مسارات الانتفاضة الحالية

Read Time:6 Minute, 50 Second

فلاح علوان

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_أبرز ما ميّز الانتفاضة في العراق طوال نحو ثلاثة أشهر، روح التحدي والبسالة المتناهية، حيث قدم الشباب الذين طبعوا الانتفاضة بطابعهم، مئات المضحين وعشرات الالاف من الجرحى ومئات المعتقلين والمختطفين. إنها جسارة الشاب الذي واجه الاستلاب والاغتراب الذي يعيشه منذ أن يفتح عينيه صباحاً ليواجه النهار. وجسارة الانسان الذي لم يعد أمامه ما يخسره. حين وجد الشاب نفسه في بيئة وعالم لا يخصه منه سوى البحث عن عمل دون جدوى، وسوى البحث عن كرامته المهدورة وإنسانيته المغيبة، والبحث عن ذاته المغربة وسط أصحاب المليارات البشعين الذين صادروا ثروته وأكتنزوها، والسياسيين المتحذلقين المنافقين، وأحزاب ومؤسسة دينية حاكمة ومتسلطة تطالبه بالصرامة في السلوك والزهد والفصل بين الجنسين وتحريم كل أشكال المتع وتحرمه من أبسط حاجاته، في حين تتلاعب هي بالمليارات وتتحكم بحياة الناس، وتمارس العربدة والمتع باشد أشكالها شناعة. وأحزاب ومليشيات تهدر الملايين وتستولي على المليارات وتفرض إرادتها بالبنادق، في حين تأتمر هي بأوامر الدول الأخرى وتنفذ إرادتهم خانعة.
ومع الفقر المدقع والسكن في العشوائيات والحرمان من الدراسة ومن الوصول الى الجامعة، والحرمان العاطفي والقتل انعدام الأمان وسيادة ما هو متخلف ورجعي، تجسدت كل هذه الضغوط والمصاعب الحياتية بأشد صورها على حياة الشباب المعدم والطلبة المحرومين والعاطلين عن العمل والمحرومين من السكن، تجسدت بصورة كابوس ثقيل متجبر، فانفجرت كبركان مكبوت شق الصخور الثقيلة الصلبة وأعلن إن باطن الأرض يغلي حمماً وإن القشرة الخارجية تغطيه ولكنها لا تستطيع كبت ثورته الى ما لانهاية. إن كون العراق هو نموذج فرض السياسة الاقتصادية النيوليبرالية بأسوأ أشكالها وأقصاها وما يتطلبه ذلك من فرض نظام سياسي غريب وطارئ ومتهرئ في العراق لتنفيذ تلك السياسات وفرضها على المجتمع وتنفيذ السياسات الرأسمالية بكل بشاعتها ووحشيتها، وتحول جيل كامل من الشباب الى جموع تعيش التهميش والتغريب وبالإفقار أصبح من المنطقي نشوء روح مقاومة ورفض، توازي هذا الحجم الهائل من التوحش السلطوي، فجاءت انتفاضة الشباب بهذه الشراسة والجرأة. ومع البطولة والتضحية والتفاني، برز فريق واسع من الشباب المستقتل، والذي أصبح زخم الاعتصام وإدامة التجمع رهن استعداده للمواجهة ومنع القوات الأمنية من التقدم واقتحام خيم الاعتصام. إن إبعاد القوات الامنية عن جسر الجمهورية والمطعم التركي وبالتالي إبعاد تأثير القنابل الدخانية التي كانت تتقاطر على المتظاهرين، كان يحصل بمبادرة الشباب وإقدامهم، ومن ثم تم فرض التراجع على القوات الأمنية وإبقائها في منتصف جسر الجمهورية، حيث لا تصل القنابل الى الجموع في الاعتصام. إن فهم مجريات الانتفاضة ووقائعها اليومية والطريقة التي تجري بها الأحداث، هو ما يمنح الامكانية لفهم الانتفاضة بعد تحليل الوقائع والأحداث من منظور علمي، ولا يكفي التطرق للشعارات والهتافات واعتماد منظور مسبق عن الظروف العامة للمجتمع والعالم. إن التركيز على إدامة الاعتصام قد أعقبت 25 أكتوبر، فقبل هذا التاريخ كان الوصول الى ساحة التحرير يواجه بالرصاص، بل إن التظاهرات التي انطلقت في 1 أكتوبر قد جرى قمعها بالنار مباشرة، ثم جرى منع المتظاهرين من الوصول الى التحرير وحتى الى ساحة الطيران القريبة من ساحة التحرير، وكانت التظاهرات