الجزء الثالث من الدراسة النقدية:آليات جمالية التلقي في ديوان المحجوب

Read Time:4 Minute, 41 Second

الكاتب: عبد اللطيف البشكار

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_آلية الفجوات (مواقع اللاتحديد) في الديوان :

إن الشاعر محيي الدين محجوب من الشعراء الذين يكتبون لمتلقي ،يتيح له المشاركة في كتابة قصيدته ،من خلال تعمد إهماله لفراغات في نصوصه الشعرية ، لأن هذه البؤر الغائرة

تعطي للنص حياته ،وهذه الفجوات تأخذ العديد من المظاهر المزروعة في ثنايا النص

،كالألغاز والرموز المبهمة والإيحاءات الضمنية والمفارقات والتناقضات وجميع الأفكار

الغامضة والبياضات ،كالحذف والانقطاعات وكافة أوجه الانزياحات في النص ،وهي تتمترس في مداخل النص لتحرس الخزائن المشحونة بمعاني النص ،والتي تنتظر فارسا مقداما لفتحها ،وفض ما استعصى من شفراتها،فتقنية البياض كشاهد حاضرة في مقدمة كل قصائد الديوان،

ومواقع اللاتحديد تنمي دورا إضافيا في تعميق التجربة وتشرك القارىء بأن تتيح له إمكانية الإضافة للعمل الأدبي،لأنه يتشكل بفعل القراءة (وأن جوهره ومعناه لا ينتميان إلى النص بل إلى العملية التي تتفاعل الوحدات النصية مع تصور القارىء حيث صار النص لا يعيش إلا من خلال القارىء )(1) ،وهذا ما نلحظه في ديوان المحجوب ،ويمكننا تتبع الفجوات في القصيدة التالية بعنوان :

1 ـ غدوت ريحا(2) :

تقبع الفجوة غائرة في عنوان القصيدة (غدوت ريحا) اندثار التكوين المادي لكائن متحولا إلى ريح ،نشعر بأثرها ولا نراها ،يقول الشاعر :

نزفت فكرة

سحائبها

في حديقتي

تقابلنا الفجوة باستهلال النص في قوله 🙁 نزفت فكرة) وعادة مصدر النزيف من الجرح ،ينتج عن أداة حادة تمزق اللحم ، ينتج عنها ألم ومعاناة وتخور القوى ،وسرعان ما يربكنا بتحول النزيف إلى سحائب بقوله(سحائبها) هذا السحاب المتساقط مطره في حديقته ،وعند ولوجنا إلى الفجوة وفك شفرتها، نجد أن الفكرة النازفة هي بنت العقل الإنساني ،مصدرها الإنسان الذي يجهد نفسه في معاناة وتأمل للوصول إلى حقائق عقلية أو إبداعية تخاطب الوجود ،وحينما يستوثق من نتائجها ،تهبط بردا وسلاما كسحائب ممطرة في حدائق الفكر مهد التأمل

ثم يحيلنا في المقطع الموالي إلى صورة أخرى من صور النزيف بفجوة جديدة بقوله :

نزفت وردة

دم بستاني

تلك الفكرة القيمة التي سقت البستان فنما وأخضر فأزدهر وردا ،إنما تجسد قدرة الإنسان على التخطيط

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فوزي عيسى،النص الشعري وآليات القراءة،دار المعارف الإسكندرية،ط1،1997م.

ينظر:ديوان تمثال يخون الحجر،محيي الدين محجوب،ص18.

المحكم في إدارة شؤون حياته بمختلف أوجهها كالاجتماعية والسياسية والعاطفية في هذا

البستان الشاسع والمتمثل في الكون ،كانت الوردة النضرة الجميلة محصلته المرجوة التي استنفذت دمه بما مده بها من غذاء من تربته الخصبة ،وهي إشارة إلى دور المجتمع المتمم لجهد الفرد ،وهذا تأويل حضن البستان للوردة وتوخيه رعايتها بالعناية ،فهي تتغذى على دمه النازف ،ثم ينقلنا إلى فجوة نزيف الكأس بقوله :

حين نزفت كأسي

غدوت ريحا

ارتبطت الكأس كأيقونة علامتية بحمولة ترميز ثقيلة في الشعر العربي ،عبر جميع عصوره التاريخية المختلفة،كدال مألوف تراثيا يقودنا لفك شفرات المعاني ،وقد وردت على الغالب مؤنثة ،ففي القرآن الكريم وردت اللفظة في كل المواضع التي ذكرت فيها مؤنثة كقوله تعالى:( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا)(1) ،وجوزوا التذكير،وللكأس خصوصية في الثقافة العربية ولمعناه المؤنث في التجربة الصوفية مذاق مميز ،خاصة في شعر المتصوفة ،ففيه تنكشف الأنثى بوصفها تجسيدا للحب الإلهي الذي يحيل إلى تجلي الصورة المحسوسة، وهو قلب الشيخ العارف والكأس أيضا مغرفة الحق يغرف بها من ذلك الشراب الطهور المحض الصافي لمن شاء من عباده المخصوصين2 ،والخمر في السياق الصوفي يتحول إلى رمز يشير إلى “خمرة المحبة الإلهية، تسقى بيد الحق”(3) .

