سي. ستون من جامعة ستون بروك، في مشاركتها، بين تاريخ المجاميع الأثريّة السطحيّة في كل موقع جرت فيه عمليات نهب في العراق إبان 2003، وبين نوع المنهوبات، لتخلص في دراستها إلى أنَّ مواقع عصور ما قبل التاريخ التي تعود إلى الألف الخامس وبداية الألف الرابع قبل الميلاد، والتي لم تكن تضم: أختاماً أسطوانيّة، ألواحاً منقوشة تماثيل أو عملات لم تكن تثير اهتمام الناهبين؛ لذا تعرضت لمعدلات نهب منخفضة مقارنة مع المناطق التي تحتوي آثاراً من نهايات السلالات الحاكمة المبكّرة، خصوصاً المواقع الأكادية، وبتحليلها تستنج “ستون” أن خمسة من أصل ستة مواقع تضم مواد أكادية تعرضت للنهب الحديث.وتستمر ستون بالقول: “إنَّ فنَّ نقش الأختام الأسطوانيّة قد بلغ أوجه في العصر الأكدي، وبإمكاننا أن نستنتج أنَّ هذا النوع من القطع الأثرية هو الذي يستدعي نهب المواقع الأثرية التي تعود إلى تلك الفترة”. ووفقاً لبياناتها فإنَّ “الفترة التي تعود إليها تجمعات القطع الأثرية في الطبقة السطحية للموقع الأثريّ، لها أثر كبير في احتمالية تعرض الموقع للنهب حيث تتعرض المواقع التي تضم أفضل الأختام الأسطوانيّة (الأكدية) الألواح المسمارية (أور الثالثة وبابل القديمة) وبداية ظهور العملات المعدنيّة (الفرثية والساسانية) إلى نهب أكثر من غيرها من المواقع التي تعود إلى فترات أخرى”.إن ما قدّمته “ستون” هنا يوحي بأنَّ المنقّب غير الشرعيّ على معرفةٍ ودرايةٍ بالتالي: القطع الأثريّة، أماكن وجودها، تاريخها الحضاريّ؛ أي أنَّ من يوجه عمليات التنقيب أو يُشرف عليها لم يكن من الفقراء كما يذهب جزء من الكتاب – مع عدم نفي ظاهرة التنقيب من قبل هذه الفئة.

 لا يمكن شراء التمور يُمكن شراء التحف

تكمن أهمية مشاركة الأكاديميّ مغواير جبسون في الكتاب من خلال إشارتهِ صراحةً للكادر الأكاديميّ والعلميّ الأميركيّ كأحد المشاركين في عمليات النهب والتشجيع عليها داخل العراق؛ إذ إنَّه يعترف من جملة الاعترافات بأنَّ “بعضاً من زملائنا يقدمون المساعدة لبعض التجّار والجامعيين في المصادقة على القطع” المسروقة من العراق، فيما يرصد جبسون ما نُشر في المجّلات والصحف الأميركيّة من مواد كانت تحثّ التجار – في ظل التقلبات الاقتصاديّة في 2007 – على التوجه إلى تجارة الآثار.وقبل فترة الغزو العراقي، بعيد حرب الخليج 1991، يكشف جبسون كيف بعث بنك روما له “كتاباً فخماً” يحوي صور “مجموعة كبيرة من الألواح المسماريّة”. ولعلّ أبرز ما سيقدمه هنا جبسون من إدانة غير مباشرة للحكومات في نهب وتجارة الآثار العراقيّة عقب الحصار الاقتصاديّ على العراق لفتته إلى العقوبات الدوليّة على العراق في تلك الفترة، حيث كان يُمنع شراء أي سلعة من العراق، غير أنَّ كثيراً من التجّار في الولايات المتحدة وبريطانيا والحكومات الأخرى – لم يسمها – لم تتخذ أي إجراء لإيقاف هذه التجارة، حيث “لم يكن بإمكانكم شراء التمور العراقيّة لكنكم قادرون على شراء التحف العراقيّة”. كل ذلك كان يجري وثمة اتفاقيات دوليّة تحرّم الاتجار بالموروث الثقافيّ؛ اتفاقية لاهاي 1954 لحماية الملكية الثقافية في حال النزاع المسلّح، اتفاقية يونسكو 1970 حول سبل منع الاستيراد غير القانوني، التصدير، ونقل الملكية الثقافية.

