مفاهيم وتطبيقات العدالة الاجتماعية والاقتصادية في ظل النظام الحاكم في العراق بعد 2003

Read Time:7 Minute, 51 Second

صباح قدوري

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_ من الصعب التكلم عن مسالة ( العدالة الاجتماعية)، التي تقرالحق الأساسي للإنسان بان يتمتع بكامل حقوقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بمعزل عن تطبيقات لأركانها المتمثلة بالاتي:
النظام الاقتصادي السياسي السائد في الدولة، وتوجهات البرنامج الحكومي إزاء التنمية الوطنية المستدامة، ومفهوم المواطنة والوطنية ومسألة الهوية، المساواة وتكافؤ الفرص، والحريات المدنية والسياسية، والديمقراطية، وذلك لارتباط الوثيق بين هذه المفاهيم ومصطلح العدالة الاجتماعية ـ الاقتصادية.هناك مفاهيم وتعاريف عديدة لمصطلح العدالة الاجتماعية تعتمد على الفكر الإيديولوجي والعلمي لتفسيره وتطبيقه. فعلى سبيل المثال، يستند فكر الاقتصاد السياسي الماركسي في تفسير العدالة الاقتصادية التي هي الجزء المهم والمتمم للعدالة الاجتماعية، على ( المدخلات والمخرجات ـ الإنتاج)، وفق أسس: قوى الإنتاج ( العمل)، ملكية وسائل الإنتاج ( الملكية الاجتماعية العامة)، وعلاقات الإنتاج ( توزيع عادل للموارد والخدمات الإنتاجية بين طبقات وفئات المجتمع).أما فكر الاقتصاد السياسي الرأسمالي، فهو قائم على: قوى الإنتاج (رأس المال)، ملكية وسائل الإنتاج (الخاصة)، وعلاقات الإنتاج ( توزيع متفاوت للموارد والخدمات لصالح الرأسمالية). نحاول في هذه الورقة وباختصار شديد ( من دون الدخول في التفاصيل) معرفة مدى توافق تطبيقات هذه المفاهيم مع مفهوم العدالة الاقتصادية والاجتماعية في العراق اليوم، وكمايلي:
1. النظام الاقتصادي
كما هو معروف فأن الإيديولوجية المتبعة والتي فرضها المحتل الأمريكي عند احتلال العراق في عام 2003، تستند على إيديولوجية اللبراليين الجدد، أو ما يسمى ( إجماع واشنطن)، التي تعتمد على:
نموذج اقتصاد السوق الحر، والإصلاح المالي والإداري للمؤسسات الحكومية على أسس الخصخصة، والاعتماد على توجيهات ونصائح المؤسسات المالية الدولية الرأسمالية ( الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية). مما يترتب عليه انتقال الإدارة الرئيسية للاقتصاد الوطني إلى أيدي القطاع الخاص بدون أية ضوابط، والعمل بآليات السوق وإطلاق قوى العرض والطلب وسوء استخدام مبدأ المنافسة، وفي نهاية المطاف تمكين الفاسدين من السيطرة على مقدرات الإنتاج الوطني، وذلك على حساب إضعاف أو إبعاد أداء القطاع الحكومي والتعاوني وحتى التطوعي في عملية التنمية الوطنية المستدامة، بدلا من الاعتماد على نظام اقتصادي متوازن وعادل للجميع. لقد أدى تطبيق هذا النموذج إلى الآتي:

أ ـ تفاقم البطالة في قوة العمل بين ( 25 ـ 30 )% ونسبة مستوى خط الفقر 20%، أي نحو( 7 ) سبعة ملايين مواطن من سكان العراق البالغ (38,8 ) مليون نسمة، بحسب ( وزارة التخطيط)؛
ب ـ استشراء نظام الفساد المالي والإداري ونهب ثروات البلاد وتبديد المال العام، والصراع المحموم على السلطة والنفوذ بين المتنافسين؛
ج ـ التفاوت الكبير في مستويات الدخل وتراكم الثروات بين الأفراد وبين مناطق البلاد، مما ترك أثاراً سلبية كبيرة وعميقة على الطبقات الاجتماعية، من خلال نمو:
ـ فئة ( طفيلية) موالية للحكومات المتعاقبة، وتشكل قاعدتها الاجتماعية، وهي قوة مناهضة للمنتجين الفعليين للثروة.
ـ وظهور فئة أخرى ( مافيا) متخصصة في سرقة النفط وبيعه من خلال قنوات متعددة، تتعاطى مع العمولات والرشاوى مع الشركات العاملة في العراق خاصة في مجال النفط والتجارة الخارجية ومتاجرة بالأسلحة والمخدرات وغيرها.
ـ نشوء شرائح البرجوازية لصالح الجناح الطفيلي البيروقراطي والكومبرادوري، مما يدفع بعملية التراكم الرأسمالي والمتعلق بالملكية العقارية وبالتجارة الداخلية، بدلا عن تحقيق تراكم لرأسمال القائم على الإنتاج.
د ـ انسياب نسبة متعاظمة من الدخل القومي إلى الخارج من خلال قنوات التجارة الخارجية والفساد وغسيل الأموال، وتوزيع غير عادل للدخل القومي بين طبقات وفئات المجتمع. كما أبقى البلاد سوقا مفتوحة للسلع الصناعية والزراعية والخدمات الأجنبية، من دون أية ضوابط أو رقيب عليها، إضافة إلى الهبوط في التنمية وانخفاض الدخول الحقيقية للجماهير الكادحة، والتفاوت في توزيع الثروة، مما عمق من ضعف الطبقة المتوسطة المنتجة الرأسمالية الصناعية المحلية؛
ه ـ بقاء الصفة الريعية للاقتصاد، وهذا يعني تبعية الدولة للمداخيل الناتجة من عائدات صادرات النفط الخام بالدرجة الأساسية، والذي يساهم ما نسبته ( 92% ) من إجمالي إيرادات الموازنة العامة، و(63,7%) من ناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فانه يبقى رهين تقلبات سعره والطلب عليه في السوق، بدلا من النهوض بالقطاعات الإنتاجية؛
وـ أدت هذه الحالة إلى استقطاب طبقي لصالح الفئات المهيمنة على الحكم، وانعكاس ذلك على الاختلال في تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية ـ الاقتصادية.
2. مبدأ المواطنة والوطنية
أسس الاحتلال الأمريكي نظاما سياسيا قائما على المحاصصة المقيتة وفق الطائفية السياسية والمذهبية والاثنية من اجل السلطة والمال والنفوذ. وأسس كذلك لبزوغ سياسات الهوية والتفرقة على أسس دينية وطائفية واثنية بين مكونات الشعب العراقي، بدلا من مفهوم المواطنة والتساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ووفق مبدأ العدالة التي هي من القواعد اللازمة لعيش مشترك يجمع أفرادا أحرارا ومتساوين.
3. المساواة وتكافؤ الفرص
المساواة ركن أساسي في العدالة الاجتماعية. وهي تستند على الشروط التالية:
عدم التمييز بين المواطنين لأي سبب كان، وتوفير الفرص بشكل عادل، وتمكين الأفراد من الاستفادة من هذه الفرص ومن التنافس على قدم وساق، مع الأخذ بنظرما يمكن اعتباره فروقات مقبولة اجتماعيا. لم تطبق هذه المفاهيم بالشكل الصحيح على ارض الواقع في العراق اليوم رغم ورودها في المواد الدستورية!.
4. الديمقراطية
لم تمارس الديمقراطية في الحياة اليومية وتمّ اختزالها في الانتخابات المزورة في جميع مراحلها. وتشكيل الحكومات بعد الانتخابات على أسس نظام المحاصصة البغيض، وعدم إقرار مبدأ التداول السلمي للسلطة، وإبعاد دور المجتمع المدني للمشاركة في عملية صنع القرار السياسي والرقابة على أداء الحكومي في البلاد. غياب الإدارة الرشيدة التي تستند أركانها على:
الديمقراطية الحقيقية والشفافية والنزاهة والمسؤولية وممارستها في الحياة اليومية، وإفصاح المعلومات عن أداء المؤسسات الحكومية، والدور الرقابي الشعبي والهيئات المختصة في محاربة الفساد المالي والإداري المستشري في المفاصل الإدارية والحزبية.
5. الحريات المدنية والسياسية
هناك مجموعة حريات مدنية وسياسية أساسية لابد أن يتمتع بها المواطن لتحقيق العدالة، وهي أيضا من مقومات التساوي في الإمكانيات التي تساهم في تأسيس العدالة. لم تمارس ذلك في الحياة اليومية بالشفافية والمصداقية العاليتين، ولأسباب عديدة: محدودية النشاطات الاقتصادية، وتقزيم الحريات الاجتماعية والفكرية، وكبت الحريات السياسية والعامة، وهيمنة الفكر الديني (الإسلام السياسي)، وسيطرة بيروقراطية على إدارة الحكم اتصفت عموما بالجهل والفساد.
6. التنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة بإبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية مجتمعية إن التنمية بأشكالها المختلفة هي إحدى وظائف الأساسية للدولة العادلة الحديثة. وقد أخفقت الحكومات المتعاقبة منذ الاحتلال في تحقيق التنمية الوطنية القائمة على العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ولأسباب كثيرة (من دون الدخول في التفاصيل)، وكالاتي:

• تكريس سياسات التهميش والإقصاء والفقر واللامساواة، وغياب الإرادة السياسية والرؤى الواضحة والإستراتيجية الشفافة والمعللة للتنمية؛
• إخفاق في السياسة الضريبية وتوفير نظام ضمان اجتماعي كامل، أدى إلى عدم تلبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية الضرورية للمواطنين.
• عدم إشباع الحاجات الملحة والضرورية والمتنامية للمواطنين بسبب عدم الاعتماد على سياسة الاقتصاد الإنتاجي، فهو وحده القادر على رفع الإنتاج وإنتاجية العمل، بما يساعد على رفع مستويات المعيشة وتوفير السلع والخدمات للمواطنين وتخفيف حدة البطالة؛
• استمرار نظام الفساد المالي والإداري على المستويات الإدارية والحزبية، من دون اتخاذ الإجراءات الحاسمة ضده؛
• خلل في عملية متابعة الأداء الإداري والمالي والتنفيذي لمشروعات الموازنة العامة بشقيها التشغيلي والاستثماري؛
• سوء سياسات اقتصادية واجتماعية شاملة للجميع أدت إلى تفاقم البطالة وعدم تامين فرص عمل اللائق للجميع، والقضاء على الفقر، وتقليل الفوارق الطبقية.
7. العمل السياسي والفكري
إن الأفكار والمفاهيم المشارة إليها سابقا، لا تعني كثيرا إذا ظلت أفكارا فلسفية، لا بد أن تقترن بالعمل السياسي والفكري واضح المعالم، من أجل وضع الأنظمة السياسية وبأهداف وبرامج واضحة وشفافة وآليات فعالة تترجم نفسها في التطبيق والممارسة الاجتماعية، وطرح تصورات نظرية وعملية للعدالة الاجتماعية في المفهوم السياسي والاقتصادي والحقوق الاجتماعي.
8. استنتاج
يتيح العرض السابق الاستنتاج، بأن ترجمة وتطبيق هذه المفاهيم على أرض الواقع في العراق اليوم أصبحت من الصعوبة بمكان وخاصة في ظل أزمة النظام السياسي والاقتصادي والإداري للحكومات المتعاقبة، وغياب الإستراتيجية والسياسات الاقتصادية الحكومية الواضحة، ودخول المجتمع العراقي في دوامة وإرباك واضحين، وكذلك الحالة العامة للدولة العراقية التي عجزت عن أداء وظائفها الأساسية في إنهاء الفساد السياسي والمالي والإداري واستعادة الوطنية العراقية والانتقال إلى دولة المواطنة، منذ الاحتلال والى اليوم. لن يتغير هذا الوضع مالم يجري التغيير والإصلاح الحقيقيين في بنية النظام والمؤسسات الحكومية والإدارية المتمثلة بالسلطات الثلاث ( التشريعية والتنفيذية والقضائية) وحتى السلطة الرابعة (الإعلام)، واعتبار العدالة الاجتماعية والاقتصادية مسؤولية اجتماعية على الدولة آزاء المجتمع ومواطنيها من خلال:

التوزيع العادل للموارد والدخول كالأجور والرواتب والثروة، ونظام عادل لتوزيع الأعباء الضريبية، وتساوي الفرص الاقتصادية من دعم وتقديم الخدمات العامة الصحية والتعليمية والضمان الاجتماعي والدعم السلعي والاحتياجات الضرورية للمواطنين من العمل والمشرب والمسكن، وخاصة للعاطلين ومحدودي الدخل والفقراء وللفئات الأشد فقرا، باعتبار ذلك حق طبيعي للفرد بأن يتمتع به ويتقاسم الموارد والخدمات مع الدولة بشكل عادل، واحترام الحقوق والحريات والمساواة بين المواطنين، وممارسة الديمقراطية في الحياة اليومية، وبث روح المواطنة والوطنية بين أطياف ومكونات الشعب العراقي.
مساهمة انتفاضة تشرين الأول
ختاما، بغية تحقيق طموحات وأهداف الشعب العراقي والحصول على كامل حقوقه المشروعة، انطلقت الجماهير العراقية، بكافة أطيافها ومكوناتها وبأسلوب سلمي وحضاري، شرارة انتفاضتها المجيدة في الأول من تشرين الأول/ اكتوبر2019 والمستمرة حتى الآن. شملت الانتفاضة معظم مناطق العراق وشهدت تعاطفا وتضامنا بأشكال مختلفة من الشعب الكردستاني.
لقد تبلورت مطالب الانتفاضة مع مرور الوقت، ويمكن إجمالها بالآتي:
تحسين الظروف المعيشية الصعبة التي يمر بها الشعب، وبعملية التغيير والإصلاح الشاملين في بنية النظام القائم وبرحيل أركانه، وإنهاء الفساد والعمل على استرداد الأموال العراقية المهربة، وتشكيل حكومة وطنية انتقالية، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة في أقرب وقت ممكن، وفي ظل قانون انتخابي عادل ونزيه وشفاف وأجواء ديمقراطية وتحت إشراف المنظمات الدولية، وإحالة القتلة والمجرمين المشاركين في ضحايا الانتفاضة من الشهداء والجرحى والمعاقين والمعرضين للاعتقال والاختطاف والتعذيب إلى القضاء، لينالوا العقاب الصارم بحقهم، وإنهاء هيمنة المليشيات والفصائل المسلحة التي تقوض سلطة الدولة والحفاظ على سيادتها، بغية وضع العراق دولة وحكومة على الطريق الصحيح انطلاقا من مسؤوليتها المجتمعية والإنسانية. وترجمة وتطبيق المفاهيم التي أشرنا إلى بعضها فيما تقدم من خلال برامجها وخططتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بهدف تحقيق تنمية وطنية شاملة مستدامة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وبيئية، التي تعتبر حجر الزاوية لتحقيق فكرة العدالة الاجتماعية والرخاء الاقتصادي والتقدم والازدهار في ظل دولة مدنية ديمقراطية تقر أسلوب تداول السلطة، وتضمن الحياة الكريمة والسعيدة والآمنة والمستقرة لأبناء هذا الجيل والأجيال القادمة، وإيصال البلاد إلى برا الأمان.

وبعكس ذلك فإن ترك هذه المسالة ودون الاهتمام والمعالجة الجدية لها، ستؤدي بلا شك إلى تفاقم حدة الصراع الطبقي في المجتمع، وزيادة حجم فجوتي الثروة والدخل أتساعا، وتجزئة المجتمع إلى فئات اجتماعية وثقافية متنازعة، الأمر الذي يتسبب في تقويض شرعية نظام الحكم، وتشجيع التطرف، وشيوع الجريمة، وزعزعة الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي، وخلاف ذلك سيبقى العراق دولة فاشلة بكل معنى الكلمة وفي مختلف مفاصل الحياة.

الحوار المتمدن

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post في ذكرى أول مايو: نشأة هيئة شؤون العمال في عطبرة
Next post معادلاتُ المقاومةِ السائدةُ ورسائلُ العدوِ الخائبةُ