وصول الشاعر إلى أعلى درجات السمو والتجلي والقرب من الذات الإلهية بشربه كأس الكشف (نزفت كأسي) تلك لحظة شرب الحق ،خمرة اليقين بسطوع أنواره في القلوب وهبوب ريح المحبة ،ولذلك عبر الشاعر محيي الدين محجوب عن همة عالية في بلوغ هذا المقام الرفيع من خلال فعل التسامي بتحوله إلى ريح بمجالدة وتصبر ،التي أخذت مظهر النزيف .

2 ـ قصيدة عقارب(4) :

أودت الحرب

بعقارب الساعة!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القرآن الكريم ،سورة الصافات،الآية 45 .

عبد الله أحمد بن عجيبة،معراج التشوف إلى حقائق التصوف،تحقيق د.عبد المجيد خيالي ،مركز التراث الثقافي المغربي ،المغرب الدار البيضاء دط،1224 هـ .

إبراهيم محمد منصور،الشعر والتصوف الأثر الصوفي في الشعر العربي ،دار المعارف ،القاهرة ،دط،1999م.

ينظر محيي الدين محجوب،ديوان تمثال يخون الحجر،ص51 .

لا دكاكين

لمصلحي الساعات.؟

عقارب الساعة

تتربص بنا

في الثواني والدقائق .

يحاول الشاعر محيي الدين محجوب أن يجعل القاريء في حالة انتباه واستغراب، من خلال توظيف مؤشرات تشع بأفكار تعكس الواقع الذي يعانيه الشاعر والمتلقي في محيطه ،ومن هنا كانت أهمية البعد التاريخي للعملية الأدبية التي نظر لها “ياوس” فالمتلقي للنص في هذا العقد الزمني ستحيله حمولة النص إلى الأحداث المؤسفة التي تمر بها بلاد الشاعر ليبيا ،من حروب وانتهاكات إنسانية .

اتخذ من صيغة الجمع “عقارب” محورا ثابتا ،دلالة على تعدد القصدية التي سيفرزها هذا الدال،في الفجوة الأولى (أودت الحرب… بعقارب الساعة) أية حرب؟ ,أية ساعة؟ وما علاقة ذلك بالعقارب السامة والزمن ؟

متن النص تتوسطه فجوة ثانية(لا دكاكين … لمصلحي الساعات) ،من هم مصلحو الساعات ؟ولماذا لم يجدوا الدكاكين ؟

الفجوة الثالثة (عقارب الساعة تتربص بنا) أية عقارب التي تتربص بنا ؟وأين ؟ .

لنقترب من فض مكنونات الشفرات السابقة ،ففي فجوة (أودت الحرب…بعقارب الساعة) إحالة إلى انهيار حركة الزمن ،وتوقف عجلة الحياة بالحرب فلم تعد قيمة لمعرفة الوقت المرتبط بمستقبل من وقعوا ضحيتها ،في الفجوة الثانية ،استمرار الحال على ما هو عليه ،فلا أمل لظهور خيرين لهم القدرة علي التأثير في الأطراف المسببة للحرب (لا دكاكين … لمصلحي الساعات) ، لعل هؤلاء المصلحين يعيدون ضبط حركة الزمن بمجتمعهم وينقذون وطنهم من الدمار .

في الفجوة الأخيرة (عقارب الساعة… تتربص بنا) ،في هذا المقطع العقارب الثانية غير الأولى اللصيقة بزمن الحرب ،فالأخيرة يشير رمز العقارب إلى الأشخاص والجهات أو المنظمات المتسببة في الحرب فالعقارب كائنات سامة قاتلة ،ومازالت(تتربص بنا) مصرة على استمرارها لتدمير الوطن ،لأنها تنفث سمومها القاتلة ببث الفتن والمؤامرات بين أبناء الوطن ،ومن تتبعنا لهذه القراءة ،وضبطنا نقاط الغموض المتمثلة في الفجوات وبفك شفراتها أحسسنا بلذة وجماليات التلقي في هذا النص .

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_