لماذا تتزايد المخاوف الفرنسية من سياسات الرئيس الأمريكي “ترامب”؟

نوار الصمد

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أطلق رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو، في 20 يناير 2025، تحذيرات قوية مفادها أن فرنسا وأوروبا مهددتان “بالسحق” إن لم تتَّخذا إجراءات لمواجهة سياسات الرئيس الأمريكي الجديد. تنبع هذه المخاوف من الطبيعة التصادمية للنهج الذي يتبنَّاه ترامب، والذي قد ينعكس على المصالح الأوروبية على عدة مستويات.

مخاوف فرنسية

تعود تحذيرات بايرو بأن سياسات ترامب قد تضع فرنسا وأوروبا في موقف غير مسبوق، إلى عدة عوامل نشير إليها بالتالي:

1– تلويح ترامب بالسياسات الحمائية وفرض الرسوم الجمركية: مع عودته إلى البيت الأبيض، تزايدت المخاوف في أوروبا من أن يعيد ترامب إطلاق سياسات اقتصادية حمائية شديدة ضد الاتحاد الأوروبي، وهو ما أكدته تصريحاته المتكررة التي اعتبرت أن أوروبا تمثل تهديداً اقتصادياً للولايات المتحدة، مشبهاً إياها “بالصين الصغيرة” في طريقة استغلالها السوق الأمريكية. وكان ترامب قد تعهد خلال حملته الانتخابية بفرض رسوم جمركية مرتفعة على السلع الأوروبية، لا سيما السيارات والمنتجات الزراعية؛ بهدف تقليص العجز التجاري الأمريكي مع أوروبا.

وقد سبق أن نفذ ترامب سياسات مماثلة خلال ولايته الأولى، عندما فرض رسوماً جمركية على الصلب والألمنيوم الأوروبيَّين؛ ما أدى إلى تصعيد تجاري بين الطرفين. واليوم، ومع استعداد إدارته لفرض رسوم إضافية تصل إلى 10% أو أكثر، تخشى فرنسا، كجزء من الاتحاد الأوروبي، أن يؤدي ذلك إلى إلحاق ضرر كبير بقطاعاتها الصناعية والزراعية؛ ما سيؤدي إلى تراجع النمو الاقتصادي وارتفاع البطالة. ويمكن إدراج تحذيرات وزير الخارجية الفرنسية جان نويل بارو، الذي اعتبر أنه إذا رفع الأوروبيون في المقابل الرسوم الجمركية كرد فعل على إجراءات ترامب فإن المصالح الأمريكية في أوروبا ستكون هي الخاسر الأكبر، وكذلك الطبقة الوسطى الأمريكية التي ستشهد انخفاضاً في قدرتها الشرائية، في إطار محاولة فرنسا تفادي التصعيد المباشر مع واشنطن عبر تأكيد أن ممارسة ترامب لسياسة الحمائية الاقتصادية Economic Protectionism قد تضر حتى بالمواطن الأمريكي العادي.

2– احتمالية توظيف ترامب التفوق التكنولوجي كأداة ضغط على أوروبا: يعتبر قطاع التكنولوجيا من أهم مجالات التفوق الأمريكي؛ حيث تمتلك الولايات المتحدة هيمنة واضحة على الابتكارات في مجالات الذكاء الاصطناعي والخدمات الرقمية والبنية التحتية للإنترنت. وخلال ولايته الأولى، أظهر دونالد ترامب استعداداً للالتفاف على القواعد التنظيمية الأوروبية لصالح الشركات الأمريكية، ومارست إدارة ترامب الأولى ضغوطاً كبيرة على الاتحاد الأوروبي في قضايا مثل حماية البيانات والتشريعات الرقمية؛ ما أدى إلى توترات بين الطرفين. ومع عودته إلى البيت الأبيض، يُتوقع أن يعيد ترامب هذه الاستراتيجية، عبر تقويض المبادرات الأوروبية التي تهدف إلى تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية الرقمية، كما أن تحالف ترامب مع شخصيات مثل إيلون ماسك، الذي يمتلك منصات رقمية مؤثرة مثل X، قد يضيف بُعداً جديداً لهذه الضغوط؛ ما يجعل أوروبا أكثر عرضة لمحاولات التأثير الأمريكي، سواء في المجال الاقتصادي أو المعلوماتي.

