دراسات “الذات الأنثوية حوار الأنا والأنتقراءة في ديوان : ” في مهب الروح يشتعل البوح جمرا “لمنى عثمان
0
0
د. أحمد كرماني عبد الحميد
وجعٌ ..
أن تكوني امرأة ..
بملامح قصيدة ..
صباح التشرد في زقاق الأبجدية..
وولوج غابات المجاز ..
نقطف التوت ..
ونعصر أعناب البلاغة
ومساء الميلاد على سطور من ضياء!!
نفيض نبضا
ونحتسي شهد الكلم !!
أريد أن أقرأ هذا الديوان من هذا المفتتح ، هنا حديث الذات ، حديث المرأ ة الشاعرة المبدعة، تبدو المرأة هنا في ملامح قصيدة ، تعبيرا عن الجمال الفني ، تحمل وجعا ، أظنه هم الإبداع والارتحال في عالم اللغة ، فبين ضيق الأبجدية ممثلا في زقاق ، وسعة المجاز وكثافته ممثلا في غابات، تتحرك الذات الشاعرة، بحثا عن ميلاد جديد من ضياء ، ميلاد على سطور، يشير بالفحوى إلى مركب يعادل معاناة الذات المبدعة ، بحثا عن جمال من شهد الكلم يُحتسى ، فيمثل اللذة والمنجاة حين يعانق النبض قرين الوجدان شرابا من الكلم، في نهاية مقطع تقوم شعريته على جمل قصيرة ، يسمح التلقي هنا افتراض افتتاح المقطع بخبر لمبتدأ محذوف ، أو فرضية تقديم الخبر على على المبتدأ المؤول من المصدر في السطر الثاني لتصبح العبارة ” أن تكوني امرأءة بلامح قصيدة وجع ” ، وفي كل ما يعطي للوجع هيئة التئبير اللغوي ، يعززه تلك الوقفات التأملية ، والتوازن الرهيف بين الكلمات :” صباح / مساء ، تشرد في زقاق الأبجدية /ميلاد على سطور ” ، ومتوالية الأفعال : “نقطف ونعصر وتفيض نحتسي”. مما يحيل النص إلى تجربة تأمل وجودي في ماهية الإبداع . ويوظف الالتفات بالضمير هنا بذكاء رهيف؛ فما إن يبدأ المقطع الشعري بضمير المخاطب المفرد ” أن تكوني ” حتى يتحول الخطاب إلى ضمير المتكلم بصيغة الجمع “نقطف ، ونعصر،..” مما يوحي باستحضار المتلقي و مشاركة التجربة من جهة ، وانقسام الذات تعبيرا عن حيرتها وشدة الوجع في ظلال تجربتها الروحية عميقة ، هي تجربة البحث عن المعنى ، عما يكمل الروح.
في ظني ؛ هذا مدخل رئيس لفهم شعرية منى عثمان في ديوانها ” في مهب الروح يشتعل البوح جمرا” ، إذ تمثل نصوص الديوان عندي أفقا للتأمل في طبيعة المشاعر الأنثوية تستحضر الآخر(الرجل ) غالبا تخاطبه ويخاطبها ، قد تبدو الأنا أحيانا ضعيفة خائرة في انجذاب قسري، بينما يتمتع الآخر بقدرة على السيطرة والحصار آسرا لها ، لكن نظرة فاحصة في بنية النص العميقة تكشف اعتمادا متبادلا بينهما ، إذ لا تكتمل ” الأنا ” إلا من خلال ” ال أنت ” ، تقول في سيمفونية الشغف :
لماذا لا تكف
عن صهيل الجوى وجنون الاحتياج
تجرني بكل الطرق إلى ناحية ال أنت
لاتفلتني….
تحكم حصارك حولي كي لا أجدني
لا منفذ دونك إلا وأنت تملؤه
وأنا الضغيفة الخائرة
حين تنشر سطوتك على ليل متواطئ
أخطو تجاهك رغما عني
دون حذر …. أصطبغ بشغفك
بجنونك
تنقع كلماتك في صهد اشتياقك
وتبللها بتدليلي فأغرق.
