توظيف بن خلدون لإحداث قطيعة مع عصره

Read Time:8 Minute, 28 Second

رابح لونيسي

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_وضع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو فكرة القطائع، خاصة في المجالات العلمية والثقافية والفكرية في كتابه الشهير ” الكلمات والأشياء” في1966، ففكرة القطيعة انتشرت بقوة في العقود الأخيرة، وتعددت عملية تحديدها لتفسير مثلا تقدم أوروبا بإحداث قطيعة مع العصور الوسطى المظلمة، فهناك من ردها إلى عصر النهضة وظهور الإنسانيين وكذلك الإصلاح الديني وغيرها، لكن لم يطرح إلا القليل في منطقتنا مسألة إحداث القطيعة مع عصر الانحطاط الذي نحن فيه، ولايختلف عن العصور الوسطى المظلمة الأوروبية، فهناك الكثير يعتقدون أننا نتقدم مادام نعيش ماديا عصر التقدم العالمي متناسين أننا لازلنا نعيش نفس عصور الانحطاط التي دخلتها الحضارة الإسلامية، والتي بدأت في عصر عبدالرحمن بن خلدون الذي نبه إلى بوادر تراجع وانحطاط الحضارة الإسلامية في كتابه “المقدمة”، لكن لم يقرأ، ولم ينتبه أحد لما كتبه آنذاك، بل تم تجاهل كتابه حتى أعاده المستشرق الفرنسي دوسلان في النصف الثاني من القرن19 ليتم اكتشاف مفكرا كبيرا، مما جعل البعض يعتبرونه مؤسسا لعلم الإجتماع قبل ظهور الفرنسي أوغست كونت بقرون.
لقي بن خلدون اهتماما كبيرا في الغرب بعد إعادة المستشرق دوسلان نشر “المقدمة”، ولا نستبعد أن يكون فريدريك أنجلس قد استعان به في وضع نظريته “الدائرة المغلقة” أين حاول تطوير نظرية نمط الإنتاج الأسيوي التي وضعها زميله كارل ماركس لتفسير عدم تطابق نظريتهما حول التطور التاريخي للمجتمعات على بعض المجتمعات الغير أوروبية، ومنها منطقتنا، فقال أنجلس في مقالة شهيرة له في مجلة دي نيو زايت Die New Zeitالألمانية عام1884 بأن ذلك يعود إلى الصراع بين البدو والحضر، حيث يستغل البدو الدين ضد الحضر متهمين إياهم بالكفر والانحراف عن الشريعة، ليثوروا عليهم، فيسقطون دولتهم التي بدأت في التحضر، فيحطموا كل ما أنجز من قبل ليعدو كل شيء على نقطة الصفر من جديد، فكانت هذه الظاهرة تتكرر عدة مرات، مما جعل المنطقة تعيش الفوضى وعدم الاستقرار الدائم، مما لم يسمح لها بتراكم الإنتاج والتنمية الذي يحتاج إلى دولة قوية تضمن الاستقرار، أن ما قاله أنجلس حول علاقة البدو بالحضر هو نفس ماكتبه بن خلدون تقريبا في مقدمته.
لايسعنا هنا إلا الإشارة إلى الاهتمام الذي حظي به بن خلدون لدى الجغرافي الفرنسي إيف لاكوست مؤسس مجلة هيرودوت التي لها تأثير كبير في صناعة السياسات والقرارات في فرنسا لمدة طويلة، لكن أنحصر اهتمام لاكوست في تتبع حياة بن خلدون محاولا أن يفسر من خلالها تطور المجتمعات المغاربية متسائلا: هل بإمكان الاستعانة ببن خلدون لإثراء النظرية العالم ثالثية التي انتشرت بقوة في ستينيات القرن الماضي التي كتب فيها لاكوست أهم أعماله عن بن خلدون، لكن لم يوضح لنا كيفية توظيف ذلك.
