ثقافة الاستهلاك البورجوازية، وإنتاج الإنسان الآلة المكتفي بذاته.

Read Time:14 Minute, 7 Second

جمال طارق حماني

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_انطلاقا من أبحاث ودراسات عديدة أنجزت حول المجتمع المغربي، المتعلقة منها بالبنية الثقافية الفكرية السائدة (أنظر أبحاث كل من بول باسكون، فاطمة المرنيسي، …)، بأسلوب التفكير السائد والعادات اليومية المسيطرة على اهتمامات أغلبية الأسر/الأفراد خاصة ذوي الانتماءات الطبقية الشعبية، شكلت صورة واضحة إلى حد ما عن كيف حوصرت هذه الأخيرة بشكل قسري وممنهج في دائرة ضيقة من الاهتمامات المنكبة على الأمور الثانوية وحتى التافهة التي تتركز حول الشخصانية والاستهلاك اليومي، والانغماس في التفكير الفردي والآني المباشر المرتبط باللحظة المعاشة، مع انتشار خوف شديد من التفكير في المستقبل، وعدم القدرة على ذلك، ولامبالاة بالتفكير فيما هو جماعي إنساني، أي التفكير في القضايا العادلة الجوهرية داخل المجتمع، فكيف تم ذلك، وما أبرز تجليات هذه الثقافة؟.
إن هذا الموضوع يتطلب الكثير من البحث والتقصي والمعالجة، إنه وإن كان قد بحث نسبيا من جوانب محددة، فإنه لم ينل ما يكفي من البحث، ولم تشمل البحوث المنجزة كل ما هو أساسي في هذا الموضوع، وهو ما يطرح صعوبات عدة، أولها عدم تراكم ما يكفي من البحوث (مراجع والمصادر…) التي يمكن الاعتماد عليها لتطوير البحث أكثر، ثانيا ضعف في نوعية النقاشات والمقاربات المصاحبة للبحث في هذا الموضوع،…ولذا ونظرا لطبيعة الموضوع فإني أرى أنه من الضروري التركيز على تحليل معطيات الواقع الميداني، ودعمها بالبحوث والدراسات المنجزة، وهذا يتطلب في الحقيقة خبرة خاصة، وكذا التمكن من مناهج علمية معينة تساعد في الدراسة، وتبقى مثل محاولة بول باسكون ذات أهمية في هذا الشأن، إذ تطلبت منه أبحاثه الانتقال للعيش مع الساكنة في المناطق التي اهتم بإنجاز دراسته حولها.
وإني أحاول بالأساس بحث ومعالجة التناقض بين الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي للطبقات الاجتماعية الشعبية، وهو ما يفرض فيما يفرض تفكيك البنية الثقافية-النفسية للإنسان المغربي ذا الانتماء الشعبي بالأساس، والمساهمة في الدفع بإعادة تشكيلها وبنائها من جديد بشكل أرقى، على أساس سليم بما يسمح له بامتلاك ذاته ووعيه السليم لوجوده وللواقع المحيط به. وهو ما سيجعل منه مسؤولا فعلا عن سلوكه وممارسته، ويصبح بالتالي إنسانا فاعلا في بناء مجتمعه على جميع المستويات، وواعيا بهذا الحق والواجب، الشيء الذي يحقق ويعطي قيمة ومعنا نبيلا لوجوده كإنسان، ومن ثم الخروج /الثورة على دائرة الاستهلاك والاهتمامات الضيقة التي حوصر داخلها، والتي أبقته مجرد رقم / آلة من الآلات المملوكة /المعتقلة في سوق الرأسمالية، مجرد آلة تبرمج عن بعد لتكرر نفس الممارسات، والسلوكيات والحركات والأدوار والعادات، حسب الأهداف التي تخدم ملاك المال الكبار وورثة الإقطاعيين.