3– المخاوف من إضعاف النظام التجاري العالمي في عهد “ترامب”: يخشى الأوروبيون من أن تؤدي ولاية ترامب الثانية إلى مزيد من الانسحاب الأمريكي من المؤسسات والمنظمات الدولية؛ ما سيخلق بيئة دولية غير مستقرة تعاني فيها الدول الأوروبية من غياب قواعد تنظيمية موحدة. في هذا الإطار، تتبنى إدارة ترامب رؤية أحادية تهدف إلى فرض اتفاقيات تجارية ثنائية بدلاً من الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي توفر الحماية للدول الأضعف اقتصادياً. وتتمثل الخطورة هنا في أن ترامب قد يستخدم قوته الاقتصادية لفرض اتفاقيات غير متكافئة على أوروبا، مثلما سبق أن حاول مع الصين والمكسيك خلال ولايته الأولى، كما أن عزوفه عن الالتزام باتفاقيات التجارة الحرة يمكن أن يؤثر سلباً على الصادرات الأوروبية، التي تعتمد بشكل كبير على الانفتاح التجاري لضمان تدفق المنتجات والخدمات عبر الحدود.

4– انسحاب واشنطن المحتمل من الالتزامات العسكرية تجاه أوروبا: في أكثر من مناسبة، هدد ترامب بتقليص الالتزامات العسكرية الأمريكية تجاه حلف الناتو، معتبراً أن الدول الأوروبية لا تدفع “حصتها العادلة” في الإنفاق الدفاعي. هذا التوجه يُقلق باريس بشكل خاص؛ حيث تعتمد أوروبا بدرجة كبيرة على الدعم العسكري الأمريكي لضمان أمنها في مواجهة التهديدات الخارجية، لا سيما من روسيا. وقد يذهب ترامب إلى سحب القوات الأمريكية من القارة الأوروبية أو فرض ضغوط إضافية على الدول الأعضاء لزيادة إنفاقها الدفاعي.

وبينما التزمت الدول الأوروبية سابقاً بإنفاق ما لا يقل عن 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، تشير بعض التقارير إلى أن ترامب قد يطالب بزيادة هذا الإنفاق إلى 3% أو حتى 5%، وهو ما يتجاوز قدرة معظم الدول الأوروبية، خاصةً في ظل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة. علاوةً على ذلك، فإن أي انسحاب أمريكي من الناتو قد يشجع روسيا على تكثيف أنشطتها العسكرية على الجبهة الشرقية لأوروبا؛ ما يضع فرنسا في موقف صعب يستلزم إعادة هيكلة استراتيجيتها الدفاعية بالكامل. ويبدو أن حديث بايرو عن “السحق” الأوروبي يعكس القلق من أن يؤدي هذا الفراغ الأمني إلى انهيار التوازن العسكري في القارة؛ ما يعرضها لمخاطر غير مسبوقة، كما أن ممارسة ترامب نهج “الرئاسة الإمبراطورية” Imperial Presidency يقلل قدرة أوروبا على التفاوض معه بأساليب دبلوماسية تقليدية.

6– التقارب الأمريكي مع الحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا: أحد الجوانب التي تقلق الأوروبيين هو التأثير السياسي لترامب على المشهد الداخلي الأوروبي؛ حيث يشكل دعمه للأحزاب القومية واليمينية المتطرفة تهديداً لوحدة الاتحاد الأوروبي. منذ ولايته الأولى، أبدى ترامب تأييده لزعماء الحركات الشعبوية في أوروبا، مثل مارين لوبان في فرنسا، وفيكتور أوربان في المجر، ولاحقاً جورجيا ميلوني في إيطاليا؛ الأمر الذي عزز نفوذهم السياسي. واليوم، ومع عودته إلى السلطة، يُتوقع أن يقدم ترامب دعماً سياسياً وأيديولوجياً أكبر لهذه الحركات؛ ما قد يؤدي إلى تصاعد التوجهات الانعزالية داخل القارة الأوروبية. إن تنامي هذا النفوذ قد يؤدي إلى زيادة الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتعلق بسياسات الهجرة، والسياسات التجارية، والعلاقات مع الولايات المتحدة.