أما بالنسبة لمنطقتنا، فقد أنحصر الاهتمام ببن خلدون في البداية على حياته وأهمية أعماله ونقدها كما فعل مثلا طه حسين عام1917، وكذلك ساطع الحصري في نفس الفترة تقريبا الذي يقول أنه تأثر به كثيرا لدرجة تسمية أبنه البكر خلدون، لكن لم نفهم كيف كان هذا التأثير الخلدوني عليه، ومن الذين يقولون أيضا أنهم تأثروا ببن خلدون نجد مالك بن نبي، لكن لم نجد هذا التأثير في أعماله باستثناء استعانته بالدورة الخلدونية، لكن بن خلدون وضع تلك الدورة بالنسبة للدولة أين يقول بأنها تمر بعدة مراحل من نقطة التأسيس إلى النهاية، وقام بن نبي بنقل نفس فكرة بن خلدون لكن مطبقا لها على الحضارة، فوضع نظريته حول الدورة الحضارية، أي أن الحضارة تمر حتما بثلاث مراحل من النشأة إلى السقوط، فهو الأمر الوحيد الذي استلهمه بن نبي من بن خلدون، بل بالعكس، ففي الوقت الذي حمل فيه بن خلدون البدو وذهنياتهم كل المآسي ومسؤوليات التخلف مستنكرا عدائهم للحضارة وتحطيمها لهم، فإننا نجد العكس عند بن نبي الذي يقول بأن البدو هم أرض خصبة لبناء الحضارة، لأنهم أناس ليس لهم أي ملامح حضارية سابقة وأمراضها، مما يسهل نشر أي فكرة جديدة دافعة لعملية بناء الحضارة، وهو عامل مسهل لبناء حضارة جديدة-حسب بن نبي-، لأننا لا نضطر للمرور معهم بعملية مسح كل ما ألصق بهم من قبل من سلبيات وما يسميها ب”الأفكار الميتة” المعرقلة لعلمية البناء، ويستشهد بن نبي في ذلك بالحضارة الإسلامية التي يرى أن مؤسسوها الأوائل هم بدو، لكن نعتقد أن بن نبي مخطأ في ذلك لأن الرسول(ص) وصحابته في مكة ثم المدينة، ليسوا بدوا، بل يعدون حضرا، كما أن هذه الحضارة نشأت وتطورت بحكم الاحتكاك بشعوب متحضرة أخرى، وغاب عن بن نبي أن القرآن الكريم يذم البداوة والبدو الذين يسميهم ب”الأعراب”، ويصفهم بالأشد كفرا ونفاقا، فلنشر أن الأعراب ليس معناه العرب، بل هم البدو الذين تعرفهم أغلب المجتمعات سواء كانت عربية أو غير عربية، ويقول عالم الاجتماع البحريني محمد جابر الأنصاري أن هناك حديثا نبويا تم تغييبه، ويعتبر أن كل من تحضر أي أنتقل من البداوة إلى الحضارة ثم عاد للبداوة مرة أخرى بأنه مرتد عن الإسلام، وهو ما يعطي-حسبه- مفهوما آخر للردة لاعلاقة له بالمفهوم المنتشر اليوم، وهو ما يدل أيضا أن هدف الإسلام ذاته – حسب الأنصاري دائما- هو التحضر، لكن ما يسجل لبن نبي هو قوله أن العالم الإسلامي كي يتقدم يجب عليه أن يقيم قطيعة مع عصر الانحطاط أو ما يسميه قطيعة ب”مسلم ما بعد الموحدين”، الذي بدأ في عصر بن خلدون، فبن نبي من القلائل الذين طرحوا فكرة القطيعة مع العصر الخلدوني في منتصف القرن20م.
ما يهمنا في بن نبي هو نقد الذات وعدم تحميل الاستعمار أو الخارج مسؤولية تخلف المنطقة، فهو يردها إلى دخول المسلمين عصر الانحطاط بعد نهاية الدورة الحضارية الإسلامية، وهي حتمية في نظره، مما أدخله في نقاش حاد حول ذلك مع المصري سيد قطب، ومن هنا جاءت فكرة بن نبي الشهيرة حول ما أسماه “القابلية للاستعمار”، ويقصد بها أن الاستعمار لم يكن سببا لتخلف المنطقة كما يشاع، بل كانت متخلفة منذ قرون، وأن الاستعمار الأوروبي كان نتيجة حتمية لذلك التخلف ودخول المنطقة عصر الانحطاط، ولهذا يرى أنه بدل التركيز على مواجهة الاستعمار يجب التركيز أكثر على إحداث قطيعة نهائية مع عصر الانحطاط.