لقد تم احتواء الإنسان الكادح المغربي في دائرة الاستهلاك الرأسمالي الآلي عبر العديد من البرامج والمؤسسات التي تشرف على إنجاز هذا الهدف، كمؤسسات الاعلام والتواصل والتعليم، والبرامج اليومية عبر القنوات التلفازية، قنوات الاستغباء والتبليد، من خلال قصف الإشهارات، وكثافة الأفلام والمسلسلات التافهة المستغبية للشعب، واسكيتشات الاستهزاء من المستوى المعيشي الاقتصادي والثقافي والاجتماعي للشعب المغربي، وإعلانات الشوارع التي تنادي الإنسان إلى الاستهلاك، لا شيء غير الاستهلاك، ودخول السوق، أن يكون الإنسان مستهلكا رغما عنه، ضدا على إرادته، وتبعا لما توجهه آلة نظام الإشهار الاستهلاكي الفوضوي.
ليس المهم كم سيكون في الجيب/ الرصيد، فمهما كان مقدار المال الذي بحوزتك تجلبك آليات السوق لتنفقه حتى فيما لا تريد وفيما لا تختار وفيما لا تحتاج، وهذا هو الخطير، في تطبيق فريد لنظرية الانعكاس الشرطي التي اختبرها بافلوف على الكلاب، إذ كان يقوم بقرع جرس كلما قدم الطعام لكلب، وقام بتكرار هذه العملية لفترة معينة، إلى أن وجد أن غرائز الكلب أصبحت مبرمجة وتتفاعل بشكل تلقائي مع صوت الجرس، فأصبح صوت الجرس هو الذي يسيل لعاب الكلب بدلا من الطعام كما كان الحال قبل التجربة، فكلما قرع الجرس يسيل لعاب الكلب كما لو أنه أمسك الطعام. إذن يقرع جرس الاستهلاك عبر الإشهار لتتحرك غرائز التبضع والتسوق بشكل تلقائي، خارج عن الإرادة، فتسيل العملة من الرصيد/ الجيب نحو أرصدة الرأسماليين.
الإنسان، المرأة، الرجل، الأسرة، الفرد، الجماعة لا تكسب قيمتها في نظر فكر الاستهلاك الرأسمالي إلا بمدى الخضوع للاستهلاك المفروض الموجه. والإنسان الحر حسب هذا الفكر هو الإنسان المتصرف والممارس لحريته (ضرورة مبطنة) في الاستهلاك، وحتى والإنسان عاجز عن مواكبة ومسايرة إغراءات السوق ومفاتن البضاعة، نظرا لوضعه المادي الضعيف، فهو يبقى يعيش في جزء كبير من وقته على حلم التبضع / الاستهلاك الذي يتحول إلى مرض نفسي لدى بعض ضحايا فكر الاستهلاك، إلى هوس. ما إن يدخل مقدار مالي إلى الجيب/ الرصيد حتى يأخذ في الحال وجهته إلى السوق، لكن ليست أية سوق، وهذا مهم هنا، بل السوق التي تطبعها فوضى البضائع التي يتم إنتاجها وترويجها واستهلاكها تبعا لآلية السوق الرأسمالية، حيث تغرق السوق بمنتجات بعيدة عن الحاجة، وتفرض على المستهلك، في تعبير عن فوضى الإنتاج، وتدعيم ونشر ثقافة الاستهلاك ودمجها في المركب النفسي للإنسان الكادح ليس الغرض منها فقط الاستهلاك المادي للبضاعة بشكل غرائزي دون وعي واختيار وتحكم وترشيد وعقلنة هذا الاستهلاك، بل أيضا الاغتراب عن الواقع أثناء الجري وراء الاستهلاك، سلب إرادة وحرية المستهلك، والتحكم وتوجيه تفكيره وسلوكه، وإدخاله في حالة تخدير دائم مما يصرفه عن وعي الواقع، ويمنعه بالتالي من الحياة الفعلية الإنسانية السليمة. فيتحول الإنسان مع هذه الثقافة إلى آلة، آلة تعمل في شروط صعبة، واستغلال قاسي، دون احتجاج أو رفض، لأنه مضطر وفي حاجة إلى المال لإشباع رغبة وهوس اقتناء البضاعة، وآلة فاقدة للقدرة على التحكم في الإنفاق والتسيير للدخل المحدود، مما يحوله إلى عبد للرأسمالي، خاصة مع تخفيض الأجور لأغلبية العمال ورفع الأسعار والفعل المسموم للثقافة هذه، يصبح الإنسان الكادح ملحقا بالآلة، حتى ولو كان بعيدا عن المعمل.
