الدراما العربية بين الفن والارتزاق!  (1-2)

 سالم الهنداوي

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_   الإنتاجات التلفزيونية الضخمة التي نشاهدها اليوم بالطعم التركي واللبناني، والعقود المالية الكبيرة لعددٍ من نجوم الدراما، كانت من العوامل التي أفسدت بعض الفنّانين وجعلتهم يراهنون على القبول بتأدية أدوار قد لا تليق بمواهبهم ولا تناسب إمكانياتهم الفنّية التي بالتأكيد لا يراها المخرج التاجر في صفقة إنتاج وقبِل بها الممثّل كسباً للمال، والشواهد كثيرة على قنوات عربية تراهن على هؤلاء النجوم كماركات فنّية لا يعنيها احترام المشاهد وخدش الذوق العام بالإفراط في مشاهد الابتذال والإثارة!

   وإذا كان المال هو الهدف الأول في حياة هذا الفنّان أو ذاك، فإن ذلك بقدر ما يسيء لموهبته الحقيقية التي صنعت البدايات عن جدارة، يجعله أسير نجومية قد تنطفيء في أي وقت حين ينخفض سعره في سوق الإنتاج ويخسر قيمة العقود المغرية التي كان يتقاضاها من منتجين راهنوا على تسويق المجون فخسروا الفن!

   أمام هذا الكمّ من الإنتاج الهابط الذي يعتمد على نجوم ونجمات التجميل والإثارة والابتذال، لا تزال ذاكرتنا العربية تحتفظ بالكثير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية الملتزمة الخالصة في صدقها مع المشاهد على الرغم من ضعف نصوصها الأدبية وإمكانيات إنتاجها في ذلك الوقت مع نهاية أربعينيّات القرن الماضي وحتى مطلع السبعينيّات.. وأذكر خلال ظهور التلفزيون الليبي عام 1968 تعرّفنا على أولى الأعمال المصرية في التراجيديا المسرحية المستوحاة من المسرح العالمي مع سلسلة من أعمال الدراما الاجتماعية التي جمعت حولها العائلات الليبية كمسلسل “عدو البشر” إنتاج عام 1964 من بطولة أبو بكر عزّت وعزيزة حلمى وسعد أردش وفيفى يوسف وكريمة الشريف، وهو من تأليف يوسف عزالدين عيسى وإخراج نور الدمرداش، وكذلك سلسلة “الساقية، والضحية، والرحيل” إنتاج 1965 من بطولة سميحة أيوب وصلاح السعدني وزيزى مصطفى وناهد سمير وأبو الفتوح عمارة، من تأليف عبد المنعم الصاوى وإخراج نور الدمرداش، وهو العمل الذي برز فيه نجم الفنّان صلاح السعدني من خلال دور “أبو المكارم” وزيزي مصطفى من خلال دور “تفيدة”.. إلى جانب مسلسل “هارب من الأيام” إنتاج 1962 من بطولة عبد الله غيث ومن تأليف الأديب ثروت أباظة وإخراج نور الدمرداش، ولازالت شخصية “كمال الطبّال” لعبد الله غيث عالقة في أذهاننا إلى الآن، كما لم ينس المشاهد المسلسل الظريف “عماشة عكاشة” إنتاج 1971 من بطولة محمد رضا وإبراهيم سعفان وسيِّد زيّان وسعيد صالح وصفاء أبوالسعود وحسن مصطفى وفاروق فلوكس ونبيلة السيِّد وفاروق نجيب، فكان المسلسل الاجتماعي الأكثر جماهيرية حينها، وهو من تأليف عبد الرحمن شوقي وإخراج محمد سالم.

