
لماذا تسعى روسيا للانفتاح على الإدارة السورية الجديدة؟
عمرو عبد العاطي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_يبدو أن روسيا تتجه نحو إجراء تغيير في سياستها إزاء سوريا، في مرحلة ما بعد سيطرة هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري والفصائل السورية الأخرى على السلطة في دمشق بعد الإطاحة بنظام الرئيس السابق بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024. إذ وصل وفد روسي رفيع المستوى إلى سوريا، في 28 يناير 2025، وذلك لأول مرة منذ الإطاحة بنظام الأسد، حيث يتكون من نائب وزير الخارجية ميخائيل بوجدانوف، الذي يشرف على شؤون الشرق الأوسط، والمبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف. وقد التقى الوفد بالقائد العام للإدارة السورية أحمد الشرع، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، وتركزت المباحثات حول الملفات التي تحظى باهتمام موسكو ودمشق بما في ذلك التعاون العسكري والاقتصادي.
أهداف رئيسية
تتمثل أبرز أهداف زيارة الوفد الروسي لأول مرة إلى دمشق بعد سقوط نظام الأسد فيما يلي:
1- التفاوض حول استمرار القواعد العسكرية: أسست روسيا حضوراً عسكرياً قوياً في دمشق من خلال قاعدتين رئيسيتين، هما: القاعدة البحرية في طرطوس على البحر الأبيض المتوسط، التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، وقاعدة حميميم الجوية قرب اللاذقية، التي أنشأتها موسكو في عام 2015 لدعم نظام الأسد. كما تمتلك موسكو مواقع عسكرية أخرى في مناطق متفرقة من سوريا. ويشكل احتمال إغلاق هذه القواعد ضربة كبيرة لطموحات روسيا في الحفاظ على وجود عسكري دائم في الشرق الأوسط وتعزيز نفوذها في البحر المتوسط. وقد أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 19 ديسمبر 2024، إلى ضرورة إعادة تقييم موقف موسكو بشأن هذه القواعد في ظل تغير القيادة السورية.
وسبق أن أوضح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في 29 ديسمبر 2024، أن التغيرات السياسية في سوريا ستؤثر على الوجود العسكري الروسي، مشيراً إلى أن موسكو ستسعى إلى التفاوض مع القيادة السورية الجديدة حول مستقبل القواعد العسكرية، وشروط تشغيلها، ومستوى التعاون مع السلطات المحلية.
وإلى جانب سعي روسيا لاستمرار قواعدها العسكرية في سوريا لتأكيد نفي القيادة الروسية أن تكون موسكو قد تعرضت لهزيمة استراتيجية في الشرق الأوسط بعد الإطاحة بالأسد، أعلن بوجدانوف أن موسكو تحافظ على بقاء قواعدها العسكرية في سوريا لدورها المهم في سياق المواجهة الدولية ضد الإرهاب؛ حيث ذكر، في 13 ديسمبر 2024، أن تنظيم “داعش” لا يزال يحافظ على تواجد في سوريا، وأن مواجهته تتطلب جهوداً جماعية.
2- الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية بين موسكو ودمشق: على الرغم من أن زيارة الوفد الروسي جاءت وسط تغييرات جذرية في المشهد السوري، حيث تمكنت هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري والفصائل المسلحة الأخرى من الإطاحة بالأسد بعد سنوات من القتال ضد قواته المدعومة من موسكو، فإن القادة الجدد في سوريا أبدوا استعدادهم للحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع روسيا، نظراً للروابط التاريخية والمصالح الجيوسياسية المشتركة بين البلدين. فقد وصف أحمد الشرع روسيا بأنها “دولة مهمة” في مقابلة تلفزيونية في 29 ديسمبر 2024.
وقال الشرع إنه لا يريد أن تغادر موسكو دمشق “بالطريقة التي يتمناها البعض”. وقد أكد على أهمية التعاون مع روسيا، مشيراً إلى أن لها دوراً كبيراً في سوريا. كما أضاف أن الإدارة السورية الجديدة تسعى للحفاظ على المصالح المشتركة مع موسكو؛ حيث تعتمد سوريا على الأخيرة في مجال التسلح وإدارة البنية التحتية الحيوية، مثل محطات الطاقة. وقد أكد بوجدانوف أن الزيارة تهدف إلى تعزيز العلاقات التاريخية بين روسيا وسوريا وفق قاعدة المصالح المشتركة، مشدداً على حرص روسيا على وحدة واستقلال وسلامة الأراضي السورية.
3- استمرار التعاون الاقتصادي الثنائي: تأتي القضايا الاقتصادية ضمن أولويات زيارة الوفد الروسي لسوريا ولقاءاته مع مسؤولي الحكومة السورية الجديدة لبحث القضايا الاقتصادية وآفاق التعاون بين موسكو ودمشق، بما في ذلك وضع الشركات الروسية التي كانت قد حصلت على عقود استثمارية في سوريا قبل سقوط النظام السوري. فقد تم إلغاء اتفاقية كبرى للاستثمار في مرفأ طرطوس، تم إبرامها بين الحكومة السورية وشركة روسية خاصة في عام 2019، مما أثار تساؤلات حول مستقبل النشاط الاقتصادي الروسي في البلاد، خصوصاً أن بعض الشركات الروسية الكبرى كانت قد استحوذت على عقود ضخمة في استخراج الفوسفات والتنقيب عن النفط ومشروعات كثيرة أخرى. وهناك إمكانية لتطوير مشاريع مشتركة جديدة تعزز من التعاون بين موسكو ودمشق، خاصة في مجالات الطاقة والبنية التحتية. وتأمل روسيا في الاستفادة من القواعد العسكرية على البحر المتوسط لتنشيط عمليات دخول المساعدات الإنسانية والاقتصادية إلى سوريا.
