تداعيات الاستقالات في صفوف القيادات العسكرية الإسرائيلية

محمد فوزي

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_يتعرَّض الجيش الإسرائيلي لحالة من الارتباك؛ وذلك على وقع إعلان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي، يوم 21 يناير 2025، استقالته من منصبه، وهي الاستقالة التي ستدخل حيز التنفيذ في 6 مارس 2025، وتبعتها بساعات قليلة استقالة قائد القيادة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي يارون فنكلمان، كما تم الإعلان بعدها عن توقع تقديم كل من قائد سلاح الجو الجنرال تومر بار، وقائد سلاح البحرية الجنرال ديفيد ساعر استقالتيهما، وقبل ذلك كانت استقالة أمير برعام نائب رئيس هيئة الأركان. وتعد هذه الاستقالات أحد الارتدادات الرئيسية لعاملَين رئيسيَّين: الأول هو اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة وتداعياته على الداخل الإسرائيلي، والثاني هو هجمات طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، والمسؤولية السياسية والأمنية لعدد من المسؤولين الإسرائيليين عنها.

دلالات متعددة

ارتبطت الاستقالات الأخيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي بمجموعة من الاعتبارات الرئيسية، خصوصاً ما يتصل بالمسؤولية عن هجمات 7 أكتوبر 2023، وما يرتبط بتداعيات وقف إطلاق النار في غزة. وبشكل عام حملت هذه الاستقالات مجموعة من الدلالات المهمة؛ وذلك على النحو التالي:

1– المسؤولية عن هجمات 7 أكتوبر 2023: أكد “هاليفي”، في الرسالة التي بعث بها إلى القيادة السياسية في إسرائيل بخصوص استقالته، أن “قراره يرتبط بما وصفه بفشل الجيش الإسرائيلي في التصدي لهجمات 7 أكتوبر 2023”. وأكد “هاليفي”، في رسالة استقالته التي ستصبح نافذة في 6 مارس المقبل، تحمُّله المسؤولية الكاملة عن الإخفاقات العسكرية خلال ذلك اليوم، مشيراً إلى أن “الجيش الإسرائيلي فشل في مهمة الدفاع عن إسرائيل، والدولة دفعت ثمناً باهظاً”. ويعني ذلك عملياً أن مجمل الاستقالات التي تمت في صفوف الجيش الإسرائيلي تأتي على اعتبار المسؤولية عن هجمات السابع من أكتوبر 2023 التي نفذتها الفصائل الفلسطينية.

وكانت القناة 12 الإسرائيلية قد نشرت تحقيقاً في ديسمبر 2024، أشارت فيه إلى تفاصيل خاصة بتحقيقات مرتبطة بعملية السابع من أكتوبر 2023، وأشارت إلى أن خلاصة هذه التحقيقات وصلت إلى أن الخطأ كان من رئيس الأركان هرتسي هاليفي، وفشل جهاز الاستخبارات، خصوصاً أن التحقيقات أشارت إلى وجود معلومات استخباراتية سابقة بتحضير كتائب القسام للهجوم منذ سنوات.

2– إدارة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة: يُمكن تفسير الاستقالات الأخيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي، في ضوء إدارة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة على مدار 15 شهراً؛ وذلك على مستويات متعددة، أولها أن هناك انتقادات عديدة وُجهت من المستوى السياسي الإسرائيلي أو من قطاعات في الداخل الإسرائيلي إلى المستوى العسكري؛ بسبب أنماط إدارته للحرب، وثانيها أن الجيش الإسرائيلي عملياً لم يحقق أهدافه الاستراتيجية في قطاع غزة، سواء ما يتعلق باستعادة الأسرى الإسرائيليين بالقوة العسكرية، أو ما يتعلق بالقضاء على الفصائل الفلسطينية في إطار فكرة “النصر المطلق”، وثالثها أن خسائر الجيش الإسرائيلي كانت كبيرة جداً على المستوى البشري إذا ما قُورنت بالحروب السابقة بين الجانبين، ورابعها أن هذه الحرب أدت بشكل عام إلى تراجع منظومة الردع الإسرائيلية.

