
دوافع إدارة “بايدن” للإبقاء على القوات الأمريكية في سوريا
عمرو عبد العاطي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_تمثل الأزمة السورية واحدة من أكثر القضايا تعقيداً في السياسة الخارجية الأمريكية؛ حيث تداخلت فيها الأبعاد الاستراتيجية والسياسية والإنسانية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أعلنت أكثر من مرة نيتها تقليص وجودها العسكري في الشرق الأوسط، فإنها لا تزال تحتفظ بحضور عسكري في مناطق استراتيجية داخل سوريا؛ حيث لديها ما يقرب من 900 جندي؛ الأمر الذي يمنح واشنطن قدراً من التأثير على مجريات التطورات التي تشهدها سوريا عقب نجاح الفصائل السورية بقيادة هيئة تحرير الشام في إسقاط نظام “بشار الأسد”، في 8 ديسمبر 2024، وكذلك الحفاظ على مصالحها في منطقة الشرق الأوسط انطلاقاً من الأراضي السورية التي تُعَد ساحة لخصوم الولايات المتحدة لتعزيز نفوذهم الإقليمي والدولي.
وعلى الرغم من تأكيد الرئيس المنتخب “دونالد ترامب”، عقب سقوط نظام “الأسد”، أن سوريا ليست ذات أهمية استراتيجية للولايات المتحدة، ولا سيما مع إعلانه خلال إدارته السابقة عن رغبته في سحب القوات الأمريكية من سوريا، رغم محدودية عددها؛ فإن إدارة الرئيس المنتهية ولايته “جو بايدن”، أعلنت في 10 ديسمبر 2024 أن القوات الأمريكية ستظل في سوريا لمهمة كبيرة ستُكملها هناك.
دوافع البقاء
تتعدد الأسباب التي دفعت نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي “جون فاينر” للإعلان عن استمرار الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:
1– مواجهة تنظيم داعش ومنع عودته: لا تزال لدى الولايات المتحدة هواجس من أن قيادة هيئة تحرير الشام التي كانت لها روابط مع تنظيمات إرهابية قبل إعلان الانفصال عنها، لسوريا في أعقاب سقوط نظام “الأسد”، قد تسمح بأن تكون الأراضي السورية ملاذاً آمناً للتنظيمات الإرهابية، ولا سيما تنظمي القاعدة وداعش، والانطلاق منها لتنفيذ هجمات إرهابية ضد الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، وكذلك ضد حلفاء واشنطن. ورغم هزيمة تنظيم داعش جغرافياً، فإن الإدارة الأمريكية لا تزال ترى أن خطر التنظيم لم ينتهِ تماماً، ولا سيما مع استمراره في عملية التجنيد للأتباع، وقدرته على استغلال انشغال قوى المعارضة السورية المتنافسة على المكاسب السياسية بعد سقوط نظام “الأسد” على الانتشار وإعادة السيطرة الأرضية.
ويسمح بقاء الوجود العسكري الأمريكي في سوريا رغم محدوديته باستمرار الجهود الأمريكية لمنع داعش وغيره من الجماعات الإرهابية، من تنظيم صفوفها، خاصةً في المناطق الشمالية الشرقية؛ حيث تنشط خلاياه النائمة، واستمرار الضربات العسكرية ضدها. ويشير مسؤولون أمريكيون إلى أن غياب الوجود العسكري الأمريكي في سوريا يمكن أن يؤدي إلى فراغ أمني؛ ما يساعد التنظيم على العودة بقوة.
وعقب سقوط نظام “الأسد”، شنَّت القيادة المركزية الأمريكية، في 8 ديسمبر 2024، ما يقرب من 75 غارة جوية دقيقة استهدفت معسكرات وعملاء معروفين لداعش وسط سوريا، بهدف منع التنظيم الإرهابي من القيام بعمليات خارجية، وضمان عدم سعيه إلى الاستفادة من الوضع الحالي لإعادة تشكيل نفسه بحسب بيان القيادة المركزية الأمريكية.