   لقد تعرّفنا في تلك الفترة الذهبية المخلصة للفن على نخبة من نجوم قطاع الإنتاج بالتلفزيون المصري الذي أنتج سلسلة من الأعمال الفنّية الاجتماعية القيّمة منها المسلسل الشهير “القاهرة والناس” أولى أعمال الفنّان نور الشريف الذي تعرّف من خلاله على الفنّانة بوسي وارتبط بها، ومسلسل “الطريق” لصلاح قابيل الذي مسرح دوراً تراجيدياً في البحث عن أبيه المفقود “السيِّد الرحيمي” ومازال صوته عالقاً في أذهاننا وهو ينادي باكياً حزيناً في شوارع القاهرة الخاوية في الليل: “يا سيِّد يا رحيمي، ابنك محتاجلك يا سيِّد” ولينهار على الطريق كما انهيار الفنّان الكبير على خشبة المسرح، فكان تأثيره فينا ونحن صغار بليغ الاحساس بلوعة الفقد.. وهكذا كان الفنّان الحقيقي يصنع نجوميته فينا ويكسب مشاهدتنا المستمره لأدواره اللاحقة كما دوره في رائعة نجيب محفوظ “زقاق المدق”.

   في تلك الحقبة كانت جميع إنتاجات الدراما العربية، قبل الألوان، بأقل تكاليف الديكور والملابس والمكياج، ومعظمها أعمال سيناريو وحوار لقصص أدباء كِبار مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس ويوسف السباعي ولطيفة الزيّات وثروت أباظة وآخرين، وذلك قبل انتشار الأعمال الحديثة لمؤلّفين بارعين مثل وحيد حامد صانع “شياطين الليل” وبشير الديك صانع “الأرض الطيّبة” ومحفوظ عبد الرحمن صانع “بوابة الحلواني” وأسامة أنور عُكاشة صانع “ليالي الحلمية”.

   على الرغم من محلّية الإنتاج في ذلك الوقت، قبل الألوان والستلايت، إلّا أن المشاهد العربي الذي تابع جُل تلك الأعمال عبر شاشات “التلفزيون المحلي” كان مستمتعاً ومنسجماً بالحكاية المصرية الشعبية القديمة وبثقافة وعراقة المجتمع المصري الأصيل من خلال أفلام السينما الأولى، منذ محمد كريم الأب الروحي للسينما المصرية، مروراً بأحمد يحيى وهنري بركات وأنور وجدي وصلاح أبوسيف وحسام الدين مصطفى وفطين عبد الوهاب وجلال الشرقاوي ويوسف شاهين ومحمد خان وكمال الشيخ ونيازي مصطفى ونادر جلال ومحمد فاضل وحسين كمال وسواهم، حتى إبداعات الراحل عاطف الطيب وخالد يوسف وخيري بشارة وداود عبد السيِّد ورأفت الميهي وعاطف سالم وعايدة الكاشف من الجيل الثالث، وكذلك المسلسلات والتمثيليات التلفزيونية والأعمال المسرحية والسهرات الغنائية التي كان ينقلها التلفزيون العربي لعمالقة الفن المسرحي والغنائي في مصر.. وهنا أؤكد من جديد على أهمية دور الفن في نشر ثقافة المجتمعات، فقد تعرّف المشاهد العربي على مصر الأربعينيّات والخمسينيّات والستينيّات بوجوهها ومعالمها ورموزها وقضاياها، وبهذا فقد زارها مراراً وجال بمدنها وصعيدها وأتقن لهجاتها من خلال ما قدّمته استوديوهات القاهرة من أعمال فنية عرّفته بنجوم من أجيال متعاقبة أحبّها وتأثّر بعطاءاتها فلم تبرح خياله في ذكرياته، فلا غاب يوسف وهبي ولا أمين الهنيدي ولا نجيب الريحاني وعبدالفتاح القصري وحسن فائق، ولا غابت ماري منيب ولا زينات صدقي ولا أمينة رزق ولا سميحة أيوب وتحيّة كاريوكا وهند رستم، ولا يحيى شاهين ولا إسماعيل ياسين وعبد السلام النابلسي، ولا غابت فاتن حمامة وعمر الشريف وليلى مراد وأنور وجدي، ولا توفيق الدقن وفريد شوقي ومحمود المليجي وستيفان رستم، ولا حتى زين العشماوي الذي لم ينل بطولة واحدة في حياته وكان له حضور الكِبار، والقائمة تطول لنجوم كِبار آخرين خرجوا من روايات أدباء مصر التاريخية كالفنّان محمود مرسي في فيلم “الليلة الأخيرة” إنتاج 1963 من سيناريو الأديب يوسف السباعي وإخراج كمال الشيخ، وفيلم “شئ من الخوف” إنتاج 1969 عن قصة قصيرة للأديب ثروت أباظة ومن إخراج حسين كمال، وفيلم “السمّان والخريف” إنتاج 1967 عن رواية نجيب محفوظ ومن إخراج حُسام الدين مصطفى، ولا ننسى عماد حمدي وعادل أدهم وأحمد رمزي وميرفت أمين في رائعة “ثرثرة فوق النيل” لنجيب محفوظ من إخراج حسين كمال، وكذلك فؤاد المهندس وسميحة أيوب وشويكار في “أرض النفاق” من تأليف يوسف السباعي وإخراج فطين عبدالوهاب.