3– التزامن مع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة: لا يمكن الفصل بين هذه الاستقالات الأخيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي وبين اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم توقيعه منذ أيام بين إسرائيل وحركة حماس بوساطة مصرية قطرية أمريكية، بمعنى أن هذه الاستقالات واستقالات أخرى متوقعة تأتي على وقع بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، خصوصاً أن “هاليفي” والعديد من المسؤولين كانوا قد أشاروا في ثنايا الحرب إلى اعتزامهم الاستقالة في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار. وكذلك يبدو أن اتفاق وقف إطلاق النار قد فتح الباب أمام خروج حالة عدم الاستقرار داخل مؤسسة الجيش الإسرائيلي إلى السطح، وهو ما تجسَّد في هذه الاستقالات.

4– حالة التأزم الداخلي الإسرائيلي: تأتي هذه الاستقالات داخل صفوف الجيش الإسرائيلي كجزء من حالة عامة عاشتها إسرائيل على مدار 15 شهراً من الحرب، كان المعلم الرئيسي لها هو حالة من الاستقطاب الداخلي والانقسام، وهي الحالة التي بدأت بانسحاب كل من بيني جانتس وغادي أيزنكوت (ممثلَي حزب “معسكر الدولة”) من حكومة الطوارئ التي تشكلت عقب هجوم حماس بأيام لإدارة الحرب، مروراً بإقالة يوآف جالانت وزير الدفاع الأسبق بعد خلافات كبيرة بينه وبين “نتنياهو”، وصولاً إلى هذه الاستقالات الأخيرة داخل الجيش الإسرائيلي. وكانت العديد من التقديرات والتقارير العبرية قد أشارت إلى أن حالة الاستقطاب الداخلي في إسرائيل على وقع الحرب الأخيرة غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل.

التداعيات المحتملة

فور استقالة “هاليفي” بدأت العديد من التقديرات تذهب إلى أن هذه الاستقالة، وما تبعها من استقالات في صفوف الجيش الإسرائيلي، تمثل مقدمة للعديد من التداعيات المحتملة، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1– صراع سيطرة على الجيش الإسرائيلي: اعتبرت صحيفة “هآرتس” العبرية، في تقرير لها، أن استقالة “هاليفي” سوف تفتح الباب أمام صراع سيطرة على الجيش الإسرائيلي. وتتجلى منطقية هذا الافتراض من عدد من المؤشرات والاعتبارات الرئيسية؛ فقد أشارت القناة الـ12 العبرية، في أغسطس 2024، إلى أن “نتنياهو وجَّه هجوماً عنيفاً ضد قادة الأجهزة الأمنية، وصل إلى حد اتهامهم بأنهم يخدمون حماس عبر السياسات التي يتبعونها”، كما أن قرار إقالة “جالانت” في نوفمبر 2024 والإتيان بيسرائيل كاتس المتماهي مع “نتنياهو” بشكل شبه كامل عبَّر عن هذه الفرضية.

وفي سياق متصل، فإن بعض وسائل الإعلام العبرية تتحدث حالياً عن صراع داخلي في إسرائيل حول مستقبل إدارة الجيش والسيطرة عليه، بين أطراف أقرب إلى الديمقراطية وترفض مبدأ استمرار الحرب وقوى أخرى تسعى إلى تحويل الجيش إلى جيش انتقامي ذي طابع ديني متشدد.