 المتحف

تفاصيل التسلسل الزمنيّ للأحداث يقدم الآتي: يوم 5 نيسان من 2003 كان أوّل دخول للقوات الأميركيّة إلى بغداد. في 8 من نفس الشهر حصلت مواجهات عسكريّة أمام المتحف الوطني العراقي، فرَّ على إثرها كادر المتحف، وقامت دبابّة أميركيّة بالاستدارة وإطلاق النار على واجهة المتحف. في 10 من نفس الشهر بدأت عمليات النهب، ولثلاثة أيام تواصلت عمليات النهب لحين يوم 12 حين سيطر “أصدقاء المتحف وكادره على الصالات” ووصلت في نفس اليوم وسائل الإعلام. في يوم 16 تقوم القوات الأميركيّة بحماية المتحف أخيراً مع أنَّ المعهد الأميركي للآثار AIA كان قد حذّر من خلال تصريح له لحماية إرث العراق الثقافيّ. وكان ذلك في شهر كانون الثاني/ يناير من 2003.

 النهب المنظّم

يروي المدير السابق للمتحف الوطني العراقيّ دوني جورج تفاصيل ما جرى. بدأت القصّة يوم 10 نيسان/ أبريل، حين دخلت أوّل مجموعة من الناهبين، وفي تفاصيل ما يرويه جورج أنَّ المجموعة كانت لديها معلومات كافية حول التحف التي لها أعلى قيمة ماديّة، توجهوا نحو المخازن تحت الأرض إلى حيث القاصات المعدنيّة والخزائن المقفولة. كانت غنائم النهب 5 آلاف ختم أسطوانيّ ومثلها من المجوهرات، بالإضافة إلى تحف بالغة الأهميّة؛ مزهريّة الوركاء، قاعدة التمثال الباسطكي، تمثال إنتيمينا الذي وجد بعد فترة قصيرة في واشنطن حيث جرت استعادته.وصلت في نفس اليوم مجموعة أخرى، – هنا يُسجّل جورج – طلبه من الدبابات الأميركيّة التي كانت موجودة على مفترق طرق بالقرب من المتحف في ضوء عمليات النهب، حماية المتحف. لم يستجب العسكريون، فاستمر النهب. يقول جورج عن تفاصيل ما نُهب في الجولة الثانية بأنَّه كان يتعلق بالآثاث وحواسيب فقط دون الآثار. غير أنه يُشير إلى أن الجولة الثانية أجهزت على سجلات المتحف، حيث جرى حرقها في وسط القاعات.

 قبل 2003

يمضي الكتاب بمشاركة جون م. راسل، مساعد مستشار ثقافيّ للغزاة بين أيلول/ سبتمبر 2003 وحزيران/ يونيو 2004، وأستاذ فنون بلاد النهرين في كليّة ماسشوسيتس للفنون، ما لفت إليه سابقوه؛ أي اليد الخفيّة في الولايات المتحدة التي تنهب آثار العراق، يقول راسل: “سيبقى هذا الأمر – أن الأسواق الأميركيّة تُعدّ الأهم في بيع المسروقات العراقية من الآثار – يثير العجب في نفسي دائماً، كيف أنَّه في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تفرض أشد أنظمة العقوبات صرامة في التاريخ على العراق (عقوبات صارمة جداً لدرجة أنَّها لم تتضمن الاستثناء المتعارف عليه على المواد الإعلانيّة) في الوقت الذي كانت عشرات الآلاف من الآثار العراقيّة، والتي لم يسبق توثيقها، تُباع علناً في الأسواق الأميركيّة.تُقدم طالبة الماجستير في جامعة شيكاغو كاثرين هانسن، مداخلة متخصصة حول مفهوم السياق الآثاري للقطعة الأثريّة، والذي يُمكن تلخيصه بأنَّه سياق العثور على قطعة الآثار، وأهميّته المعرفيّة، إذ يشمل مثلاً محيط القطعة (حصى – طين – رمل) ووضعها؛ أكان بشكل عامودي أم أفقيّ، إذ يُشكل هذا السياق قصّة القطعة الأثريّة، ويقدم التحليل المطلوب لدراسة التاريخ.في عمليّات النهب، يجري اقتطاع القطعة الأثريّة من هذا السياق، هنا تقدم هانسن كيف تصبح القطعة الأثريّة ذات أهمية جمالية فقط من دون أن تكون لها أهمية أثريّة في عمليات النهب التي تجرى من دون دراسة، والتي تتسبب بضياع معلومات أثرية وتاريخية مهمّة للمنطقة التي تتعرض للنهب.