لكن لم تلق فكرة بن نبي أي اهتمام، بل استهجنت من الكثير، خاصة من الوطنيين في الجزائر، لكن تبين بعد تحرر الشعوب المستعمرة استمرار تخلفهم، وهو ما دفع إلى البحث والتعمق في الأسباب، فهناك من فسرها بالعولمة الرأسمالية مثل أصحاب نظرية التبعية، ومنهم المصري سمير أمين، لكن عاد البعض إلى بن خلدون لتفسير ذلك، ونجد من ضمن هؤلاء عالم الاجتماع البحريني محمد جابر الأنصاري الذي قال بأن الحل ليس في تغيير الأنظمة واستبدال الأيديولوجيات، لأن رغم القيام بكل ذلك عدة مرات بقي الوضع على ما هو عليه، بل ساء أكثر في الكثير من الأحيان، ورأى جابر الأنصاري أن المشكلة تكمن في الذات وفي العمق التاريخي لشعوب المنطقة، فاستعان ببن خلدون وفكرته حول العصبيات التي لازالت هي المؤثرة في حياة شعوب المنطقة، وهو نفس ماذهب إليه عالم الاجتماع اللبناني فريدريك معتوق الذي أستند على عصبيات بن خلدون، فأعاد قراءته، ليقول في كتابه “صدام العصبيات العربية” إن كان العالم يتحدث اليوم عن صدام الحضارات كما قال الأمريكي صموئيل هنتنغتون، فمن الأجدر على شعوب منطقتنا الحديث والاهتمام ب”صدام العصبيات” التي لم تخرج منها بعد.
ونجد أيضا من ضمن هؤلاء الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري الذي اهتم كثيرا ببن خلدون، وتبنى نظريته لإيجاد طريق لخروج شعوب المنطقة من تخلفهم عندما يقول في كتابه “العقل السياسي العربي” بأنه منذ الفتنة الكبرى، فالعصبيات هي التي تحكمت في الممارسات السياسية في منطقتنا، ولم يتوقف الجابري عند ذلك، بل قال أيضا باستغلال الدين في ذلك كما قاله بن خلدون، كما أشار إلى الغنيمة محاولا استخراج الفكرة من مقدمة بن خلدون منتهيا إلى طرح حل عام يتمثل في تحويل القبيلة إلى أحزاب وجمعيات ونقابات وتحويل العقيدة إلى أيديولوجيات متعايشة وتحويل الغنيمة الذي هو الريع بالمفهوم الحديث إلى اقتصاد منتج، لكن لم يحدد لنا الجابري كيفية تحقيق ذلك، فلا ندري إن ترك هذه المهمة للسياسيين والاقتصاديين، لكن يطرح الجابري فكرة أخرى في كتابه “العقل العربي”، وهي ثقافية عندما يدعو للعودة إلى العقلانية المغاربية- الأندلسية الممثلة في بن رشد الذي أعاد تحقيق ونشر كل أعماله، وكذلك بن خلدون وأبن حزم والشاطبي، ويدعوا إلى إحداث قطيعة مع الفكر المشرقي الذي تطغى عليه اللاعقلانية، مما جعله يدخل في نقاش طويل حول ذلك مع الفيلسوف المصري حسن حنفي، وهو ما يعني في الأخير-حسب الجابري- إحداث ثورة ثقافية إلى جانب التحويلات الضرورية التي حددها في خاتمة كتابه “العقل السياسي العربي” التي ذكرناها آنفا.