ومع ازدياد قوة هذه التيارات، ستجد فرنسا نفسها مع دول أوروبية أخرى كألمانيا، أمام تحدٍّ مزدوج: مواجهة تأثير ترامب الاقتصادي وفي الوقت ذاته احتواء المد الشعبوي داخل القارة الأوروبية. في ظل هذه المعطيات، تبدو مخاوف بايرو مبررة؛ إذ إن استمرار هذا الاتجاه قد يفضي إلى تآكل الوحدة الأوروبية، وجعل فرنسا أكثر عزلةً في مواجهة الولايات المتحدة. ومن جهة مقابلة، اعتبرت النائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي سارة كنافو عن حزب الاسترداد ( أقصى اليمين)، أنه بالمقارنة بين خطاب تنصيب ترامب (الذي حضرته) والذي أعلن فيه عن “عصر ذهبي جديد” لبلاده وبين البيان السياسي العام الخجول الذي قدمه “فرنسوا بايرو” رئيساً للحكومة الفرنسية الجديدة مؤخراً أمام الجمعية الوطنية، فإن هناك ما يدعو إلى الغيرة.

تداعيات محتملة

تُنبئ تحذيرات بايرو بمرحلة معقدة في العلاقات الفرنسية–الأمريكية؛ حيث قد تدفع سياسات ترامب التصادمية باريس إلى تبني نهج أكثر استقلاليةً لحماية مصالحها، مع وجود انعكاسات على توجهات أخرى:

1– تصاعد التوترات الاقتصادية والتجارية بين الدولتين: منذ عودته إلى البيت الأبيض، أطلق ترامب تهديداته بفرض رسوم جمركية جديدة على المنتجات الأوروبية، معتبراً أن دول الاتحاد الأوروبي تستفيد بشكل غير عادل من الميزان التجاري مع الولايات المتحدة. وتخشى باريس من أن يعيد ترامب استخدام هذه الورقة للضغط على الاتحاد الأوروبي لتقديم تنازلات في مجالات أخرى، مثل شراء المزيد من النفط أو الغاز الأمريكي، أو تخفيف القيود المفروضة على الشركات الأمريكية في السوق الأوروبية.

وفي هذا السياق اعتبر وزير الخارجية الفرنسي السابق “ستيفان سيجورنيه”، الذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس المفوضية الأوروبية، أنه “لا يمكننا خوض حرب تجارية guerre commerciale مع الولايات المتحدة بينما نحاول بناء الدفاع الأوروبي”. في المقابل، قد تلجأ فرنسا إلى تشديد الرقابة على الشركات الأمريكية العاملة داخل أراضيها، مثل شركات التكنولوجيا الكبرى، وفرض ضرائب إضافية على عمالقة الاقتصاد الرقمي، مثل جوجل وأمازون. كل هذه التحركات قد تخلق مناخاً اقتصادياً متوتراً بين الدولتين؛ حيث سيحاول كل طرف حماية مصالحه الاقتصادية في ظل بيئة تجارية مضطربة. وفي هذا السياق، طالب الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند بأن تفرض أوروبا “توازن قوى” مع الولايات المتحدة لمواجهة السياسات الحمائية لترامب.

2– تعزيز مساعي فرنسا نحو الاستقلالية الاستراتيجية: لطالما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أشد المدافعين عن فكرة “الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية Autonomie stratégique”، ومع عودة ترامب إلى السلطة وتزايد تهديداته بتقليص الالتزامات الأمريكية داخل الناتو، ستجد باريس نفسها مضطرة إلى متابعة هذا التوجه بقوة أكبر. أحد أبرز محاور هذا التوجه يتمثل في زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي، وهو ما بدأ ماكرون يتحدث عنه بالفعل خلال خطابه أمام الجيش الفرنسي في 20 يناير 2025، حين أشار إلى ضرورة إعادة النظر في المخصصات الدفاعية لمواكبة التغيرات الجيوسياسية، مكرراً عدة مرات أن خط المواجهة قد اقترب، ومضيفاً أن “حليفنا الأمريكي يقول إن علينا إنفاق المزيد، وهو على حق”.