إذن الإنسان حسب ثقافة الاستهلاك الرأسمالية يتحدد بمدى إقباله على الاستهلاك البضاعي الرأسمالي اللا متحكم فيه من طرف هذا الإنسان، يتحدد بمدى خضوعه وانسياقه خلف إغراءات البضاعة / السوق، الإنسان يتحدد في نظرها بماذا وكم يستهلك؟، ما مقدار المال الذي يجنيه ليعيده إلى رصيد البورجوازي من باب السوق، وليس الإنسان، كما يجب أن يكون، هو المهتم والمنكب على بحث وحل ومعالجة قضايا المجتمع الكبرى والجوهرية، قضايا الإنسان العادلة وإيجاد حلول جذرية لها، من قبيل قضية التشغيل لملايين المعطلين، والتعليم العلمي الإلزامي في متناول الجميع، والتطبيب المجاني والمتاح أمام جميع الناس بدون شروط ولا عراقيل ولا انتظار أو إقصاء، تطوير البحث العلمي وتشجيع الاختراع في المجالات المفيدة، وتوفير السكن اللائق لجميع الناس، نشر الوعي التقدمي وتدعيم ودعم الفكر الحر، تدعيم أنشطة الابداع الملتزم بهموم وقضايا الإنسان العادلة، وتشجيع الإنتاج والإبداع الفني والأدبي الحر، مما يمكن من رفع والرقي بمستوى الاهتمامات والنقاشات اليومية الثنائية والجماعية، العامة والخاصة، من ما هو سطحي تافه إلى مستوى راقي ومعمق يشمل القضايا والمسائل الجوهرية للإنسان، أن يصير هذا جزء من برنامج منظم على المدى المتوسط والطويل، وطبعا بعيدا عن تلك الخرجات الموسمية الاستعراضية، الديماغوجية المدغدغة للعواطف، التي تتم الدعاية لها والترويج لها في مناسبات محددة التي يقوم بها أفراد محددين بخلفيات دعائية سياسية وايديولوجية، تهدف الى جني مكاسب سياسية خاصة من ورائها، كما عند الترويج مثلا لمساعدات يقدمونها لأناس في وضعيات صعبة، لأن الذي أصبح مطلوبا اليوم هو البرامج والمشاريع المسؤولة التي تضع في صلبها الإنسان الكادح والمهمش، التي تمكن هذا الأخير من أن يكون مساهما بشكل قوي في الإنتاج، ومستفيدا من القيمة المضافة التي تحصل من عمل العمال والفلاحين، ومن ثروات وخيرات البلاد، بكل عدل ومساواة، ولم يعد مقبولا الصدقات(القفة للمناطق المعزولة) والهبات(من عند أولئك الذين سرقوا ثروات الشعب) والتبرعات(من عند رجعيات البترودولار الذين يريدون بلدنا قبلة للمكبوتين منهم ومرتعا للظلام والتخلف)، لم يعد مقبولا جعل شعب يعيش على “السعاية” بدارجتنا المغربية، وتمريغ كرامته في الأرض.