2– تصاعد المطالب بفتح لجان تحقيق بشأن أحداث 7 أكتوبر 2023: تتصاعد المطالبات في إسرائيل منذ أشهر بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث السابع من أكتوبر 2023، لكن الكنيست الإسرائيلي كان قد صوَّت في 22 يناير 2025، ضد إقامة هذه اللجنة، وهو المشروع الذي كانت المعارضة الإسرائيلية قد تقدَّمت به؛ حيث صوَّت ضد المشروع 53 نائباً في الكنيست، فيما أيده 45 نائباً. وحالياً، يقود الضغوطَ الرامية لتشكيل هذه اللجنة زعيمُ المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد، ووزيرُ الدفاع السابق يوآف جالانت، بالإضافة إلى عدد من الدوائر السياسية، لكن يبدو أن الحكومة الإسرائيلية والائتلاف الحاكم يضغط بكل قوة من أجل الحيلولة دون تشكيل هذه اللجنة، على اعتبار أن تحقيقاتها لن تُفضي إلى قصر المسؤولية على المستوى الأمني والاستخباراتي، بل ستمتد لتشمل المستوى السياسي في إسرائيل.

3– الضغط نحو تسريع عملية مراجعة العقيدة العسكرية الإسرائيلية: عقب استقالة “هاليفي”، أشار عميت هاليفي عضو لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي، إلى أن “من المهم إعادة النظر في العقيدة العسكرية الإسرائيلية؛ فقد يترك الشخص منصبه، لكنَّنا نواصل طريقة التفكير نفسها التي أدَّت إلى إخفاقات السابع من أكتوبر” وفق ما صرح به لبعض وسائل الإعلام العبرية. وبشكل عام، يوجد مجموعة من الاعتبارات التي تدعم هذا التوجه، أولها أن هجمات السابع من أكتوبر 2023 مثَّلت نقلة نوعية وعملاً عسكرياً عبَّر عن تغيرات كبيرة في مستوى وطبيعة المواجهات بين الجانبَين الإسرائيلي والفلسطيني، وثانيها أن فكرة “وحدة الساحات” وما تَبِع الحرب من تداعيات على مستوى استهداف الداخل الإسرائيلي من عدد من الجبهات بشكل متكرر وبشكل شبه يومي، قد طرح شكوكاً كبيرة في فكرة الردع التي كانت تروج لها إسرائيل لسنوات، وثالثها أن هناك إشكالات عالقة بالنسبة إلى إسرائيل على المستوى العسكري والأمني والاستراتيجي، ومنها إشكال مرتبط بالتعامل مع إيران وملفها النووي، والمتغيرات الأخيرة في سوريا، وانتشار العديد من الفصائل المسلحة، بالإضافة إلى مستقبل العلاقات مع الجانب الفلسطيني وآليات إدارة الصراع الثنائي.

4– تزايد إحراج حكومة نتنياهو: من المؤكد أن تزايد الاستقالات داخل الجيش الإسرائيلي ستؤدي إلى تزايد إحراج حكومة نتنياهو؛ حيث أفضت عملية طوفان الأقصى، وما تبعها من حرب ممتدة، إلى تزايد الانتقادات لحكومة نتنياهو من جانب قوى المعارضة، كما تزايدت الاحتجاجات الرافضة لسياسات نتنياهو وطريقة إدارته للحرب. وحتى بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة تواصلت الانتقادات لحكومة نتنياهو، وخصوصاً مع انكشاف عجز إسرائيل عن القضاء على حركة حماس مثلما كانت تروج في بداية الحرب.

تفجر الانقسامات

وختاماً، يمكن القول إن الاستقالات الأخيرة التي شهدتها المؤسسة العسكرية في إسرائيل كانت خطوة مؤجلة في ثنايا الحرب التي امتدت إلى 15 شهراً، على اعتبار المسؤولية الأمنية والاستخباراتية والسياسية للقادة العسكريين في إسرائيل على مستوى التعامل مع هجمات السابع من أكتوبر 2023، لكن هذه الاستقالات تفتح الباب أمام المزيد من الانقسامات والاستقطاب في الداخل الإسرائيلي، فضلاً عن أنها تُنذر بصراع على مستوى السيطرة على مؤسسة الجيش على المدى القريب، كذلك فإنها تطرح إشكالات بخصوص إعادة بناء العقيدة العسكرية الإسرائيلية على المدى الطويل.

انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post  فنانة سورية بين الحياة والموت
Next post عدد من مدارس تعليم قيادة السيارات في بلجيكا تغلق