وقد أشار المسؤولون الروس إلى أهمية التعاون في تطوير البنية التحتية السورية، حيث تم بناء العديد من المرافق الحيوية بمساعدة الاتحاد السوفيتي سابقاً وروسيا حالياً. وهذا التعاون قد يتضمن مستقبلاً تحديث المرافق القائمة أو بناء مرافق جديدة لدعم الاقتصاد السوري، بينما تعاني دمشق من أزمة اقتصادية خانقة. وقد تؤثر الضغوط الداخلية والخارجية على قدرة الحكومة الجديدة على تنفيذ مشاريع اقتصادية كبيرة. ولذلك، تسعى الإدارة السورية الجديدة إلى عدم إثارة المشاكل مع القوى الدولية، وفي مقدمتها روسيا.
4- المشاركة في تحديد مستقبل التحولات السياسية في سوريا: مع تعدد القوى الإقليمية والدولية التي بدأت تنخرط بقوة في تحديد مستقبل سوريا، والانفتاح على الحوار والتعاون مع قيادات هيئة تحرير الشام التي تقود الحكومة السورية الجديدة رغم تصنيف بعضها للهيئة على أنها منظمة إرهابية؛ تسعى روسيا عبر زيارة وفدها إلى دمشق إلى التأكيد على المقاربة التي تتبناها تجاه دول الأزمات في الشرق الأوسط، والقائمة على الدعم المستمر لوحدة الدولة وسلامتها الإقليمية وسيادتها.
وقد ذكر بوجدانوف أن ما تمر به سوريا في السنوات الأخيرة، وحدوث تغيير جذري في القيادة السورية، لن يغير من الاستعداد الروسي للمساعدة في استقرار الوضع السوري من أجل إيجاد حلول مناسبة للمشاكل الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية.
5- إجراء نقاش حول العدالة الانتقالية: ناقش الوفد الروسي والمسؤولون السوريون آليات تحقيق “العدالة الانتقالية” بعد الإطاحة بحليف الكرملين، الرئيس السابق بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، حيث أكدت الإدارة السورية الجديدة على أهمية معالجة أخطاء الماضي واحترام إرادة الشعب السوري، وأشارت إلى أن العدالة الانتقالية يجب أن تكون جزءاً أساسياً من جهود إعادة بناء الثقة بين الحكومة والمواطنين. وقد تناولت المناقشات آليات المساءلة التي تهدف إلى محاسبة الجناة عن الجرائم المرتكبة خلال النزاع. وقد أعرب الجانب الروسي عن استعداده لدعم هذه الجهود، مشدداً على أهمية التعاون بين البلدين في مرحلة إعادة الإعمار بعد الأزمة. وفي هذا السياق، تم التأكيد على أن العدالة الانتقالية ليست مجرد مسألة قانونية، بل هي أيضاً خطوة ضرورية لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي في سوريا.
إشكالية مزمنة
تأمل روسيا بعد سقوط نظام بشار الأسد الذي دعمته لما يقرب من عِقد، في الحفاظ على نفوذها العسكري والاقتصادي في سوريا، بينما تسعى القيادة السورية الجديدة إلى إعادة تقييم بعض الاتفاقيات السابقة لضمان مصالحها الوطنية. وتركز الحكومة السورية على تحقيق الاستقرار والأمن بدلاً من الانتقام، على نحو يُشير إلى أنه من غير المرجح أن تنهي التواجد العسكري الروسي في سوريا في الوقت الحالي. فبعد سقوط حكومة الأسد، قامت هيئة تحرير الشام بمنع أي هجمات على القاعدتين الروسيتين في طرطوس وحميميم، وأقامت طوقاً أمنياً حولهما.
ومع ذلك، من غير المرجح أيضاً أن تطمئن الحكومة المؤقتة موسكو إلى إمكانية بقاء الجيش الروسي في سوريا وسط تصاعد المشاعر الشعبية المعادية لروسيا، نظراً لدعمها للأسد خلال الحرب الأهلية، وتنفيذ القوات الروسية غارات جوية استهدفت منشآت مدنية، مثل المستشفيات، والمدارس، على نحو قد يدفع روسيا لتقليص وجودها العسكري حتى تتخذ سوريا قراراً نهائياً، وهو ما قد لا يحدث قبل أن تحدد الحكومة المؤقتة جدولاً زمنياً دستورياً وانتخابياً أو تعين حكومة انتقالية بشكل رسمي.
وسيدفع إنهاء الوجود العسكري الروسي في سوريا موسكو للبحث عن بدائل أخرى، مثل ليبيا، مما سيؤدي إلى تحول نفوذها بشكل أكبر نحو القارة الأفريقية. وقد تحاول روسيا تعزيز نفوذها العسكري الإقليمي عبر توطيد علاقاتها مع إيران من خلال صفقات أسلحة متقدمة، مثل المقاتلة الروسية من طراز سوخوي-35 التي أكد علي شاداماني نائب منسق مقر خاتم الأنبياء المركزي، لأول مرة، أن إيران اشترتها. وتمثل هذه الطائرات ركيزة ناشئة للشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا وإيران التي تم توقيعها في 17 يناير 2025، على نحو يمكن أن يفرض تداعيات مباشرة على التفاعلات التي تجري في المنطقة، ولا سيما في ظل الخلافات العالقة بين روسيا والعديد من القوى الإقليمية والدولية المعنية بما يجري على ساحتها، خاصة في دول الأزمات، وفي مقدمتها سوريا.
انترريجورنال للتحليلات الاستراتجية