هنا شعرية قوامها الرئيس إيقاع داخلي يقوم على المشهدية الهامسة في صورة بوح ، ينتظم في سيمفونية شغف ، والسيمفونية قرينة الإشارة إلى التناغم ، تناغم المتداخل ، عبر تنظيم الأصوات في نبر منتظم ، وهي هنا قرينة حالة من الشغف المتبادل بين الأنا والأنت . تقوم شعرية النص هنا على بمزج المعنوى في صورة الحسي المشاهد ، بما يجسد المشاعر، فنسمع للجوى صهيلا ، ونرى للسطوة ماهية مادية حين ينشر ، وللكلمات حين تنقع في صهد الاشتياق، والليل صورة الإنسان المتواطيء ، هذا شعرية من -وجهة نظري- قوامها التصوير الكلاسيكي يتحرر من الإيقاع الخليلي ، لينصع نبضا آخر ، عبر اختيار متوالية من الأفعال يمكنني أن أسميها بالدائرية ، ولتنظر معي في ترتيب الأفعال : ” تجرني بكل الطرق / لا منفذ دونك / اصطبغ بشغفك ” ألا تراها مثلي تعكس حالة من الترقب و التوق إلى الاكتمال بالتماهي في شغف الآخر لا النفور عنه ، تلك نبرة الأنثى في شغفها برجل شغوف بها ، لاينفصل عن تلك المشاعر الإيقاع النصي الداخلي المتنوع بتوظيف العبارات القصيرة بما تحمل من حيرة وتوتر في صيغة سؤال في مفتتح النص ” لماذا لاتكف ” ثم يتكرر في منتصف النص ” متى تكف ” ، ” لا أعرف كيف أوقف سيلك ” ، ونعومة الجمل الطويلة نوعا ما في نهاية النص ” متى تتكيء رأسي فوق كتفك / متى تمزق رياح بوحك ستائر صمتنا ويشهد شاطئنا الغريب عناق النوارس “. بما يوحي بتجربة تتأرجح بين حذر واندفاع ، بين توجس خفي ثم رضا وتماهي في الآخر .
وربما يكون من اللافت هنا التمهل أمام تلك المفردة ” تنقع كلماتك” ، ولا ننسى مقوالة مالارميه ، بعض الشعر تصنعه كلمات . قد تبدو كلمة تنقع ، كلمة ثقيلة ينبو بها موضعها لكن بتمهل وحسن إصغاء لنص منى عثمان، نجدنا أمام كلمة شاعرية ذات سبك نصي من طراز فريد ، توحي بدلالات حسية قوية وتفتح مجالا لتصوير شعوري عميق بأبعاد متوازية :
أ- بعدها الحسي : تستدعي مشهدا ماديا ملموسا تحيل الكلمات إلى غمر تدريجي في سائل مايعزز من الإحساس بالتشبع
ب- التماهي مع الحرارة : النقع يرتبط عادة بالماء أو البرودة لكنه هنا مقرونا بالصهد مما يوحي بأن كلمات الآخر ليست مجرد كلمات عادية بل ممتلئة بالحررة لدرجة تغمر الذات
ج- علاقة الكلمة بغيرها : النقع هنا في محور التوازي يتجاور مع تبلل ، أغرق .
رمزية الكلمات في شعرية منى عثمان لافتة ، ربما كانت الماء رمز ذاكرة ، يسكن الزمن في أمواجه ، أو رمز تحول وتغير في العلاقات الإنسانية :
تعب الموج من التكسر على شواطيء الملح
ولخفقك ذاكرة الماء
كلما ناورتها الريح توالت رعشة النهر
كيف يغفو الموج في حضن الشواطيء
والملح فوق الجرح عالق
فلتشهدي يامواسم التيه ميقات الغرق
في لجة اليم لا قارب ولاطوق
ولا جسر يلوح ولا أسر ولاعتق.
هذه مقطوعة من قصيدة تحمل عنوان ” ذاكرة الماء” ، الماء فيها – فيما أفهم – متشابك مع الذاكرة والمصير ، الماء رمز تغير وتحرك بين الذاكرة والنسيان ، بين الأمل واليأس ، فلا أسر ولا عتق ، ولا قارب ولا طوق ، يتكرر النفي ، في توازن شفيف وبناء نحوي متشابه يخلق إيقاعا موسيقيا هادرا حرا، يحاكي حركة الماء في انسيابها وطبيعتها المراوغة المستسلمه للريح مسلوبة الإراة ، مما يقارب طبيعة الذات الشاعرة . التي تبدو في الديوان في حالة روحية ونفسية لم تزل تعاني العطش ، في انتظار دائم لشيء لا يأتي ، وفي مواجهة دائمة مع الزمن ، مأخوذة بالزمن كقوة ساحقة .
هنا في نسيج القصيدة، يتهادى حرف الحاء كنسيمٍ حزين، يهمس في أذن الذكرى بنبرة شجية، وكأنه وشوشة الريح حين تعانق أطراف الماء، أو أنين الجرح الذي لا يندمل. يأتي هذا الحرف متسللًا، خفيفًا في وقعِه، لكنه غارق في الحنين، يرسُم ملامح الشاعر المتعب، المستكين في ظلال الماضي، كحلمٍ لم يكتمل.
