ما زالت الشمسُ تلوّنُ ذاكرتي

صفوح صادق – شاعر فلسطيني

ما زالت الشمسُ
تسكبُ دفءَ ملامحها
في شقوقِ الماضي،
تبعثرُ الضوءَ
على وجهي المسكونِ
بظلِّ الغياب.

أمدُّ يدي إلى الأفقِ
فألمسُ بقايا ضحكاتٍ
نامتْ على كتفِ المساء،
وأشمُّ عطرَ الخطى
التي لم تعُد،
لكنها ما زالت
ترقصُ في ذاكرتي.

في كلِّ صباحٍ
تفتحُ الشمسُ نافذتي،
تقولُ:
ما زلتَ هنا…
وما زال الضوءُ
يرسمُك في روحي.

ما زالتِ الشمسُ
تسكبُ ضوءها على أطلالِ الحنين،
تفتحُ نافذةً في الغربة،
فأرى وجوهًا عبرَ الغمام،
وأسمعُ أصواتًا
لم تزلْ تسكنُ الريح.

يا بلادًا نَسَجتني من ضوء،
كيف ابتعدتُ
حتى صارَ ظلِّي غريبًا؟
كيف أغلقتِ خلفي الدروب،
وتركتِني أعدُّ المسافاتِ
بين قلبي والأبواب؟

في محطاتِ الرحيلِ،
تجمدتْ خطايَ
بين مطاراتٍ تسرقُ الأسماء،
وحقائبَ لا تحملُ رائحةَ البيت.
لكن الشمسَ،
ما زالت تلوّنُ ذاكرتي،
ترسمُ وجوهًا أعرفها،
وتكتبُني على جدرانِ الغياب.

ما زالتِ الشمسُ
تتسلّلُ من شقوقِ الغياب،
تلمسُ وجهي بأصابعٍ دافئة،
فتنهضُ في داخلي طرقاتٌ قديمة،
وأبوابٌ أعرفُ صريرَها،
ونوافذُ كانت تغفو على ضوءِ المساء.

هناك،
حيث كنتُ طفلًا يركضُ خلف الفراشات،
ما زالت الأشجارُ ترفعُ أغصانَها
كأذرعِ أمهاتٍ تنتظرُ العائدين،
وما زالت الأزقةُ تحفظُ خطايَ
رغم أني خلعتُ نعليّ منذ سنين.

لكن البعدَ طويل،
والغربةُ تنحتُني كصخرةٍ
على رصيفٍ بارد،
كلُّ ما لديّ حقيبةٌ
تضيقُ كلّما ملأتُها بالذكريات،
وجوازُ سفرٍ
لا يحملُ عنوانَ القلب.

أحلمُ أحيانًا أن أعود،
أن أتركَ ظلِّي في هذا البلدِ العابر،
وأركضَ بلا خوفٍ نحوَ البيوتِ القديمة،
لكنني أخشى
أن أجدَ البلادَ قد غسلتْ وجهي،
ونسيتْ اسمي
كما نسيتُ رائحةَ المطر هناك.

ومع ذلك…
ما زالت الشمسُ
تلوّنُ ذاكرتي،
تُعيدُني للحظاتٍ
لم تهاجر بعد.

ما زالتِ الشمسُ
تنسجُ على جدرانِ الغربةِ
ظلالَ وطنٍ يسكنني،
تبعثرُ الدفءَ على وجهي المتعب،
كأنها تهمسُ لي:
“لم يزلْ بيتُكَ هناك،
لم يزلِ الدربُ ينتظرُ خطاك.”

لكن أيُّ دربٍ؟
وأيُّ بيتٍ؟
كلُّ الأزقةِ التي حملتني صغيرًا
تحوّلتْ إلى حقائبَ مفتوحة،
كلُّ النوافذِ التي كنتُ أطِلُّ منها
أُغلِقتْ بأصابعِ النسيان،
حتى الأبوابُ
تسألني: من أنت؟

عشقتُ وطني حتى سالَ في دمي،
حتى صارَ اسمي نقشًا
على جدرانِ الذاكرة،
لكنني في المنافي
تحوّلتُ إلى عابرِ سبيل،
إلى ظلٍّ يبحثُ عن جسد،
إلى لغةٍ تنطفئُ على لسانِ الغربة.

أحاولُ أن أعودَ،
لكنني أخشى أن تكون البلادُ
قد غيّرت قميصَها،
أن تكونَ الأرضُ قد لفظتني
كما يلفظُ البحرُ زورقًا ضلَّ طريقه.

أشتاقُ، نعم،
لكن الوطنَ صارَ بعيدًا،
صارَ وجهًا يلوّحُ لي من خلف الزجاج،
وصوتًا يأتيني في الحلمِ،
ثم يختفي
قبل أن أمدَّ يدي إليه.

ومع ذلك…
ما زالت الشمسُ
تلوّنُ ذاكرتي،
تجعلني أحبُّ وطني
حتى وأنا أراهُ من بعيد

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post تحولات جذرية في سوق العمل عالمياً
Next post الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي مقاومه الاحتلال .وليس معاداة لليهود