الإنسان الذي يريدون صناعته في هذا البلد -وقد نجحو في ذلك إلى حد بعيد -هو الذي يكون تفكيره ونقاشه منشغل طيلة اليوم، الشهر، السنة، العمر، بما يقتات عليه ويستهلك، سواء كان استهلاكا تقشفيا، متدنيا، أم استهلاكا مرتفعا، باذخا، ما يستهلكه هو وما يستهلكه الآخر. أغرق الإنسان في بركة لقمة العيش، وهذا هو الغرض من تفقير الشعب في أحد أبعاده، هذا هو الغرض من سياسة تجويع الشعب، كي لا تفكر جماهير الكادحين أبعد من متطلبات معدتها البسيطة والمتواضعة، التي بالكاد تستطيع تحصيل قيمة تكاليفها النقدية، بعد الكد والجد والعمل الشاق، فيصبح تحصيل لقمة العيش هو الخبز اليومي المالح، هو الهدف وهو الأولوية وهو صلب الاهتمام بالنسبة للإنسان الكادح، وليس على أساس وعي سليم بطبيعة الحال بل على أساس وعي مشوه لهذا الحق، ولكيفية تحقيقه ولمستواه المطلوب، ثم يأتي بعده السكن، فتدريس الأطفال في اهتمام بدرجة أقل، والخطير هو أن أسر عديدة تضطر إلى تأجيل علاج أمراض عديدة خطيرة تنخر أجساد أبنائها نظرا لضعف إمكاناتها، مع العلم أن أمراض عديدة يتعايش معها أبناء الشعب ولا يهتم بعلاجها باعتبار ذلك حق مستعجل وضرورة ملحة، من قبيل ضغط الدم والسكري والمفاصل وأمراض الفم، والأمراض النفسية،…
ورغم كل الاهتمام بلقمة العيش من طرف الكادحين والمفقرين إلا أن النتيجة تكون دائما في غير صالحهم بسبب أسلوب الإنتاج والتوزيع المتبع بالمغرب والآليات السوق، فالمستوى المعيشي جد متدني، نظرا لتدني مستوى الدخل الفردي أو لنصيب الفرد من الثروة الوطنية، فهناك شريحة واسعة من الشعب تعاني من سوء التغذية، وإذا ما أجري بحث ودراسة حقيقيين حول تركيبة أطباق الأسر المغربية الشعبية التي تشكل نسبة كبيرة داخل المجتمع، ومستوى هذه الأطباق وقيمتها الغذائية فإن الصدمة ستكون كبيرة(عدم تنوع وجودة وغنى الأطباق بالمواد التي يحتاجها الجسم من معادن وفيتامينات وبروتينات…، رواج أغذية مسمومة من الشاي إلى المعلبات والمشروبات واللحوم التي لا تراقب في السوق، خاصة الأسواق الشعبية)، نظرا لنسبة الأسر التي تعاني من سوء التغذية، ومن المجاعة المقنعة، وما يرتبط بها من أمراض فتاكة، ترهق أجساد المغاربة وتزيد من معاناتهم، والتي تأتي خلف عدة أمراض منها أمراض مميتة، لا يتم حتى تشخيصها وقد وقفت مؤخرا بعض الكتابات على بعض هذه الأمراض “المجهولة”.
وطبيعي مع هذا فالإنسان المنشغل يوميا وفي أغلب الوقت بلقمة العيش(4)، وبالركض وراء سلع الاستهلاك، خاصة مع مستوى الوعي السائد والتعليم لدى الاسر الشعبية، وثقل الأوهام الأيديولوجية المسلطة عليه، وحقن التنويم والإلهاء المقدمة عبر شاشات قنوات التغليط التلفزي، والزج في عالم الخيال والذاتية والانعزالية القاتلة. سيكون من الصعب عليه الوعي بأمور عدة هي من حقوقه المشروعة التي من المفترض أن يكون مستفيدا منها بشكل تلقائي، وحتى عندما يعي البعض بها فهم يجدون أنفسهم مخيرين بين تحصيل لقمة العيش وبين التفرغ للدفاع عنها في حال ما سمح لهم بهامش لذلك، فالنظام الاقتصادي الثقافي يدفعهم إلى إعطاء الأولوية للقمة العيش وبالتالي الإبحار بعيدا عن شواطئ هذه الحقوق، البقاء بعيدا عن الاهتمام الفعلي