tired woman sitting on the bed

ابنة الحزن… سيدة الوجع.

Read Time:5 Minute, 6 Second

رجاء قيباش / المغرب

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_تخرج قدميها دوما من الغطاء أثناء النوم، فلا حاجة لها به ما دامتترتدي كعادتها جوارب حريرية تدفئ بهما صقيع الوحدة، سرير بارد وجسد مثقل بالجراح، بالكاد تلتقط أنفاسها لتعود كل صباح للحياة من جديد.

طفلة كبيرة على مشارف الأربعين، تسقط كل ليلة من عليائها، عش بنته على أشجار تعرت بهمس الهجر، نفضت أوراقها الصفراء معلنة حلول خريف العمر.

فقيرة بجوع أمنياتها، تمشي على صمتها كي لا تجرح ببوحها شغافا شفافا بنور الضياء.

حفيف صوتها المشلول يحمل نعش جذورها، تبكي، تصرخ، يجيبها الصدى: عليك بالنسيان.

 قطر البعد الشمع على جراحها حتى صار الفرح ضيفا ثقيلا تنتظر رحيله. نكاية في الحزن، وبعيدا عن أنفاس الخذلان التي صارت تخنق أنفاس نبضها، لازالت تستنشق من براعم الطفلة التي تسكنها أريج الهمسات العائدة بعد طول سفر، مُسَبِّحَةً لعمرها النازل من أجراس الياسمين.

 ستظل تبَلِّغ حواسها الشاردة بفرحها العظيم، تشرب لغة الصبر حتى ينضح قلبها بالأمل في إشراقه الصباح، ستستبيح حروفها إلى آخر نقطة حبر لتهديها لكل عاشق للحياة.

في بلاد الخذلان، يكفيك أن تجلس على شط سراب الموجود المفقود، الكلمات الزائفة بعدد حبات الرمل، لا تعد ولا تحصى.

لكل واحدة لغة ورواية مختلفة، تتأمل وجوداً بلا ملامح، أعذب الكلام صار وجعا متولدا من رحم الأحاسيس، وأرض عشق ملغومة تخشى أن تطأها بقدمك لينفجر الوطن في وجهك في أية لحظة.

ليل عيونه تتهمك بالفشل، يسألك:هل تجيد لغة الهوى؟

لا تجهد نفسك في التفكير والبحث عن الجواب، سيأتي زبد البحر بأمنيات خائبة تهدم قصور الوهم، فتزهر الكرامة ويمحو ما كان.

كان فصل الشتاء قاسيا هذه السنة. ليل باريس البارد يحتويها، في جلسة حميمية قرب المدفئة رفقة كتبها كالعادة، ونسمات الهواء تهب من النافذة، تذكرها بأشخاص غادروا مجرة حياتها بعدما تركوا على جبين كل كوكب من كواكب عمرها همسة ترفرف من ألم الذكرى. يتطاير شالها الزهري كاشفا خصلات شعر بسواد ليل ملائكي يفوح بشميم الحزن. لا تهمها السماء إن كانت قريبة أم بعيدة مادام حلمها موطنه سماء ثامنة لا يعرفها أحد سواهما… هي وهو.

حالمة، عاشقة، مزاجية، تحلق في سماء التمني، تُطعم الغيوم فتات أحلامها، تقتسم رفعة بسمتها مع النجوم، وتعود لزنزانة حزنها معتكفة في ركن الوحدة من جديد.

هناك، في زاوية شرفة غرفتها المطلة على زقاق عتيق، جلست “نمارق”.

جسم ممشوق كسيقان الورد، ياسمينة تشع بياضا وسط حقل ذكريات حالكة تعود بها لزمن غير الزمن، هيفاء، تمشط ضفائر شعرها المثلثل عل أكتاف القنوط ، شفاه قرمزية مبتسمة في وجه الندامة، تتمتم بصوت خافت وهي تتطلع لذاك الوجه الصبوح الذي يعكسه ضباب نار حطبالمدفئة أمامها، إذ بها تلمح وجه الشجن، تهمس والابتسامة غائبة عن محياها:

” إنهاهي، تلك التي قسوت عليها عمراً بأكمله، بحثت عنها ولم أعثر على أثرها…

هاهي الآن أمامي، بنظراتها الثاقبة، تعاتبني، تلومني على عمر ضاع في سراديب النسيان. “

ست وثلاثون سنة من العمر، رصيدها الوحيد في الحياة، عنوانه الظلم والانكسار.

سنوات طويلة من الوحدة القاتلة وذكريات رصتها على رفوف الأمس رفقة كتبها العتيقة، أوراق تظل تَقْطُرُ بحبر الحسرة رغم مرور الوقت.

تتذكر حينما كانت قبل مغادرتها البيت متوجهة إلى العمل، تضع أحمر الشفاه وتطبق قبلة على مرآة تسريحتها تاركة له رسالة: “أحبك أديب”. صخب قهقهات فلذتي كبدها نور وهدى، وهما يلعبان معها بشغبهما الطفولي الذي لا زال يرن في مسامعها ، لم تنسيها السنين دفء دعاء أمها لها بالحفظ والبركة، وهو لحد اللحظة يطوق جسدها المرتعش من صقيع الوحدة القاتلة.