وقد قال “فاينر” إن تلك الضربات تمثل رسالة مفادها أن الولايات المتحدة لن تسمح بعودة التنظيم مرة ثانية إلى سوريا، كما قالت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” “سابرينا سينج”، في 9 ديسمبر 2024، إن الولايات المتحدة وشركاءها تريد التأكد من أن تنظيم داعش، الذي لا يزال له وجود في سوريا، لا يمكنه استغلال فراغ القيادة وممارسة السيطرة مرة أخرى على مساحات واسعة من البلاد.
2– دعم قوات سوريا الديمقراطية الكردية:
يهدف الوجود العسكري الأمريكي إلى تقديم الدعم لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” المدعومة من الولايات المتحدة، التي لعبت دوراً حاسماً في محاربة تنظيم داعش وتأمين استقرار المناطق الشمالية الشرقية. ويعتبر دعم هذه القوات جزءاً من استراتيجية الولايات المتحدة للحفاظ على نفوذها في سوريا، وهو ما يتماشى مع أهدافها في منع أي توسع للنفوذ الإيراني أو التركي على حساب الحلفاء المحليين.
ومن خلال دعم قوات سوريا الديمقراطية، التي تسيطر على معظم المناطق الغنية بالنفط، يمكن للولايات المتحدة ضمان عدم وقوع هذه الموارد في أيدي الكيانات المعادية لها، ومنها تنظيم داعش أو الجماعات المدعومة من إيران. وهذه الشراكة الاستراتيجية حيوية لكل من الاستقرار الاقتصادي في المنطقة ولتوفير حاجز ضد الخصوم المحتملين، ومن ثم تعزيز التحالفات الأمريكية في بيئة جيوسياسية معقدة.
وتشير تقديرات أمريكية إلى أن الوجود العسكري الأمريكي بمنزلة رادع ضد العدوان المحتمل من القوى الإقليمية الأخرى، مثل تركيا، التي عارضت تاريخياً الحكم الذاتي الكردي؛ فقد أعربت الولايات المتحدة عن عزمها حماية حلفائها وسط تصاعد التوترات بين القوات المدعومة من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية. ومن خلال الحفاظ على موطئ قدم في سوريا، تشير واشنطن إلى التزامها بدعم شركائها في صراع متعدد الأوجه يشمل فصائل مختلفة تتنافس للسيطرة بعد رحيل “بشار الأسد”.
ولكن قد يؤدي إعلان الفصائل السورية سيطرتها بالكامل على دير الزور ومنبج، وانسحاب قوات سوريا الديمقراطية منها، إلى تغيير في ديناميات المساعدة الأمريكية والموارد المخصصة لقوات سوريا الديمقراطية؛ حيث قد تعطي واشنطن الأولوية للشراكات مع الجماعات التي تتماشى بشكل أوثق مع أهدافها الاستراتيجية، ولاسيما أن فقدان قوات سوريا الديمقراطية أراضي كبيرة لصالح الفصائل قد يضعف قدرتها على محاربة تنظيم داعش والجماعات المسلحة الأخرى في المنطقة بشكل فعال.
3– احتواء النفوذ الإيراني في سوريا: كانت إيران حليفاً قوياً لـ”الأسد” طوال الحرب الأهلية؛ حيث قدمت الدعم العسكري واللوجستي لنظامه. ومع سقوط نظام “الأسد”، قد تحاول طهران توسيع تمركزها في سوريا من خلال الجماعات والميليشيات الموالية لها. ويعد الوجود العسكري الأمريكي في سوريا بمنزلة رادع ضد توسع النفوذ الإيراني؛ ما يضمن عدم سيطرة وكلاء طهران على المناطق أو الموارد الاستراتيجية، وخاصةً حقول النفط الحيوية لتمويل عملياتهم؛ فمن خلال دعم قوات سوريا الديمقراطية والشركاء المحليين الآخرين، تهدف الولايات المتحدة إلى تأسيس حاجز ضد النفوذ الإيراني والحفاظ على توازن القوى في المنطقة.
