د. محمد عباس ناجي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_تحرص إيران بصفة مستمرة على استعراض قدراتها العسكرية، لا سيما في مجال الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز، والقوات البحرية، والطائرات من دون طيار، لكن اللافت في هذا السياق، أن الاستعراض الأخير شهد تصاعداً لافتاً خلال الفترة الأخيرة؛ إذ كان يقتصر في المرحلة الماضية إما على الحرس الثوري أو الجيش، لكنه في الوقت الحالي بات يتضمن الكشف عن تطورات نوعية في كلتا المؤسستين، كما أنه كان يركز على قطاع عسكري واحد، لكنه في الآونة الأخيرة بات يركز على معظم القطاعات إن لم يكن مجملها.
ففي هذا السياق، قام الرئيس مسعود بزشكيان، في 2 فبراير 2025، بزيارة مبنى وزارة الدفاع الإيرانية؛ حيث استعرض أحدث ما توصلت إليه، ولا سيما النسخة الجديدة المطورة من الصاروخ الباليستي “عماد” الذي يصل مداه إلى 1700 كيلومتر، ويبلغ طوله 16 متراً، وقطره 1.25 متر، ويحمل رأساً يتم توجيهه حتى لحظة الاستهداف، كما تم الكشف خلال الزيارة عن منظومة الدفاع الجوي الجديد “باور 373–2″، وهي نسخة مطورة من منظومة “باور”، تم تزويدها برادار للتتبع والتحكم في إطلاق النار.
وبالتوازي مع ذلك، كشفت القوات البحرية في الحرس الثوري عن مدينة صاروخية جديدة تحت الأرض في السواحل الجنوبية لإيران، خلال زيارة أجراها قائد الحرس الثوري حسين سلامي إلى القاعدة، الذي أعلن عن إنتاج صاروخ استراتيجي جديد يصل مداه إلى أكثر من ألف كيلومتر، كما قال رئيس منظمة الفضاء الإيراني حسن سالاريه، في 2 فبراير 2025، إن إيران تخطط لإنتاج أقمار صناعية أثقل من 500 كيلوجرام.
دوافع عديدة
يمكن تفسير تعمد إيران في هذا التوقيت الكشف عن هذه المنتجات العسكرية الجديدة في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها فيما يلي:
1– الرد على زيارة رئيس وزراء إسرائيل إلى واشنطن: كان لافتاً أن تعمد إيران إلى استعراض قدراتها العسكرية والكشف عما تطلق عليه “إنجازات” أو “قفزات نوعية” جديدة في تلك القدرات، وهو الاستعراض الذي توازى مع الزيارة التي يجريها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن؛ حيث سيلتقي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وفي رؤية طهران، فإنه رغم أن ملف الحرب في قطاع غزة سوف يكون محوراً رئيسياً في المحادثات التي سوف يجريها نتنياهو وترامب، فإنها ترى أن إدارة التصعيد معها سيكون هو المحور الأهم.
وفي رؤيتها، فإنه رغم وجود شكوك في مدى إمكانية استمرار اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة الذي بدأ تنفيذه في 9 يناير 2025، واحتمال تجدد الحرب مرة أخرى، فإن ذلك لا ينفي أن إسرائيل تمكنت من القضاء على معظم القدرات العسكرية لحركة حماس، بجانب حزب الله اللبناني. ومن ثم، فإن الملف الأهم الذي قد يكون على قمة أولوياتها حالياً هو كيفية التعامل معها، بعد تراجع نفوذها الإقليمي، خاصةً عقب سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وتفاقم أزمة برنامجها النووي.
ومن هنا، يمكن تفسير أسباب تعمد إيران، بالتوازي مع استعراض القدرات العسكرية، توجيه تحذيرات مباشرة من العواقب التي يمكن أن تنجم عن استهداف منشآتها النووية؛ إذ قال وزير الخارجية عباس عراقجي، في أول فبراير 2025، إن “إيران سوف ترد بشكل فوري في حالة تعرض منشآتها النووية لهجوم؛ حيث ستندلع حرب شاملة في المنطقة”، مضيفاً: “ستكون من أكبر الأخطاء التاريخية إذا أقدمت الولايات المتحدة على ذلك”.
2– تعمُّد تأكيد ولاء الجيش للنظام في إيران: تعمد النظام الإيراني السماح لمؤسسة الجيش باستعراض قدراتها العسكرية، والكشف عن بعض ما تسميه “الإنجازات” في هذا الصدد، ومنها صاروخ “عماد الباليستي”، بالتوازي مع اقتراب حلول يوم 11 فبراير، الذي تحل فيه ذكرى إعلان الجيش الإيراني “الحياد” خلال فترة الثورة التي قادها رجال الدين ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي في عام 1979، على نحو كان له دور حاسم في نجاح الثورة في الإطاحة بنظام بهلوي.
لكن تأخر الجيش في إعلانه ولاءه لنظام الخميني أثار شكوكاً قوية لدى رجال الدين، دفعتهم إلى الإصرار على تأسيس الحرس الثوري لحماية النظام الديني الجديد من احتمال حدوث انقلاب عسكري محتمل من جانب الجيش. ومن هنا، كان “مستوى الثقة” متغيراً رئيسياً له دور مؤثر؛ ليس فقط في العلاقة بين الجيش والنظام، بل أيضاً في توازن القوى مع الحرس الثوري الذي مال بشكل واضح لصالح الأخير.