تدور في مقتربات الساحة، وتواجه بإطلاق النار مباشرة. وفي يوم 2 أكتوبر، انطلقت التظاهرات في الأحياء السكنية الشعبية وخاصة الزعفرانية والشعب وحي أور والثورة والحسينية والمعامل والعبيدي وهي أحياء سكنية تضم الملايين. كان أتساع التظاهرات ليصبح ميدانها الأحياء السكنية، يعني أن تتحول الى انتفاضة وإمكانية ثورة، وسيصبح من المستحيل على قوات مكافحة الشعب والـ سوات والتدخل السريع وحفظ النظام والداخلية والطوارئ أن تستطيع التدخل في الأحياء السكنية الواسعة والكبيرة وتمارس القمع المباشر. ومع توقف التظاهرات لأكثر من أسبوعين ولحين انتهاء زيارة الأربعين واستئنافها في 25 أكتوبر، جرى التحضير لأكثر من سيناريو وتدخل محتمل، ولكن المتظاهرين فاجاؤوا الحكومة وبدؤوا التظاهرات مساء 24 أكتوبر، في حين فاجأت الحكومة الشعب بفتح ساحة التحرير أمام التظاهرات مع تشديد القمع، للحيلولة دون توسع التجمعات الى الأحياء السكنية وبالتالي خروجها عن نطاق سيطرة الحكومة. لقد فرض أسلوب قيادة الاعتصام نمطاً من الحدود السياسية على التظاهرات، فالمبادرة وقيادة المواجهات مع القوات الامنية والتصعيد يقررها الفريق الحازم المتصدي في الخطوط الأمامية، وكون ساحة التحرير هي رمز الانتفاضة في عموم العراق فإن هذا الدور القيادي له أبعاد سياسية مؤثرة وحاسمة ليس على مستوى بغداد فقط بل عموم العراق.ولكن طاقة الشباب وبسالتهم وتفانيهم، مع عدم تنظيم أنفسهم في منظمة سياسية، من الممكن أن تصبح مشروعاً سياسياً بيد قوى سياسية تستطيع التدخل ولعب دور في القيادة والتوجيه، وعلى ضوء المتغيرات السياسية العالمية وتناسب القوى السياسية في الداخل، وهي ترفع نفس شعارات الشباب وإصرارهم على عدم تبني تيار أو خط سياسي معلن، بل وتغذيها بقوة. إن البسالة والشجاعة والتحدي لا تؤمّن الحركة وتصونها من التدخل بل الاستيلاء عليها من قبل قوى سياسية تعمل بحرفنة عالية. أذ ليس من السهل ولا من المنطقي أن تترك إنتفاضة عارمة في بلد مثل العراق من قبل القوى السياسية الطامحة. إن الإصرار على شعار كلا للاحزاب، دون تحديد الاحزاب الحاكمة أو الأحزاب المتنفذة والداعمة للنظام، يخفي داخله العمل على منع تطور تيار سياسي يمثل الإنتفاضة، أو يمثل محتوى الحركة، وبالتالي تبقى جموع الشباب في إطار الشكل الحالي للانتفاضة والقابل للتوجيه حسب مقتضيات توازن القوى.
ذات مرة سألت نقابياً مصرياً وهو من قياديي الحزب الشيوعي المصري عقب الثورة المصرية، “ماهي مرتكزات الطبقة العاملة في مصراليوم”؟ فقال لي ” الثورة” فقلت له “ولكن الطاقة الثورية غير قابلة للتخزين والاستخدام عند الحاجة”، فلم يجبني وواصل الحديث عن الحماس الثوري والشعارات الراديكالية.والحال، إن الخطر اليوم الذي يواجه الطاقة الثورية للشباب، هو ان طاقتهم لا يمكن تخزينها واستعمالها عند الحاجة إذا ما أسفرت الحركة عن حكومة أشد رجعية من الحكومات الحالية. وعليه يجب بناء الوسائل التي تمثل طاقة الانتفاضة ومضمونها وتعبر عن أهدافها وبدائلها. إن القوى الحالية في الحركة وبحكم موقعها الاجتماعي الطبقي، لا تمضي أبعد من المطالبة بالتغيير، أما طرح البدائل فهي مهمة على الاشتراكيين طرحها. مهاجمة الفساد كأساس للظلم والفقر والخراب الذي يعيشه المجتمع.