بالشأن العام، بمعاناة الناس في بلدهم وفي العالم من الاستغلال الرأسمالي الامبريالي وما يخلفه من دمار للإنسان وللطبيعة. البقاء بعيدا ما أمكن عن التأثير في السياسة العامة المنتهجة بالبلاد، أو معرفة مدى حقهم وحق أبنائهم في تعليم علمي مجاني في جميع المستويات وجميع المستلزمات بحيث لا يفكر المتمدرس سوى في التحصيل العلمي، ولا معرفة مدى حقه في نقد مضمون التعليم الذي يلقن للأبناء ومناهجه وطرقه والمؤسسات والشروط المادية التي يتابع فيها الابن أو البنت دراسته (ها) فيها، أن يبقى الإنسان مبعدا مقيدا في اليومي الشاق دون أن يستطيع رفع رأسه ليرى كيف يعيش أناس من بلدنا، قلة قليلة من المستغلين المنعمين بثروات البلاد، في مستوى معيشي مرتفع جدا، في حين أن أبناء الكداح يمضون كل العمر في العمل الشاق من أجل لقمة عيش مرة، يعيش وهو يطمح لسكن لائق يمضي كل عمره في توفير المال الكافي لاقتنائه، والحصيلة تكون هي الاغتراب والابتعاد عن كل ما يلامس القضايا المصيرية، القضايا العادلة لعموم الإنسان، بل سيبقى غير مدرك للأهداف الحقيقية التجهيلية التضليلية التي تهدف إليها وتروج لها برامج التجهيل ومسلسلات اغتيال الخلايا العصبية، وإعدام وسحق كل ما هو منير ونوعي وذا أهمية في ثقافة شعبنا وأخلاقه، وإبادة القيم الإنسانية المشرقة لديه، وهو لن يطالب بتشييد دور للثقافة مفتوحة في وجه العموم، أو بمكتبات وقاعات للسينما، أو بمعهد عمومي للرسم، أو بملعب رياضي أو حديقة في حيه، لن يطالب بهذا في بلد تعد فيه ميزانية السجون أكبر من ميزانية وزارة الثقافة.
ولن يهتم كأولوية بما يمليه صندوق النقد الدولي على المغرب من إجراءات تجويعية وتصفوية للقطاعات الاجتماعية كشرط يشترطه لمنح خطوط ائتمانية وقروض جديدة هي بمثابة جرعات حياة لنظام اقتصادي متهالك ستأتي لا محال يوما قريبا على هلاكه عندما تصبح هذه الجرعات غير قادرة على ضخ الحياة فيه، ولن يهتم بحجم القروض التي منحتها وتمنحها المؤسسات المالية الامبريالية الدائنة، والتي أصبحت منذ زمن تكبل رقاب الأجيال الحالية والقادمة من الشعب المغربي، وتضرب في العمق تحرره واستقلاله وحقه في بناء نظام اقتصادي يحقق العيش الأفضل لأبناء الشعب، ويقضي على البطالة والفقر والجهل والتهميش والحرمان والمعانات اليومية لأغلبية الشعب، تضرب في العمق أمن أبناء الشعب في المستقبل وتنذر بحروب الجوع والعطش في بلد مملوء بالخيرات، هذا لأن حجم القروض، وحسب تقرير “للمندوبية السامية للتخطيط”، تجاوز نسبة 82,2 ‰ من الناتج الداخلي الخام سنة 2018 وتوقع نفس المصدر أن تبلغ في سنة 2019 إلى 82,5 ‰. وأزيد من 22 ‰ من النفقات تذهب لخدمة فوائد الدين من المؤسسات المالية الامبريالية (69 مليار درهم)، يتم اقتراض 7000 مليار سنتيم (70 مليار درهم) سنويا لتغطية مصاريف أجهزة ومؤسسات الدولة، ولن يبحث طبعا في مقدار الأموال المهربة إلى الخارج ولا في كيفية تهريبها لأنه مشغول باليومي ، بالجري وراء الأمور المباشرة، الأكل، الملبس، الماء والكهرباء، تمدرس الأطفال، العلاج، بل وحتى الانشغال في التطاحنات الداخلية اليومية والمشاحنات العاصفة داخل الأسر وداخل الأحياء والتجمعات السكنية.