   الإنتاج العربي الثاني كان لسوريا التي وإن خسرت السينما مبكِّراً بإنتاجٍ قليل مثل لبنان، لكنّها ربحت التلفزيون العربي في سلسلة مدهشة من الأعمال الدرامية الاجتماعية والسياسية المتنوّعة قادها نجوم كِبار كدريد لحّام ونهاد قلعي ورفيق السبيعي وهاني الروماني ونجاح حفيظ وهالة شوكت وأنطوانيت نجيب وياسين بقوش، والجيل الثاني كسليم كلاس وياسر العظمة وخالد تاجا ومنى واصف ورغدة وملك سُكّر وصباح جزائري وأسعد فضّة وأديب قدّورة ومها الصالح وسلمى المصري وجيانا عيد، إلى الجيل الثالث الذي أبدع في الدراما التاريخية والملحمية كعبد الرحمن أبوالقاسم ورشيد عسّاف وأيمن زيدان وسوزان نجم الدين وجمال سليمان وعبد الحكيم قطيفان وصباح عبيد ونادين الخوري وسلّوم حدّاد وبسّام كوسا وفايز قزق وعبّاس النوري وعبد الهادي الصبّاغ وأيمن رضا ومرح جبر وسواهم، وصولاً إلى الجيل الرابع أمثال حاتم علي وعابد فهد وجهاد سعد وسامر المصري وتيم حسن وعارف الطويل وكاريس بشّار وأندريه سكاف ومنعم عمايري ومحمد حداقي وقصي خوري وباسم ياخوري وسلافة معمار وأمل عرفة وسلاف فواخرجي وباسل الخياط وغيرهم كُثر من نجوم متمكّنين من أدوارهم درسوا التمثيل في معاهد دمشق وأوروبا وأخلصوا لمواهبهم فكانوا في صميم حركة فنية مثقّفة رفيعة المستويات قدّمت أعمالاً ذات قيم تاريخية وسياسية واجتماعية مستنيرة كان لها النصيب الأوفر في العرض على المستوى العربي مع بدايات البث الفضائي في مطلع التسعينيّات، وكان خلدون المالح وبسّام الملّا والمثنى صبح وباسل الخطيب ونجدت انزور وحاتم علي ورشا شربتجي من أبرز المخرجين لهذه الأعمال الدرامية التي ازدهرت في أحياء دمشق واستوديوهاتها قبل أحداث العقد الماضي التي تسبّبت في هجرة عدد من النجوم إلى بيروت والقاهرة ودبي، لتبدأ بهم المرحلة الثانية من الأعمال الدرامية المشتركة على حساب شركات إنتاج، لبنانية وتركية، راهنت على ظروف هجرة هؤلاء النجوم!

 نقلا عن صحيفة الوسط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post هولندا تقوم بترحيل فئة من اللاجئين
Next post  إنتظار