4– التصدي للنفوذ الروسي في سوريا: يعد الحفاظ على وجود عسكري أمريكي في سوريا بعد سقوط نظام الرئيس “بشار الأسد” أمراً محورياً لاحتواء النفوذ الروسي في المنطقة. وتدرك الولايات المتحدة أن انسحابها الكامل من سوريا سيمنح موسكو مزيداً من السيطرة على مناطق استراتيجية بسوريا. ويحد الوجود الأمريكي في سوريا من نفوذ موسكو التي تسعى إلى توطيد سيطرتها في شرق المتوسط. ومن خلال الحفاظ على عملياتها العسكرية، يمكن للولايات المتحدة الحد من قدرة موسكو على إظهار نفوذها من خلال دعمها للموالين المتبقين لـ”الأسد”.
5– تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المتضررين: أدى الصراع المستمر في سوريا إلى اندلاع أزمة إنسانية وخيمة؛ حيث شرد الملايين الذين يحتاجون إلى المساعدات. ومن خلال الحفاظ على وجود عسكري، يمكن للولايات المتحدة تسهيل تقديم المساعدات الإنسانية وضمان وصولها إلى المناطق الأكثر تضرراً من النزاع دون وقوعها في أيدي الجماعات المعادية، أو عرقلتها من قِبل الفصائل المتنافسة.
6– تعزيز القدرة على مواجهة التهديدات الإقليمية: يُمكِّن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا واشنطن من جمع المعلومات الاستخبارية حول التهديدات الإقليمية، ومنها الأنشطة الإرهابية وتحركات الجهات الفاعلة المعادية للولايات المتحدة، مثل إيران وروسيا. وهذه المعلومات الاستخبارية حيوية لتشكيل قرارات السياسة الخارجية الأمريكية والاستراتيجيات التشغيلية في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط؛ فمن خلال وجود جنود أمريكيين على الأرض، يمكن للولايات المتحدة مراقبة التطورات عن كثب والاستجابة بشكل أكثر فاعليةً للتهديدات الإقليمية الناشئة.
معضلة “ترامب”
يواجه الرئيس المنتخب دونالد ترامب معضلةمعقدة في سوريا بعد سقوط نظام “بشار الأسد” وسيطرة الفصائل المرتبطة بجذور إرهابية على العاصمة دمشق. وقد أكدت تصريحات “ترامب” السابقة رغبته في عدم التدخل في سوريا التي يصفها بأنها “أرض الرمال والموت”، وكرر معارضته الحروب الأمريكية المستمرة في الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن الوضع السوري ليس “معركتنا”. وهذا النهج عززته تصريحات نائبه المنتخب “جي دي فانس” وتعيينه المحتمل لـ”تولسي جابارد” مديرةً للاستخبارات الوطنية، وهي من أشد المعارضين للتدخل الأمريكي في سوريا.
وتمثل عودة داعش مصدر قلق كبير لإدارة ترامب” المقبلة؛ حيث يخشى المسؤولون من أن يؤدي سقوط “الأسد” إلى فراغ أمني تستغله الجماعات الإرهابية لإعادة تنظيم نفسها. ورغم معارضته التدخلات العسكرية، أظهر “ترامب” سابقاً استعداده لاستخدام القوة في سوريا، كما حدث في 2017 و2018؛ حين أمر بضربات جوية ضد “الأسد” رداً على استخدامه الأسلحة الكيميائية. وسيكون “ترامب” مدفوعاً للحفاظ على إنجازاته السابقة، خاصة فيما يتعلق بدحر “خلافة” داعش خلال ولايته الأولى. وقد يدفع الوضع المعقد في سوريا “ترامب” إلى إعادة تقييم استراتيجيته؛ فإذا استمر تهديد داعش أو زادت الأنشطة الإيرانية، قد يجد “ترامب“نفسه مضطراً إلى الحفاظ على بعض القوات لضمان عدم تفاقم الوضع الأمني في سوريا، ومن ثم في منطقة الشرق الأوسط.
انترريجورنال للتحليلات الاستراتيجية
Average Rating