اللجوء في سويسرا

Read Time:7 Minute, 49 Second

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_ في سويسرا يستطيع اللاجئون الأوكرانيون التحرك بحرية ويسمح لهم بالعمل. إنها حريات يحرم منها لاجئون آخرون. ويرجع هذا إلى الصورة الذهنية المترسخة عن اللاجئين. مقاربة تاريخية.

إن الترحاب الحالي باللاجئين الأوكرانيين يذكر الكثيرين في سويسرا بعام 1956. فحينما اجتاحت دبابات الاتحاد السوفياتي المجر، انتابت سويسرا موجة من التضامن: إذ قرعت أجراس الكنائس ووقف الناس دقيقة حداداً، مأخوذين بـ “كفاح الشعب المجري البطولي غير المسبوق من أجل الحرية”، على حد ما قيل حينها. وقد استقبل النازحون المجريّون بدون قيد أو شرط. بل كانت “تكفي رغبتهم في الوصول إلى سويسرا”، مثلما صرحت الحكومة الفدرالية آنذاك.

وساد توافق على منح المجريين رجالاً ونساءً حق اللجوء، بوصفهم أبطال يناضلون ضد الشيوعية من أجل الحصول على الحرية، كما سمح لهم بالعمل والاستقرار في سويسرا.

ثقافة ترحيب هنا، وخوف من هيمنة ثقافة غريبة هناك

إلا أن هذا الانفتاح لم يشمل آنذاك الجميع: فمن لم يصلح كنموذج للمناضل ضد الشيوعية، كانت فرصه ضعيفة.

فالنازحون الفارون من الجزائر، والتي كانت أيضاً دولة تناضل لنيل حريتها من الاستعمار، قُبلوا على مضض في خمسينيات القرن الماضي بصفتهم “فارين من أزمة” ولم يعترف بهم كلاجئين. بل إن شرطة الأجانب كانت تشتبه في كونهم “متطرفين”.

كذلك الحال بالنسبة لليهود الذين قرروا في نهاية عام 1956 اللجوء إلى سويسرا، حيث لم يشعروا بالكثير من ثقافة الترحيب السويسرية التي تملكت البلاد آنذاك. ففي نوفمبر من عام 1956 قامت كل من إسرائيل وفرنسا وبريطانيا باحتلال شبه جزيرة سيناء. على إثر ذلك العدوان أعلنت مصر أن اليهود رجالاً ونساءً هم أعداء “صهاينة” للدولة. وتعرض اليهود في مصر للسب والعنف، وصودرت شركاتهم وأعمالهم ـ وساد جو يشبه المذبحة.

أما في سويسرا، فقد طولبوا بسرعة مغادرة البلاد، وكان على بعض المنظمات اليهودية تنسيق إقامتهم وترحيلهم ـ وهي ممارسة عرفها المجتمع اليهودي في سويسرا منذ الحرب العالمية الثانية.

وفي خطاب بشأن وضع إحدى الأسر اليهودية التي حاولت الحصول على حق الإقامة، كتب الوزير الفدرالي فريدريش تراوغوت فالن، آنذاك أنه يساوره قلق بشأن احتمال “هيمنة ثقافة غريبة”.

سياسة قارب النجاة الصغير

في سياق متصل، فإن القرار بشأن منح حق اللجوء ومنعه، كان دائماً مرتبطاً باعتبارات أخرى أكثر من مجرد الحفاوة أو القيم الانسانية. ففي القرن التاسع عشر كان منح اللجوء ورفض طلبات تسليم اللاجئين لفتة من شأنها إظهار السيادة الوطنية التي تتمتع بها سويسرا كدولة صغيرة في قلب أوروبا. وبالفعل، كانت أعداد المثقفين المطاردين الذين آوتهم سويسرا كبيرة، من بينهم بوشنر وباكونين ولينين وأتباع حركة الفوضويين وحركة الدادائية. لذلك أصبحت “سويسرا مأوى المُهَجَّرين، فهذا هو تقليدنا العريق”، مثلما كُتِب بفخر عام 1939 على لافتة علقت في المعرض الوطني.

بعد ذلك بثلاثة أعوام، وتحديداً عام 1942، قلص وزير العدل والشرطة السويسرية جزيرة المأوى التي تفخر بتراثها الإنساني لتصبح في خطابه مجرد “قارب نجاة صغير”، أي أنه “لا يمكنه أخذ الجميع على متنه”. حيث أغلقت الحدود في وجه النازحين اليهود، ليترك آلاف منهم ليواجهوا مصيرهم مباشرةً، وهو الموت في معسكرات التعذيب النازية.

فمن وجهة نظر السلطات السويسرية لم يكن هؤلاء النازحين لاجئين سياسيين، لذلك لم يحق لهم الحصول على حق اللجوء من منظور سويسري. فاللجوء يمنح لذلك أو لتلك الذين يلاحقون سياسياً بصفة شخصية. ويتمثلون بوضوح في المناضلين المقاومين والمثقفين المتطرفين. إلا أن اليهود لم يكونوا مطاردين بسبب شيء قاموا به، بل بسبب هويتهم.

بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية فقط أصبحت سياسة اللجوء السويسرية أكثر انفتاحاً، وذلك خوفاً من الوقوع في مرمى انتقاد القوى التي لاح لها النصر. حيث بدأت سويسرا في قبول الناجين من المحرقة النازية، خاصة من كان منهم نشطاً إعلامياً ـ وإن كان هذا القبول مؤقتاً في البداية. وفي عام 1947 أتيحت لأول مرة إمكانية الحصول على “اللجوء الدائم”. ومن ثمَّ انضمت سويسرا إلى اتفاقية اللاجئين التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1951.

وفي منتصف خمسينيات القرن العشرين بدأ البرلمان في مناقشة السياسة التي اتبعت إزاء النازحين أثناء الحرب لأول مرة. وقد توصل كارل لودفيغ، أستاذ القانون الجنائي بجامعة بازل إلى نتيجة مفادها، أنه “لا شك” في أن اتباع “سياسة قبول أقل تحفظاً كان من شأنها إنقاذ أعداد غفيرة من المطاردين من الموت.”

وجدير بالذكر أن نشر هذا التقرير جاء في نفس الوقت الذي قامت فيه سويسرا باستقبال آلاف من المجريين والمجريات. إذ كان استقبال النازحين المجريين دليلاً على أن سويسرا أصبحت تتبع سياسة مختلفة في الأثناء. وفي عام 1957 أخذت الحكومة الفدرالية على عاتقها اتباع “سياسة لجوء أرحب” وجعلت من منح اللجوء “شعاراً لدولة القانون”.

نازحون بلا قيمة جيوسياسية

في واقع الأمر، كان النازحون القادمون من أنظمة اشتراكية يمكنهم حقاً التعويل على هذا الترحاب. فقد كانت سويسرا تسعى إلى التحالف مع الغرب بعد إخفاقاتها في الحرب العالمية الثانية، لذلك فقد حاولت التموضع بوضوح قدر الإمكان. حتى أن النازحين من التبت، الآتين من جمهورية الصين الشعبية على الجانب الآخر من العالم، كانوا يعتبرون في مطلع ستينيات القرن العشرين “أناساً مناسبين للحياة معنا نحن السويسريين، وهذا من حيث شخصياتهم”.

كذلك جرى قبول لاجئون من تشيكوسلوفاكيا عام 1968. ولم تكن هناك دراسة فردية لكل حالة. بل لمجرد أنهم كانوا أناساً يعيشون في دولة شيوعية، فقد افترض أنهم كانوا معرضين لـ “وضع قهري فرضه النظام الحاكم في الداخل”.

من جانبه برر هانز مومنتالر، وزير شؤون الأجانب ورعايتهم آنذاك، هذه السياسة عام 1967 بقوله: “إن الرغبة في مطالبة أحد طالبي اللجوء بتقديم إثبات لتعرضه للمطاردة أو للخطر، تعني تقريباً مطالبته بالإتيان بلبن العصفور. فلم يكن من المبالغة القول بأن الحصول على مثل هذا الإثبات لن يتم، إلا بعد أن يصبح طالب اللجوء في عداد الأموات.”

لكن سويسرا لم تقر بوجود مثل هذا الوضع الخطر فيما يخص جميع أنظمة الحكم. فالنازحون الذين كانت لهم قيمة جيوسياسية واضحة تفيد سويسرا في تموضعها إبان الحرب الباردة، كانت لهم الأفضلية الواضحة. وتجلت هذه الانتقائية، حينما وصلت الزمرة العسكرية اليمينية للجنرال أوغوستو بينوتشيه إلى الحكم في تشيلي عام 1973. فبعدما اندلعت احتجاجات بعض المنظمات المناصرة للاجئين، حينها فقط وجدت السلطات السويسرية نفسها مضطرة إلى قبول النازحين التشيليين.

الخوف من التدفق الهائل

من الناحية القانونية، كان حق اللجوء حتى سبعينيات القرن العشرين يعتبر نوعاً من “حق الإنعام”، الذي تحظى به الحكومة الفدرالية؛ إلى أن أقرت في سويسرا عام 1979 مادة قانونية توضح من يحق له التقدم للحصول على اللجوء ـ وهو ما كان من شأنه تقليص التعسف الجيوسياسي إلى الحد الأدنى.

ولكن بعد عام 1980 ارتفعت أعداد طلبات اللجوء، وكان هذا لأسباب لا تمت بصلة بالقانون الجديد. حيث تغير الوضع العالمي. فقد قدم النازحون آنذاك من بلدان كانت تعتبر حليفةً في الكفاح ضد الشيوعية، وذلك في أعقاب وقوع انقلاب عسكري في تركيا عام 1980، إذ أصبح الآلاف مطاردين، خاصة من أبناء الأقلية الكردية المهمشة والذين نزحوا إلى عدة بلدان ـ من بينها سويسرا. إلا أنه لم يعد هناك حديث عن “وضع قهري فرضه النظام الحاكم”.