إن أبرز ما يطرحه المنتفضون خلال تصديهم لمسائل الفقر والظلم الاجتماعي والبطالة ونهب الثروات، هو إعلانهم للفساد كمصدر لكل شرور السلطة والنظام الحاكم. لاشك إن السلطة فاسدة وغارقة في السمسرة السياسية وفي أحط أشكال النهب والاستحواذ. ولكن هذا نتاجاً للنظام السياسي وأحد أشكال تجليه وليس هو الأساس. إن تطور وانتصار هذه الانتفاضة سيهدد التوازن الأيديولوجي في منطقة الشرق الأوسط والقائم على نفوذ الأسلام السياسي بالدرجة الأساس هذا التوازن الذي جرى بناؤه خلال عقود والذي بدأ فرضه بصعود الخميني الى السلطة في إيران وقيام الجمهورية الإسلامية، ثم بروز حركة المجاهدين الأفغان بداية الثمانينيات، الذين إنبثقت عنهم القاعدة ومن ثم داعش. وعن طريق هذا التوازن تدير الرأسمالية العالمية الصراعات في منطقة الشرق الاوسط ومقترباتها، أي إحدى أعقد مناطق الصراع، والمركز الرئيسي للطاقة النفطية في العالم. إن تغيير هذا الواقع يعني تغييراً له أبعاد عالمية تاريخية، وهو ممكن من الناحية النظرية والمنطقية، ولكنه بحاجة الى وسائل سياسية يتعين على الانتفاضة أن تدركها وتنجزها، وعن طريق تأمينها ستؤمن انتصارها وتؤمن تحولها الى ثورة، ولكن الوقائع لا تشير الى هذا المسار حالياً.إن شعار إسقاط النظام الذي جرى رفعه في الأيام والأسابيع الاولى للانتفاضة، قد إصطدم بمسألة البديل السياسي للنظام. وحيث أن النظام الحالي يتبنى سياسة اقتصادية قائمة على الترابط مع الرأسمال العالمي والمؤسسات الرأسمالية النقدية، ويقوم على أسس اجتماعية وأيديولوجية هي التي تعطيه شكله الحالي، فلا يمكن الحديث عن تغيير النظام وإنهاء سياسته دون تغيير الأسس الاقتصادية والأيديولوجية التي يقوم عليها. وهذه النقطة لم تطرح خلال مجريات الانتفاضة بوضوح، مما سهل على القوى الحاكمة والمهيمنة الترويج لتغيير وجوه في السلطة وتعميم الالتباس بين صفوف الجمهور على أنه استجابة لمطالب المنتفضين، وتحويل الرأي العام صوب هذه التشويه المتعمد. إن تغيير شكل النظام أو إجراء تعديلات عليه، لن تغير من واقع النظام وواقع المجتمع شيئاً، إلّا بحدود ضيقة يجري الالتفاف عليها لاحقاً كونها تغييرات شكلية غير جوهرية. ومع وصول الانتفاضة الى هذه النقطة، بدا نقص الاستعداد واضحاً، رغم الجسارة والبطولة والاندفاع، ورغم إخلاص الكثير وتفانيهم. ولكن نقص الاستعداد ليس منشؤه المنتفضين، بل إن الجواب على المسألة الأساسية فيما يخص النظام السياسي يقع أبعد مما بلغته الحركة ليس في العراق فحسب بل في كل ثورات المنطقة. لما كانت السياسة الاقتصادية للنظام، والتي أفضت الى الخراب الذي يعيشه المجتمع، تمثل عصارة السياسة النيوليبرالية الرأسمالية بأشد أشكالها وحشية وفساداً، والتي تطلبت أن يرتكز النظام على المؤسسة الدينية والعشائرية لتأمين حكمه، فإن تغيير النظام يتطلب تغيير الاساس الاقتصادي الذي يقف عليه. وهذه المسألة لها حل واحد هو إقامة نظام على أنقاض النظام الرأسمالي، والغاء سيطرة الرأسماليين بكل صنوفهم هم وممثليهم في النظام. وبكلمة، إن الحل هو الإشتراكية. ولكن كيف ستنتظم الجموع حول هذا الحل وهذا البديل؟ في الوقت الذي لا يتوقف أعداء الاشتراكية عن تخويف الجموع من أن الاشتراكية هي نقيض الحرية وهي نسخة من الستالينية .. الخ. كما أنه لايوجد نموذج إشتراكي في العالم لنشير اليه على أنه شكل البديل المستقبلي للمجتمع. عندها ستبقى تعرية النظام الرأسمالي ووحشيته وجرائمه وبشاعاته في كل العالم وعلى مر التاريخ، خير وسيلة حالياً للتعريف بالبديل النقيض للرأسمالية.

الحوار المتمدن

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post كل ما تريد معرفته للسفر إلى لوكسمبورغ
Next post تحديثات يوتيوب تتخطى نزاعات حقوق الملكية