وآخر شيء يمكن أن تهتم له أغلبية الأسر الشعبية هو كيفية الاستفادة من وقت الفراغ، وقت العطل إذا كانت هناك عطل، لأن اغلب الأسر المنتمية للطبقات الشعبية تعمل وتكد طوال السنة (الفلاحين، التجار، العمال، …) باستثناء نسبي للموظفين، وحتى هؤلاء نجد منهم من تنطبق عليه نفس الوضعية، وإني أشرت لأيام العطل لأهميتها بالنسبة للصحة النفسية لأبناء هذه الطبقات، فبدل أن تكون مناسبة للقيام مثلا بخرجات سياحية للمناطق والمناظر الخلابة التي يزخر بها المغرب، الكنز الطبيعي ببلادنا، التي ليس لنا الحق في التمتع بها. يأتيها السياح من كل العالم وأبناء بلدنا محرومين منها، ليس في إمكانهم التمتع بما يكفي بشواطئها المديدة، وبجبالها، وغاباتها، ومغاراتها ومآثرها التاريخية، بدل ذلك تصبح أيام للعمل الشاق.
أبناء الشعب، الإنسان المغربي الكادح غريب في بلاده، أو بالأحرى مغرب عنها، هم أجهل الناس بما يقع بها، أجهل الناس بطبيعتها وخيراتها وجمالها، لأنهم حوصروا في دائرة حياة ضيقة وفرض عليهم بعدة طرق القبول بالفتات، بحياة الكفاف، يعتريه الرعب من المستقبل المجهول، يعمل ويكد وينشغل بما سيوفره للغد، للاحتماء من أخطاره، لا يحس بالأمان، الخوف هو خبزه اليومي، حقيقتنا هي انعدام الأمن النفسي والاجتماعي والاقتصادي.)
يخضع أبناء الشعب لبرمجة قبلية، لتربية نمطية ينشؤون عليها: أدرس أكثر من أقرانك، تحدى الآلة الرهيبة لنظام الاقصاء التعليمي، تخوض حرب في مسارك الدراسي، عليك أن تسلك فخاخ الترسيب في متاهة التعليم، ثم إذا نجحت في ذلك استعد للبحث عن فرصة عمل في مخافر مباريات الاستحقاق/ الاستحماق/ التحقيق، وفي حلبات المنافسة/ السمسرة، البيع والشراء، وعندما تحصل على فرصة عمل ابدأ بجمع المال من أجل صندوق اسمنتي/ بيت، أما إذا اكتفيت بورث مهنة قاسية عن الاب/ الام، الفئة، الطبقة، فأنت تعرف المصير مسبقا، فلا غرابة إن صرت يوما وجبة دسمة للأسماك بدل أن تكون الأسماك وجبة لك(**)، ثم يأتي الزواج، الأطفال، ثم…، ثم تجد أن عمرك ضاع. يضيع الانسان لا تعاش أي فترة من الحياة بالشكل المطلوب. هذا النمط من التفكير والتصميم للحياة يبدو من الوهلة الأولى طبيعي وسليم، وهو كذلك من الناحية العامة، لكن ثقل الثقافة السائدة حولته إلى هوس مرضي يصاحب الانسان منذ الطفولة، وهذا ما يحول دون أن يعيش الانسان أي فترة من فترات حياته بشكل طبيعي، سليم، ومتزن.