لكن ما أن يتسلل الحاء بنعومته حتى يندفع الجيم كجرحٍ فاغرٍ فمه في وجه الزمن، حرفٌ ينفجر في حنجرة الألم، كصرخةٍ مكتومةٍ تفجِّر صمت الاستسلام. في الجراح التي ترددت، والجمر الذي توهج، والجسر الذي لا يمتد، يأتي الجيم صارخًا، قاطعًا، كالسوط الذي يجلد الروح كلما أوشكت أن تخمد نارها.
وفي هذا التناوب بين الحاء والجيم، تتجلى ثنائية الحنين والألم، الرقة والوجع، السكون والانفجار. فإذا بالحاء يشدو كترتيلةٍ في ليل الذكرى، وإذا بالجيم يقطعه كنصلٍ ينغرس في خاصرة الوقت، وكأن الذات الشاعرة عالقةٌ بين شدو الماء ولهيب الجراح، بين الحلم الذي يشرف على الاحتراق، والصدى الذي لا يجد من يردده.
في هذا نصوص منى عثمان ، تتجلى البنية الصوتية بوصفها أداة جمالية ودلالية تسهم في تشكيل الصورة الشعرية وإيصال التجربة العاطفية بعمق وإحساس مرهف. لهفة السؤال
تفاصيل صغيرة
هي مقياس نبضهم
كصباح الخير
كلهفة السؤال
كافتقادهم لك ولو لساعة مرت
كحنين إلى صوت الحرف
كتفقد حالك نهاية المساء
مصحوبا بتصبح على خير
كركضهم إليك بمجرد استيقاظ
إذ يعتمد المقطع الشاعري على التوازن الإيقاعي بين الحروف المهموسة والمجهورة، مما يخلق تباينًا صوتيًا يعكس تحولات الشعور بين الطمأنينة والقلق، وبين الاحتواء والافتقاد. حين يتكئ النص على مجموعة من الأصوات الرخوة، مثل “س، ش، ك”، التي تمنح اللغة طابعًا هامسًا يوازي انسيابية المشاعر المتدفقة في تفاصيل الحياة اليومية. فعبارات مثل “كصباح الخير”، “كلهفة السؤال”، ” تفقد حالك نهاية المساء” تعتمد على هذا التمازج الصوتي لتشي بالهدوء الحالم الذي يغلف العلاقة العاطفية.
و لا تأتي الأصوات في النص مجرد عنصر زخرفي، بل تتشابك مع بنية الصورة الشعرية، فتتحول إلى وسيلة تكثيف دلالي. فالتكرار الصوتي لحرف “ك” في “كصباح الخير، كبرودة السؤال، كافقدانهم” يمنح النص إيقاعًا داخليًا يوحي بالتدرج في الكشف عن العاطفة، ونركرار الراء بما فيه من طبيعة التردد ” مقياس ريختر المشاعر ” ،” ترمومتر لهفتهم” وكأن الحب هنا تجربة تُستشعر عبر تراكم التفاصيل الصغيرة التي تشكل نسيجه العميق.
كشعور احتياج لا يملؤه سوى أنت
تلك هي كفة الميزان الراجحة
ومقياس ريختر المشاعر
وترمومتر لهفتهم
إنها التفاصيل الصغيرة لحب كبير
يمضي النص في تصاعد إيقاعي متأنٍ، حيث تتكرر البنى التركيبية بطريقة تُحاكي استبطان الذات لمشاعرها. ففي الجملة الختامية: “إنها التفاصيل الصغيرة لحب كبير”، تتداخل الأصوات الناعمة “ص، ل، ح” مع المجهورة “ب، ك”، مما يعزز ثقل المعنى، إذ يبدو الحب هنا تجربة تتماهى بين الهشاشة والقوة، بين ما هو عابر وما هو جوهري.
يمكن القول إن البنية الصوتية للنص ليست مجرد عنصر إيقاعي، بل تشكّل عمقًا دلاليًا يُبرز التوتر بين التلاشي والحضور، وبين الفقد والاكتمال. إنها لغة تتشكل من نسيج سمعي يعيد تشكيل المعنى في وجدان المتلقي، حيث يصبح الصوت ذاته مرآة للحالة الوجدانية التي يطرحها الديوان.
والحق تملك منى عثمان تجربة شعرية غنية بالتكثيف الموسيقي والتصويري ، حيث يمتزج الإيقاع الداخلي مع نبض الصوت في تشكل لغوي يحمل أبعادا خاصة ، ويجعل من شعرها حالة وجدانية متدفقة تعكس القدرة على توظيف الموسيقة الداخلية في النص في ديوانها ” في مهب الروح يشتعل البوح جمرا”
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_
Average Rating