وقد تعمدت بعض قوى المعارضة الإيرانية الإشارة إلى وجود فجوة بين الجيش من ناحية والنظام والحرس الثوري من ناحية أخرى، وشنت حملات متواصلة في هذا الصدد، خاصةً بعد سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، في ديسمبر 2025، على نحوٍ كان له دور في دفع النظام إلى شن حملة مضادة تؤكد ولاء الجيش للنظام، وعدم وجود فارق بين الأخير والحرس الثوري، خاصةً أن الجيش بات يمتلك بدوره معدات عسكرية نوعية مثل الصواريخ الباليستية، التي سمح له بالكشف عن آخر مراحل تطويرها خلال زيارة بزشكيان إلى مبنى وزارة الدفاع.
3– مواجهة إيران تراجع نفوذها في المنطقة: ترى إيران أن قدراتها العسكرية أصبحت هي الخيار “الوحيد” المتاح أمامها خلال المرحلة الحالية في إدارة التصعيد مع خصومها الإقليميين والدوليين؛ فخلال مرحلة ما قبل الحرب التي شنتها إسرائيل في قطاع غزة ثم لبنان، بدايةً من السابع من أكتوبر 2023، كانت حسابات إيران مختلفة في هذا الصدد؛ حيث كانت تضع ضمن هذه الحسابات نفوذها الإقليمي لدى وكلائها في دول الصراعات، الذين كانوا على استعداد للانخراط في أي حرب مباشرة قد تكون إيران طرفاً رئيسياً فيها.
أما الآن، وبعد القضاء على القسم الأكبر من القدرات العسكرية لحركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني، فإن هذه الحسابات اختلفت؛ حيث لم يعد لدى هؤلاء الوكلاء القدرة على الانخراط في تلك الحرب المحتملة، وهو ما يفرض مزيداً من الضغوط على إيران، التي تدرك حالياً أن احتمالات استهدافها من جانب الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل أصبحت أعلى بكثير مقارنةً بما كان عليه الوضع قبل أكتوبر 2023.
ومن هنا، فإن إحدى الرسائل المباشرة التي تسعى إيران إلى توجيهها عبر استعراض قدراتها العسكرية المختلفة – من جانب الحرس الثوري والجيش – تتمثل في تأكيد امتلاكها القدرة على رفع كُلفة أي عمل عسكري قد تتعرض له، ومواجهة الادعاءات التي تروج لها إسرائيل وتقوم على أن الهجمات العسكرية التي شنتها داخل إيران بواسطة أكثر من 100 مقاتلة في 26 أكتوبر 2024 أسفرت عن تدمير منظومة الدفاع الجوي الإيرانية بالكامل.
4– تعزيز الموقع التفاوضي في مواجهة ترامب: رغم أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يوجه بعد من الرسائل ما يفيد انفتاحه على إجراء مفاوضات مع إيران حول الملفات الخلافية المختلفة، فإن إيران لا تستبعد هذا الاحتمال؛ حيث ترى أن الخيار الدبلوماسي – بجانب العقوبات – قد يكون له الأولوية بالنسبة إلى إدارة ترامب؛ من أجل الوصول إلى تسوية لأزمة البرنامج النووي الإيراني. وفي ضوء هذا، أكدت إيران، على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية إسماعيل بقائي، في 3 فبراير 2025، أنها لم ترَ أي إشارة من الإدارة الأمريكية الجديدة بشأن التفاوض. وقال بقائي: “عندما تكون ظروف التفاوض مواتية، وحين نصل إلى قناعة بأننا قادرون عبر الحوار والتفاوض على تأمين وضمان مصالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومصالح الشعب الإيراني، فإننا سنمضي قدماً في هذا الاتجاه من دون تردد”.
ومن هنا، تسعى إيران عبر استعراض قدراتها العسكرية إلى تعزيز موقعها التفاوضي أمام إدارة ترامب، وتأكيد أن الرؤية التي تتبناها دوائر عديدة في واشنطن وتل أبيب وتقوم على أن إيران الآن باتت مستعدة لتقديم تنازلات كبيرة ونوعية بعد تراجع نفوذها الإقليمي وتدمير منظوماتها الدفاعية – حسب الادعاءات الإسرائيلية – لا تتواءم مع المعطيات الموجودة على الأرض، بدليل نجاحها – حسب إعلاناتها المتكررة – في إنتاج منظومات دفاع جوي جديدة، وتطوير صواريخها الباليستية.
ختاماً، يمكن القول إن إيران سوف تمعن في توجيه رسائل مزدوجة خلال المرحلة القادمة، مفادها أنها مستعدة لأي من المسارين المحتملين لاتجاهات تصعيدها مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. وبمعنى آخر، فإن إيران تسعى إلى تأكيد استعدادها للتفاوض مع إدارة ترامب، لكنها في الوقت نفسه تحرص على الترويج لقدرتها على الانخراط في تصعيد عسكري، وإن كانت هذه القدرة لم تُختبَر بعدُ بشكل كبير.
انترريجورنال للتحليلات الاستراتيجية
Average Rating