ومن المتوقع أن تعمل فرنسا على توسيع شراكاتها الدفاعية مع دول مثل ألمانيا، وكذلك تعزيز التعاون العسكري مع المملكة المتحدة في ظل التحديات الأمنية المتزايدة في أوروبا. إضافة إلى ذلك، فإن التهديد الأمريكي بتقليص دور الولايات المتحدة في القارة الأوروبية قد يدفع باريس إلى تعزيز برامجها الدفاعية المستقلة، مثل مشروع الدرع الصاروخية الأوروبية، وزيادة إنتاج الأسلحة والمعدات العسكرية داخل القارة، بهدف تقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية، كما كان لافتاً في هذا السياق ما قاله وزير الجيوش الفرنسية سيباستيان لوكورنو: “إننا لن نبادل أمننا العسكري بالبرجر والسيارات الألمانية”، في رد على بعض الدعوات الأوروبية التي تؤيد تقديم تنازلات اقتصادية لترامب مقابل استمرار الضمانات الأمنية الأمريكية.

3– استياء واشنطن المحتمل من تحركات باريس داخل الاتحاد الأوروبي: في ظل تزايد التهديدات الأمريكية، تسعى فرنسا إلى تشكيل تحالفات جديدة داخل الاتحاد الأوروبي لتعزيز موقفها في مواجهة السياسات التصادمية القادمة من واشنطن. وقد تجد باريس نفسها مضطرة إلى إعادة ترتيب أولوياتها الدبلوماسية، خاصة إذا ما قررت دول أخرى مثل إيطاليا أو المجر اتباع نهج أكثر توافقاً مع سياسات ترامب. وعلى الرغم من أن ماكرون يدعو إلى وحدة الموقف الأوروبي في مواجهة واشنطن، فإن هناك انقسامات داخل الاتحاد حول كيفية التعامل مع ترامب؛ حيث ترى بعض الدول أن الدخول في مواجهة مباشرة معه قد يكون مكلفاً للغاية. وهذا ما يثير قلق باريس؛ إذ قد تجد نفسها في موقف صعب إذا قررت بعض العواصم الأوروبية تقديم تنازلات اقتصادية أو سياسية لترامب على حساب وحدة الاتحاد.

وتسعى فرنسا إلى لعب دور القائد في صياغة استراتيجية أوروبية موحدة، وهو ما قد يؤدي إلى توترات إضافية مع البيت الأبيض، خاصةً إذا اعتبر ترامب أن باريس تسعى إلى تقويض سياساته الاقتصادية والعسكرية في القارة العجوز، كما انتقد رئيس الحزب الاشتراكي الفرنسي أوليفييه فور الانقسامات داخل اليسار الفرنسي، معتبراً أنها تضعف قدرة فرنسا وأوروبا على التصدي للمد اليميني المتطرف الذي يمثله ترامب وحلفاؤه في أوروبا.

4– زيادة التوترات حول قضايا التكنولوجيا والضرائب الرقمية: لطالما كانت مسألة فرض ضرائب على الشركات التكنولوجية الأمريكية، مثل جوجل وأمازون وفيسبوك، نقطة خلاف رئيسية بين باريس وواشنطن. خلال ولايته الأولى، هدد ترامب بفرض عقوبات تجارية على فرنسا رداً على قانون الضرائب الرقمية الذي تبنته باريس لاستهداف الشركات الرقمية الكبرى. ومع عودته إلى السلطة، يتوقع أن يصعِّد البيت الأبيض ضغوطه على فرنسا لإلغاء أو تخفيف هذه القوانين، خاصة مع تزايد نفوذ عمالقة التكنولوجيا في السياسة الأمريكية.

ومن جهتها، ترى فرنسا أن هذه الشركات تستفيد بشكل غير عادل من الأسواق الأوروبية دون أن تدفع حصتها العادلة من الضرائب؛ ما يجعلها مصممة على الاستمرار في هذا النهج. وفي ظل غياب توافق أوروبي كامل حول هذه المسألة، قد تجد باريس نفسها معزولة في مواجهة الضغوط الأمريكية. وفي هذا السياق حذر رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دو فيلبان من تحول أوروبا من “حليف” إلى “تابع” للولايات المتحدة إذا لم تتحرك لمواجهة سياسات ترامب، داعياً إلى تحقيق استقلال أوروبي في الدفاع والتكنولوجيا لمواجهة تأثير الترامبية عالمياً.