نعتقد أن بن خلدون قد وضع أسسا لإحداث القطيعة مع التخلف والانحطاط بناء على ما طرحه في مقدمته حول العصبيات التي يجب توسيعها إلى العصبيات الطائفية واللسانية والقبلية وغيرها بدل حصرها في القبلية فقط، كما أن هناك أمر هام جدا أورده بن خلدون، وهو استغلال الدين في الصراعات السياسية من خلال ذمه البدو الذين يستغلون الدين لإسقاط الدولة التي بدأت في التحضر وإحداثهم الفوضى الاضطرابات وعدم الاستقرار باسم الدين، ويبدو أن تيارات الإسلام السياسي لا تشير إلى بن خلدون في خطابهم السياسي والفكري وتعمل على تغييبه، لأنها تخشى أن يفهم من خلال الطرح الخلدوني بأنهم هم بدو العالم المعاصر الذين ذمهم بن خلدون، وأشبعهم نقدا وحملهم مسؤولية عدم الاستقرار وتدمير كل عملية تحضر بسبب تلاعب هؤلاء البدو بالدين واستغلالهم للعواطف الدينية، لكن المشكلة هو كيف نحدث القطيعة مع العصبيات؟
وهو ما لم تتم الإجابة عليها من كل من حاولوا الاستعانة ببن خلدون، وقد لاحظنا ذلك بشكل جلي مع جابر الأنصاري وعابد الجابري الذي كان من المفروض أن يضع تحويل الغنيمة أو الريع إلى اقتصاد منتج على رأس أولويات التحويل لأنها هي لوحدها كفيلة بعملية تحويل القبيلة إلى أحزاب ونقابات وكذلك تحويل العقيدة إلى أيديولوجيات وآراء متعايشة، وتحترم بعضها بعضا في إطار ديمقراطي، نعتقد أن عابد الجابري لم ينتبه إلى نظرية تأثير البنية التحتية في البنية الفوقية لماركس الذي يوظفه أحيانا في كتاباته، فنظرية ماركس لعملية التغيير تقول: أن تغيير البنية التحتية الممثلة في قوى الإنتاج هي التي تغير البنية الفوقية الممثلة في الذهنيات والثقافة وشكل الدولة وغيرها، فبناء على ذلك نقول أن قيامنا بثورة صناعية مرفوقة بثورة ثقافية وتعليمية من شأنها أن تغير ذهنيات وسلوكات وممارسات شعوبنا، وتخرجها من عصبياتها بفعل تطور الصناعات التي ستدخلنا في الرأسمالية الصناعية، فتتغير كل هذه الذهنيات المتخلفة التي تعود لعصور الانحطاط كما وقع في أوروبا القرن19 بعد قيام ثورتها الصناعية، ولن يتم ذلك إلا بتحويل الكمبرادور، أي المستوردين للسلع من المصانع الرأسمالية إلى الاستثمار بقوة في القطاع المنتج، خاصة الصناعات، وذلك بواسطة آليات وقوانين يفرض عليهم ذلك، وهو نفس ماقام به الأمبرطور الميجي في يابان 1868 بدفع الإقطاعيين إلى الاستثمار في الصناعة، كما يمكننا أيضا استثمار ريوع النفط في الثورة الصناعية والتعليمية بدل الاكتفاء ببيع هذا النفط للغرب وشراء سلعه ومنتجاته وأسلحته، وهو ما يسميه الإيراني أبو الحسن بني صدر ب”عملية تدوير الدولار” أي نأخذ أموالا من بيعنا النفط للغرب الرأسمالي ثم نعيدها له أضعافا مضاعفة بشراء سلعه بدل استثمارها في إقامة ثورة صناعية تحررنا من التبعية للنفط وللغرب على حد سواء، كما ستؤثر هذه الثورة الصناعية في مجتمعاتنا، وتغيرها وتطورها ذهنيا وثقافيا، وتحدث قطيعة مع عصور الانحطاط، وتدخلها في العالم المعاصر فعلا كما وقع في أوروبا بعد ثورتها الصناعية في أواخر القرن18.

الحوار المتمدن

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post أكتوبر موعد تجربة اللقاح الروسي ضد الكورونا
Next post أدوار حلف الناتو في شرق المتوسط بين الخلافات الداخلية و فعالية الأداء الميداني