إنها منظومة ثقافية خطيرة لصناعة وإنتاج الانسان الالة الاستهلاكية اللا واعية الروتينية المعمية البصيرة، فقط تجري خلف العادات والتقاليد الاستهلاكية، خلف السلعة الاصنام الجديدة كما سماها كارل ماركس، المعبود الجديد في النظام الرأسمالي. وآخر ما يمكن أن يولى له اعتبار وأهمية هو الإنسان، هذه ثقافة تغزونا وتدمرنا، بل تدمر أي أمل في التطور العادي نحو مجتمع إنساني. أغلب ما هو منير من ثقافتنا الشعبية تعرض للإتلاف والإقصاء والتغييب، عبر التعليم المؤدلج، والشارع، والمهرجانات والطرق الصوفية والزوايا، والمسلسلات المستوردة على المقاس، وسهرات الانحطاط على قنوات تلفزة الإرهاق التي تمول من أموال الشعب، والتي تنشر وتسيد قسرا ثقافة غريبة منحلة. وتحاول دفعنا للمصالحة والقبول والتعايش مع الثقافة هذه، ثقافة وأخلاق، أنماط حياة الاستلاب والميوعة، واللامبالاة والتطاحن الأسري، والانحلال الأخلاقي، والمكر والخداع والغش، على كونها إنجازا وفضيلة، كما تقدم الأخر من نفس الطبقة الاجتماعية الكادحة على أنه العدو، تحصر الإنسان في الانكفاء بعلاج وتناول ما هو مكرس ومفتعل داخل أسوار المنزل، الأسرة، الجحيم كما تحاول إقامتها هذه الثقافة، تقول لك لا تبالي بما هو خارج أسوار المنزل، خارج المشاكل الأسرية، نحو المجتمع والعالم. لا تبحث عن حل لمشاكلك في علاقتها بالنظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي السائد، بنمط الإنتاج المتبع بالبلاد، لا، بل فقط ابحث عن ذلك في حدود ذاتك وعالمك الصغير. الاخرين جحيم، ذئاب مفترسين، لا تلجأ الى أحد ولا تفكر أو تتضامن مع أحد، فكر في نفسك، تآكل لوحدك، والآخر ليتآكل لوحده، انتظر الفرصة واغتنمها كي لا يقتنصها منافسك في نفس وضعك الاقتصادي الاجتماعي، الذي هو عدوك، واقنع بنصيبك في الدنيا حتى ان كان وضعا لا يليق بالبشر، اخضع، اخنع، ولا تسأل لماذا؟ فهذا سؤال ممنوع ومحظور.
هذه الثقافة تمنع الإنسان

الخ الكادح من أن يرفع رأسه ويمعن النظر والتفكير والتحليل العلمي للأوضاع من زاوية أشمل وأعمق وأدق، إلى عمق النظام المسيطر داخل المجتمع الذي ينتج ويعيد إنتاج ثقافة تساهم في الحفاظ على وضع الطبقات الاجتماعية كما هي، وعلى زيادة مراكمة الاستغلال من قبل الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج، التي تبقي الطبقات المستغلة (بفتح الغين) في وضع اقتصادي ضعيف بئيس، وثقافي منحط، مستلبة، وسياسيا مسلوبة القرار، نافرة من العمل السياسي أو منفرة منه، تحتقره وتنبذه وتخاف منه أيضا، حقها في الممارسة السياسية تمارسه، بدلا عنها وغصبا عنها، الطبقة البورجوازية، كي تبقيها في وضع الوصاية والتبعية والخضوع، لأن السياسة هي المدخل للتحرر والمساواة الاقتصادية الاجتماعية، ويبقى ذلك قائما ما دامت الطبقات الكادحة غير ناضجة سياسيا، وغير ممتلكة لوعي ثوري وقرار سياسي مستقل، الوعي الحقيقي لوجودها الاجتماعي، لوضعها الطبقي وموقعها الحقيقي في معركة الصراع الطبقي داخل المجتمع، وبنصيبها من قسمة العمل الاجتماعي وناتجة الحقيقي، أي الخيرات المادية والروحية المفروض أن تستفيد منها، والتي هي مالكته ومنتجته الحقيقية، والذي يذهب وفق التوزيع غير العادل للثروة ونظام الملكية الاستغلالي، في ظل النظام الرأسمالي، يذهب إلى رصيد البورجوازية الطفيلية، كما تبقى الطبقة الكادحة نتيجة لهذا بعيدة عن بلورة ثقافة تعبر من جميع زواياها عن واقعها الاجتماعي الاقتصادي السياسي وتسييدها وتطويرها وتثويرها، لتساهم متفاعلة مع باقي المجالات في تغيير الواقع القائم نحو الأحسن.

الحوار المتمدن

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post آل روكفلر عرفوا بالوباء مقدماً: البروفسور الأميركي بيتر كونيغ* حول مهزلة -الإغلاق- العالمي وقسوته الشيطانية
Next post شهداءُ ثورةِ البراقِ جمرٌ تحتَ الرمادِ يتقدُ