إنه شريط العمر يمر أمامها، همساتنهر “السين” الذي تطل عليه من شرفة غرفتها، ونفحات الشفق تشغل الشغاف حنينا لماض يرنو لمعانقة الظلال. اغرورقت عيناها  بدموع الوحدة القاتلة .

تمنت لو تستطيع احتضان طيف ” أديب ” ليمسكها بيده الدافئة، يشد عليها بحرارة وحنان كي يهدأ جسمها المنتفض.

ارتعاشة باردة، حفيف عشق مزيف كَفَر بكل نبوءات الوفاء، يتلذذ بعذاب حروف مبللة بدم قلم مجروح. سقطت وُريقات عهد نقضه ذاك الذي أزهر العمر بين يديه، فما كان لها سوى أن ترفع الشهادة، وتظل على قيد الموت.

وهي تُطبق جفنيها عل أفق ذكرى تصدأ في ماء عينيها الشاحب، تستيقظ على حسرة فراق لم يَسلَم من شعوذة الحظ ولا جحود القدر، تُصغي لدبدبات همسه وهو يشكر من لمع لها مرآة الحياة، وعلمها طقوس الصبر، وعودها على السباحة في نهر الخذلان.

مخلوق ملائكي يلامس خد الدنيا بأنامل مرتجفة .

كل ليلة يأتيها طيف أديب كوميضيتسلل في عمق عزلتها، تسأله سرا عن خبايا الزمن، تحوم كلماتها حوله كحمامات سحر، تفك حصار شفتيها من سلاسل الحزن.

تقطف أنفاس قلبها من دوالي ذكريات يعصره الغياب نبيذا، تتجرعه كل ليلة لتنسى.

فهل تستطيع النسيان، وهو نعمة لن تحظى بها، لأنها ببساطة وُلدت لتشقى؟!

أفكار تأسر مخيلتها ، حين أرغمها على اعتناق دين الحزن والإيمان بكل أركانه، تتوه فيه بين مد وجزر، باحثة عن لحظة تائهة من لحظات العمر. تغلغلت بين صفحات الأمنيات، حَشَت وسادة الأحلام بقطن الوهم، فاستيقظتُ على زوبعة الوجوم، ورعبكابوس عنوانه الخديعة.

أوجع إحساس أن يضحك فيك كل شيء إلا قلبك، أن تجتاحك زوبعة أحاسيس مغشوشة، خليط سخط وكره وكبرياء، لتصير مجرد كتلة آلام تحبو على الأرض. يرقص حزنك على أوتار الروح، ويعزف أعذب سيمفونيات العذاب. لم تعد نفسها شامخة تعرف معنى الاحتواء، بل صارت صنما عرفت رقبته معنى الانحناء. أصبحت الحياة تلازمها الكآبة منذ صار ما صار…

تمسح بعينيها الناعستين جبين الليل، حيث نام القمر وترك النجوم تنشد مواويل الانتظار القاتل.

يبني وعده للشمس ببزوغها، ربما بعد أربع ساعات أو أربع سنين أو ربما إلى أمد بعيد. كل ليلة ترفع إلى السماء قلبها الممتلئ بالحنين حد التخمة، تهبه قربانا لروح “أديب ” تمطر الغيوم غيثا يروي ظمأ المسافات، يسقي بملح الدموع شقوق جراح تأبى أن تندمل. تعلمت لغة الصمت معلنة على الزمن حرب وجع وأسى، تبعثر نظام أشيائها الصغيرة لتعيش لحظة تستمد دفئها من نور حبيبات مراد يأتيها من بعيد، وهي تأخذ مسافة بينها وبين الحياة. باسم الحب ، تعلن رغبتها في الوجود.

 مهما حصل ،ومهما كان الضحك بلون البكاء، ستظل تبحث عن غفوة على كتف حلم، عن حرف مغمس برغوة الصدق، عن حبر صفاء مبعثر في زوايا الروح ،يكتبها خاطرة تشرب نخب موتها وتثمل، علها تولد من جديد.

هي نافذة فتحت على أحداث تقودنا لمعانقة تفاصيل بوح استثنائي، تغرق في حبره أجزاء أرض تلبس اخضرارها رغم الأنين ، يضرب لنا موعدا مع بياض الورق، بين نقطة حبر ونقطة حبر، سكين مغروس في جسد الذكريات، قتل ما تبقى من تلك الأنثى الغافية بين سطور حكاية خُطَّت بدم القلب لا بحبر القلم.

حكاية ” نمارق” ابنة الحزن وسيدة الوجع !؟

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %
Previous post  حرب أسعار الطاقة في بلجيكا 
Next post أيام معهم ((باب البيت القديم-))ذكريات على عتبات الوجع