‏هُنا وطني ..

Read Time:3 Minute, 41 Second

الاديبة والاعلامية :غادة طبيب . ليبيا

شبكة المدار الاعلامية الاوروبية …_يأخذك الحنين ،يسرقك من يومك ،يدفعك للسير في شوارع طرابلس ،حاراتها وازقتها القديمة ،تتسرب إلى اذنيك اغنية قديمة (ياغاليين القلب ماينساكم ) من مذياع بائع الكتب الذي يفترش رصيف شارع عمر المختار الغارق منذ الأزل في زحام يفيض من ازقته .
تواجهك المبانى العتيقة ،تحنو عليك وتخبرك باسرار قاطنيها يمد إليك الشارع يده ،يقودك برفق بين الباعة المفترشين ارصفته ، تصل إليك اصواتهم ،يمتزجون مع الاقواس ويتماهون معها ، تغص بهم فينسابون منها ماءا رقراقا.
تطالعك الوجوه مبتسمة أو متغضنة بحزن ، يتناهى إلى سمعك صوت الأطفال يطالبون بهدايا السنة الجديدة ، يلفتون نظرك إلى محال الألعاب التى تبدو كغابة مسحورة متشابكة الألوان .

الساحة الخضراء طرابلس


تجذب الطفلة الصغيرة يد والدتها ،تشير لدمية شقراء الشعر معلقة في واجهة المحل ، تبتسم الأم وتحث طفلتها على المضي تاركة الدمية الشقراء في انتظار طفلة اسعد حظا..
يقال أن المقاهي هى واجهة أى بلد فاذا اردت أن تعرف مدينة ما فعليك بمقاهيها وشارع عمر المختار يغص بالمقاهي حتى يخيل للناظر ان هناك مقهى لكل ثلاثة مواطنين وكأن تجارة تعبئة البطون هى اكثر التجارات ربحا على الاطلاق ولكن ..
محال الأحذية والملابس تنافس بشدة ولا تستسلم والمستفيد ها هنا هو الزائر الذي يملأ اكياسه ومعدته منذ بداية الشارع بميدان الشهداء أو البياتزا قديما إلى جزيرة سوق الثلاثاء او الثلاث كما ينطقها الليبيون ، في نزهة أو (طلعة وتدهويرة ) تعيد الروح للجسد المنهك .
تدغدغ انفك روائح البيتزا أو البيتسا كما ينطقها الليبيون المنبعثة من المحل الصغير الواقف منذ زمن لم تعد تذكره في زاوية شارع الرشيد، ليست (البيتسا) هى الموروث الوحيد الذي تركه الإيطاليون وإن كان جل ما تركوه يأكل ويهضم تماما كما هضم الليبيون الثقافة الإيطالية ومن قبلها التركية أو العثمانية بتعبير ادق وفي ذلك حديث يطول .
حسنا … إننا نبخس التاريخ حقه إن تجاهلنا أن شارع عمر المختار قد تم تخطيطه في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي وتحديدا في عهد الحاكم العسكري (بالبو) وأنه كان يدعى شارع صقلية corso sicilia لكن لا حال يدوم تماما كأي شئ في هذه الحياة ، اذ سرعان ما تناسى الناس اسم صقلية وبات اسم عمر المختار لصيقا بالشارع وكأنه وجد ليوصم بهذا الاسم منذ البدء.

طرابلس القديمة شارع المختار


خليط غريب يفور به الشارع كقدر مليئ بخليط من النكهات والروائح ، تتمازج رائحة (انفاص المفروم ) من المقاهي البسيطة التى يرتادها العامة ، تتلاعب بحواسك وتدفعك لخوض المغامرة والوقوف إلى الطاولة الفضية العالية وانتظار ماتجود به قريحة الطاهي وإلى جانبك تماما ، غير بعيد عنك تتوقف سيارة فارهة تترجل منها احدى الفتيات لتشتري عطرا فرنسيا يمكنك بثمنه اطعام الاف الافواه ،مئات قطع البيتزا أو الاف انفاص المفروم !
ببساطة إنه شارع عمر المختار ..
تمد الخطى فيستوقفك اصحاب الحافلات الصغيرة أو ( افكو اربعتاش الراكب ) كما يسميها الليبيون تيمنا بشركة افكو الشهيرة فكل حافلات النقل العامة هنا تدعى افكو !!
يشير لك السائق ، ينادى ، قرقارش ، السياحية ؟


وإن كنت محظوظا فبامكانك الوصول لجنزور على متن ذات الخط وإلا فلا سبيل إلا التاكسي أو ( بيضا وكحلة ) إن كنت من ميسورى الحال .
لازال الليبيون يصرون على تسميتها بذاك الاسم على الرغم من تحول معظمها من اللون الاسود والأبيض إلى الأصفر الزاهى تماهيا مع القرارات الجديدة ..
بهيبة يتربع مبنى معرض طرابلس الدولي ،واثقا وشامخا بلونه الأبيض بساحة الألعاب العتيقة الملحقة به ، فخورا بسيل الذكريات المنساب منه فلا عيد بدون زيارة للمعرض تقليد قديم احتفظ به الليبيون منذ سنوات خلون فاذا بحتث في صور والدك القديمة أو والدتك ستجد صورة لأحدهما في باحة المعرض بجانب ( السفينة ) أو (بساط الريح ) ممسكا في يده ب(حلوى الصوف ) أو غزل البنات بيضاء أو وردية زاهية باقية بمرور الزمن وربما تلمح في زاوية الصورة عربة الفشار أو ( السبول ) باسقاط الف التعريف كدأبنا دائما .


ستنبعث تلك الروائح في قلبك بمجرد مرورك أمام المعرض خاصة إذا كنت تقصد مبنى الخطوط الجوية الليبية عازما السفر ، سيشدك خليط الروائح من يدك ويجبرك على التجول في الازقة المتفرعة من عمر المختار ، ربما تيمم صوب شارع شوقي وتأخذك الفكرة تلو الفكرة لأمير الشعراء أحمد شوقي الذي سمى الشارع تيمنا به يوم كنا شعبا يقرأ أو ربما تقرر السير في شارع جمال ، هكذا بدون مقدمات شارع جمال اختصارا لجمال عبد الناصر فأي شعب يقدس الحميمية لدرجة الالتصاق .

المدينة القديمة طرابلس

مشفى الجلاء بلونه الأبيض والأخضر يحتضن وليدا تلو الآخر في مفارقة مدهشة للحياة على اعتاب شارع يوحده الاختلاف ،خليط جنسيات تضمها مبانى الشارع وحكايات بلهجات تجبرك على استراق السمع إليها وبيوت صارت وطنا بديلا لكل ضال وشارد عن بلده .
إن تبعت انفك فسيقودك للعصيدة السودانية تنبعث رائحتها من نافذة احدى الشقق أو ربما التمن العراقي يتبختر بأنفة مطلا من شبابيك مطوية ذات لون اخضر حائل وستسمع صوت مظفر النواب المميز.. هنا وطني ،أولُ شيءٍ في الدنيا أعرفهُ يا أحفاد
وأخر شيء ٍ يعرفني.
هنا جزء من وطنى .. من مدينتى .. طرابلس

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post الشاب خالد ينفي شائعة موته في حادث سير
Next post مكتبات بلا جدران .. فضاء المكتبات الرقمية *