الخوف من موجة كبيرة

فقد جاء في تبرير الرد على طلب لجوء تقدم به أحد الأكراد في مطلع ثمانينيات القرن العشرين ما يلي: “وفقاً لوصفه فقد ألقي القبض عليه مع الكثيرين من سكان القرية في إطار حملة عسكرية (…) إذن فالأمر لا يتعلق بإجراء استهدفت به الدولة مقدم الطلب. لذلك ووفقاً للوائح المطبقة في عملنا، فإن هذا الوضع لا ينطبق عليه قانون اللجوء.”

إذن، فبينما أقرت السلطات للنازحين الفارين من الدول الشيوعية قبل ذلك بعقود أنهم اتخذوا بصورة جماعية موقفاً مقاوماً، وهو ما يتناسب مع منحهم حق اللجوء، فإن تعرض جماعة بأكملها للاضطهاد لم يعد (في حالة الأكراد) مبرراً لمنحهم حق اللجوء. لذلك قوبل النازحون “الجدد” بقدر من سوء الظن المبالغ فيه ـ ولم يعد هناك حديث عن “الوضع القهري الذي فرضه النظام الحاكم”.

وكان هذا مرجعه أيضاً إلى اختلاف شكل أولئك النازحين. فالنازحون الفارون من سريلانكا، حينما اندلعت حرب أهلية هناك عام 1983، كانوا باستثناء بعض الأجانب في سويسرا الروماندية، أول جماعة كبيرة من ذوي البشرة الداكنة تصل إلى سويسرا. وقد اعتبرهم بعض السياسيين أكثر غرابةً ممن سبقوهم من النازحين. لذلك طالب هانز-غيورغ لوشنر النائب بمجلس الشيوخ (الغرفة العليا في البرلمان الفدرالي) عن الحزب الديمقراطي الحر آنذاك، برفض طلبات لجوء بعض الجماعات بسبب منشأها: “إنه لأمر مريب أن نسمح لأفراد من التاميل بالوصول إلى سويسرا باستخدام حق اللجوء بصيغته الحالية. إن هؤلاء الأشخاص الآسيويين لن يتمكنوا من الاستيطان في سويسرا.”

فضلاً عن ذلك، وإزاء الأعداد الكبيرة من طلبات اللجوء في مطلع الثمانينيات، فقد ترسخت صورة تيار البشر المتدفق باستمرار والذي يجب حماية البلاد منه. وهكذا قالت الوزيرة الفدرالية إليزابيت كوب عام 1985 أنه “لا يمكن فتح الأهوسة بدون ضوابط أما هؤلاء الذين يرغبون في المجيء إلينا لأسباب غير أسباب اللجوء.” وقد ساد في ثمانينات القرن الماضي التصور بأن النازحين يسعون إلى استغلال حق الاستضافة في سويسرا، ولذلك فقد جاءت أولى تعديلات قانون اللجوء في عامي 1984 و1988 لترفع سقف العقبات أمام منح حق اللجوء.

“اللاجئ”، شبح يثير الرعب

في نهاية المطاف، وبينما كان الخبراء في الهجرة يتحدثون عن اللاجئين “الجدد” بصورة محايدة، سارع الساسة بتقسيمهم إلى “لاجئين مزيفين ولاجئين حقيقيين”. فمصطلح “اللاجئ الاقتصادي” كان يعبر عن الخوف من قدوم البعض إلى أوروبا الغربية ليس فراراً من القهر، بل من الفقر والحياة البائسة ـ وهو الاتهام الذي وجه إلى بعض الفارين من الحروب الأهلية أيضاً.

ونشير هنا إلى ما قام به حزب الشعب السويسري اليميني المحافظ من تبني هذا الفصل بنجاح في مطلع تسعينيات القرن العشرين وعمل على نشر هذه الفكرة الجديدة عن النازحين. حيث كانوا في حملاتهم يصورون النازحين ليس على أنهم أشخاص يفتقدون إلى الحماية في المقام الأول، بل على أنهم أناس يتحايلون للحصول على إقامة في سويسرا. فبينما اعتبر النازح التقليدي في الحرب الباردة هو المطارد من نظام الحكم الشيوعي القسري، فإن “النازح” القادم بعد 1989 قد حل محل الشيوعيين أنفسهم كشبح يثير الرعب. وأصبحت الصورة النمطية التي تروج عن النازح هي صورة تاجر المخدرات والمستخدم للأسلحة البيضاء والمجرم.

في تناقض آخر، وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 أصبح من السهل تصور أن النازحين من أفغانستان وسوريا يمكن اعتبارهم حلفاء في “الحرب العالمية على الإرهاب” ـ على أساس أنهم فروا من نظام طالبان أو من تنظيم الدولة. إلا أن سويسرا لم تنتابها موجة تعاطف مماثلة مع النازحين الجدد القادمين من سوريا مؤخراً.

Swissinfo

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post قصص المدار التاريخية ((عن الحرب الباردة))
Next post إلغاء أقنعة الوجه في الطيران البلجيكي