“الموروث المفقود”

تحتلف الروايات حول القطع المنهوبة من المتحف العراقي، فما بين تصريح المحقق الأميركي في حادثة النهب ماثيو بوكدانوس بأنَّ عدد القطع المفقودة من 12 ألفاً إلى 14 ألفاً قطعة فإنّ رقم مدير المتحف دوني جورج يرفع الرقم إلى 15 ألف قطعة، في حين كانت تقارير صحافيّة ترفع الرقم ليصل إلى 170 ألف قطعة، والتي تُشكل مجموع محتويات المتحف.يصف الباحث في المعهد الشرقي لجامعة شيكاغو وعالم الآثار المختص ببلاد النهرين كليمنز رايشل، هذه التناقضات في الأرقام وتأثيرها على جهود استعادة القطع المسروقة بأنَّها خلقت “اضطراباً لدى الجمهور لفترة، كما أنَّها قلّلت من مصداقيّة المستكشفين الذين يعملون على استعادة القطع المفقودة”.لكن، هل كانت حادثة نهب المتحف العراقي بعيد 2003 هي الكارثة الوحيدة؟ تشير أرقام المعهد الشرقي لجامعة شيكاغو إلى أن ثمانية متاحف من أصل ثلاثة عشر متحفاً في العراق جرى نهبها بعد وقف إطلاق النار في عام 1991، فُقد على إثرها نحو 3500 قطعة. سيكون الرقم ضئيلاً أمام عمليات نهب 2003، لكن ما يشير له رايشل هو ازدهار عمليات التنقيب غير الشرعية عن الآثار خاصة في جنوب العراق إبان 1991، الأمر الذي ساعد على انتشار هذه التجارة في الأسواق العالميّة.   ما تقدمه البروفيسورة ستون سيحمل أرقاماً أكبر بكثير، ففي دراستها للصور الجوية لمناطق النهب من داخل مواقع التنقيب، وعمليات التنقيب غير الشرعيّة، بالإضافة إلى ما دمّره الجيش الأميركي، أثناء إقامته قواعد عسكرية في بابل من خلال عمليات التجريف، يُشير إلى “الملايين من الألواح والقطع الأثريّة الأخرى التي استخرجها الناهبون”.اشتمل الكتاب على ملاحق أضيفت إلى الكتاب الأصلي، شارك فيها عالم الآثار العراقي من الهيئة العامة للآثار والتراث عبد الأمير الحمدانيّ، إذ يعرض الحمداني أكثر المواقع الأثرية العراقية التي تعرضت للنهب، وهي التي تعود إلى الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد بالإضافة إلى مواقع تعود إلى العصرين الفرثي والساساني. ولعل أقدم موقع تعرض للنهب تل أم العقارب. ومن عصر سلالة أور الثالثة والعصر البابلي القديم (أوما) أو تلول جوخا. بالإضافة إلى تل بزيخ (زبالام) وتل شميت. بالإضافة إلى مواقع أثرية تعرضت للتدمير ولم تلق اهتمام الآثاريين (باد – تبيرا) أو تلول المدينة بداية الألف الثاني قبل الميلاد، دورم (تلول جدر) الألف الأوّل قبل الميلاد. وثمة مئات المواقع الرئيسة. وحتى 2008 فإنَّ 67% من المواقع الأثرية في جنوب العراق تعرضت للسرقة.يستمر العراقي عبد الأمير الحمداني في تناول النهب المستمر لموارد العراق في الأماكن الأثرية المتروكة أو التي لم يجر التنقيب فيها للحواضر السومرية، والثاني لمرحلة بعد 2014، عقب دخول داعش إلى مدن نينوى. الملحق الثالث لمحرر الكتاب عبد السلام صبحي طه حول تداول العاديات العراقية غير المشروع في الغرب، يروي فيه أسماء أبرز تجّار الآثار غير الشرعيين، سيظهر بين الأسماء رجل الأعمال الأميركيّ جوناثن روزين، ولعلّ أبرز ما تنقله مشاركة طه هنا اعتراف مدير متحف المتروبوليتان فيليب دي مونتيبلو عند سؤاله عن موضوع السجلات التنقيبيّة والمتحفية للقطع المريبة سيرد دي مونتيبلو: “القرار بضمّ هذه القطع الأثريّة المريبة في عرض “فنون المدن الأولى” ليس عادياً فحسب، بل مُرحب به أيضاً”. بل واعتبر ذلك “فرصة ذهبيّة للجمهور والباحثين؛ نظراً لظهورها من عالم العتمة إلى النور”.

ضفة ثالثة

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post المقام الموسيقي منظومة فنية وعلمية
Next post المطرب محسن فاروق رحيل بدون إنذار