5– تزايد الخلافات حول الملفات والأزمات العالمية: في ظل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، من المتوقع أن تتباين مواقف باريس وواشنطن حول العديد من القضايا الدولية، بدءاً من الملف الإيراني، وصولاً إلى الصراع في أوكرانيا. لطالما دعمت فرنسا نهجاً دبلوماسياً أكثر انفتاحاً تجاه إيران؛ حيث لعبت دوراً رئيسياً في التفاوض على الاتفاق النووي عام 2015، بينما تبنى ترامب موقفاً متشدداً للغاية تجاه طهران، وسبق أن انسحب من الاتفاق خلال ولايته الأولى. وإذا قرر ترامب مرة أخرى فرض عقوبات صارمة جديدة على إيران أو تغطية هجوم عسكري إسرائيلي عليها، فقد تجد باريس نفسها في مواجهة ضغوط أمريكية جديدة.

في الوقت ذاته، فإن ملف أوكرانيا يمثل نقطة خلاف أخرى؛ حيث تخشى باريس من أن يؤدي انسحاب ترامب من دعم كييف إلى تقويض الجهود الأوروبية لاحتواء روسيا. وإذا قررت واشنطن تخفيف دعمها العسكري لأوكرانيا، فستجد فرنسا نفسها أمام تحدي قيادة الرد الأوروبي، وهو ما قد يعمق الخلافات مع البيت الأبيض. إضافة إلى ذلك، فإن نهج ترامب المتشدد تجاه الصين قد يضع باريس في موقف صعب، خاصة أن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع بكين دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة كما ترغب واشنطن. جميع هذه الملفات ستجعل العلاقات الفرنسية–الأمريكية خلال ولاية ترامب الثانية أكثر تعقيداً من أي وقت مضى؛ حيث ستسعى باريس إلى الحفاظ على استقلاليتها الدبلوماسية في مواجهة السياسات الأحادية للبيت الأبيض.

6– تسبب مواقف بعض الدول الأوروبية في تصاعد الخلافات الأمريكية–الفرنسية: مع تصاعد التهديدات التجارية والأمنية من إدارة ترامب، ستجد أوروبا نفسها مضطرة إلى تعزيز وحدتها الاستراتيجية واتخاذ موقف أكثر انسجاماً؛ فالنهج الانفرادي لبعض الدول الأوروبية، مثل إيطاليا والمجر اللتين أبدتا تقارباً مع ترامب، قد يضعف موقف الاتحاد الأوروبي ككل؛ ما يفتح الباب أمام ضغوط أمريكية إضافية. في المقابل، تدفع فرنسا وألمانيا نحو موقف موحد، خاصة في ظل التحولات الجيوسياسية الكبرى التي تتطلب من أوروبا تقليل اعتمادها على واشنطن. وفي هذا السياق، سيعقد القادة الأوروبيون اجتماعاً استثنائياً في 3 فبراير 2025 في بلجيكا لمناقشة قضايا الدفاع والأمن الأوروبي، وهو ما قد يشكل اختباراً حقيقياً لقدرة الاتحاد الأوروبي على تقديم جبهة موحدة في مواجهة سياسات ترامب. هذا يعني أن طريقة استجابة أوروبا لهذه التحديات لن تؤثر فقط على العلاقات الفرنسية–الأمريكية، بل ستحدد أيضاً إذا ما كانت القارة الأوروبية قادرة على فرض نفسها كقوة مستقلة أو إذا كانت ستظل منقسمة وعرضة للضغوط الأمريكية.

ختاماً، يُبرز تحذير فرانسوا بايرو من سياسات ترامب حجم القلق الأوروبي من تداعيات ولايته الجديدة، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الأمني؛ ففي ظل التحولات الجيوسياسية العميقة القادمة، تجد فرنسا نفسها أمام معضلة كبرى: إما التصعيد والمواجهة مع واشنطن، أو البحث عن توازن يحفظ مصالحها دون الانجرار إلى تبعية أمريكية جديدة. وبينما تتأرجح العلاقات الفرنسية–الأمريكية بين المواجهة والتعاون الحذر، يبقى مستقبل هذه العلاقة مرهوناً بالقدرة الأوروبية على تقديم بديل استراتيجي مستقل في مواجهة سياسات ترامب التصادمية.

انترريجورنال للتحليلات الاسترتيجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post انتقاد لأولمبياد باريس 2024
Next post تصاعد معاداة السامية بذكرى الهولوكوست