“الجنازة التي لم ترحم أحدًا”
المقال الأسبوعي ” زاوية حادة “
د. هشام عوكل، أستاذ إدارة الأزمات والعلاقات الدولي
في جنازة رسمية مكتظة، وقف الجميع يحيطون بجثمان جندي عربي قُتل في أثناء خدمته في جيش الاحتلال الإسرائيلي. الموسيقى العسكرية تعلو، والضباط يتبادلون عبارات الشكر لروحه التي “ضحت من أجل الدولة”. لكن خلف تلك الكلمات، كان الصمت يخفي أسئلة لا أحد يجرؤ على طرحها: كيف وصل عربي إلى هنا؟ وكيف انتهى به المطاف إلى الموت في خدمة من يحتل وطنه وأهله وأن ينسى المجازر التي ارتُكبت بحق شعبه ليقف في صف من نفّذها؟ كيف تجاوز مشاهد دير ياسين، كفر قاسم، صبرا وشاتيلا، وجنين وقطاع غزة
الجثمان ملفوف بعلم إسرائيل، والمشهد يوحي بأن القصة انتهت. لكن بالنسبة لمن يعرف الحقيقة، الجندي لم يمت هنا فقط، بل مات أول مرة عندما تخلى عن هويته مقابل العمل في صفوف من احتل ارضة وعود بالاندماج في كيان لا يعترف به إلا كأداة. وبينما يلقي الحاضرون الورود على قبره، كان النقاش في عقولهم أعنف: هل نرثيه لأنه أحدنا؟ أم نلعنه لأنه قاتلنا؟
في الطرف الآخر من الأرض، جنازة أخرى. شهيد فلسطيني، شابٌ قُتل برصاص الجيش نفسه. أمه تمسك صورته بيدها، ودموعها لا تشبه دموع الجنازات العادية؛ فهي لا تبكي فقط موت ابنها، بل سنوات الحصار، والخوف، والموت والدمار اليومي المؤجل الذي يعرفه الجميع هنا. الكل يقف ليؤكد: هو شهيد، قتلته يد الاحتلال، ولم يكن أمامه خيار سوى الصمود حتى النهاية.
لكن في هذه المفارقة المميتة، يظهر سؤال آخر: هل كان قاتله هو ذاك الجندي الذي وقفنا أمام جنازته قبل قليل؟ هل يمكن أن يكون الجندي، الذي نشأت قصته على أرضنا وتشارك معنا تاريخنا، هو نفسه من أطلق الرصاصة على هذا الشهيد؟
هذا السؤال يفتح جرحًا عميقًا، ليس فقط في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل في ضمير كل من يتابع المشهد. كيف نواسي أنفسنا عندما يكون القاتل والمقتول يتشابهان في الاسم واللغة والملامح والدم الواحد ؟ وكيف نحدد موقفنا من جندي خان أهله ليحمي المحتل، أو شهيد لم يكن أمامه خيار سوى الموت بكرامة؟
لا عزاء في هذه القصة. الجنازتان لا تجتمعان إلا لتذكرانا بحقيقة واحدة: حين يتورط العربي في خدمة الاحتلال، يصبح الموت نتيجة حتمية. أما الفلسطيني، فمكتوب عليه الموت لأن الحياة في وطنه باتت ترفًا لا يمكن الوصول إليه.
وفي النهاية، تقف الكلمات عاجزة أمام تابوتين؛ أحدهما ملفوف بعلم لا يشبهنا، والآخر محاط بأناس يشبهوننا لكنهم لا يملكون إلا الحزن. المشهد لا يطلب رأينا ولا ينتظر تبريرًا، بل يتركنا أمام حقيقة قاسية: الموت هنا ليس مجرد نهاية، بل لحظة تكشف كل ما تهربنا من مواجهته