التاريخ العسكري علاقة فريدة بالقادة

Read Time:3 Minute, 7 Second

إبراهيم الكوني

شبكة المدارالإعلامية الأوروبية…_تدرَّس مادة التاريخ العسكري في الكليات العسكرية لتأهيل الطلبة الصغار ليصبحوا ضباطا، ويستمر تدريس هذه المادة طوال مراحل الارتقاء في تلقي العلوم العسكرية حتى مستوى القيادات العليا، مهما اختلفت تخصصات القادة، ومن هنا تتبدى أهمية مادة التاريخ العسكري التي تحصن الإحاطة بمقتضيات الحرب.

مع تقدم العلوم الإنسانية وأثر ذلك في تطور مدارس المناهج التاريخية المعاصرة، أعيد النظر في موقع التاريخ العسكري الذي كان مقتصرا حتى وقت قريب على العسكريين فقط، لأن إعادة دراسته من منظور أنساق جديدة في التاريخ العام أضحت تشكل إضافة مهمة في فهم التجارب الإنسانية والتحولات الكبرى التي أعادت رسم الخرائط والعقائد والأبنية السياسية والاجتماعية على اختلاف منطلقاتها.

قدم المؤرخون العسكريون، الذين تعاملوا مع وقائع العمليات الحربية بموضوعية وقدر كافٍ مِن الحيادية، خدمات جليلة للفكر والفطنة الاستراتيجية، وأسفرت دراساتهم التي لم تقتصر على استيعاب التخصصات المختلفة في علوم العسكرية وتفاصيلها الدقيقة، لكنها تبنت أيضا رؤية أعم للوقائع والنتائج، أسفرت عن نتائج عامة كاشفة لأوجه القوة والقصور وأسباب النصر أو الهزيمة وعوامل النجاح ومقوماته، وهذا ما لخصه نابليون بونابرت بقوله “مِن الممكن تعلم التكتيك وعمل المشاة والمدفعية من المذكرات والكتب، كما نتعلم الهندسة تقريبا.. إلا أن معرفة الأجزاء العليا من الحرب لا تكتسب إلا بالتجربة ودارسة تاريخ الحروب ومعارك كبار القادة وإعادة قراءة ملاحمهم.. تلك هي الوسيلة الناجعة لتصبح قائدا عظيما”.

من المعروف أن مصادر التاريخ العسكري هي سجلات الجيوش المتحاربة في المعارك النظامية وأوامر العمليات الحربية والأوامر والتعليمات الإدارية ومذكرات ويوميات القادة العسكريين، وكذلك كتابات المراسلين والمحررين والعسكريين وشهادات المدنيين في حروب المدن وعمليات الحصار. ويلجأ المؤرخون غير العسكريين إلى جانب من التحليل الموازي في محاولة لإتاحة رؤية مختلفة تعيد قراءة السجلات والوثائق المتاحة.

اتجه المؤرخون في مجال التاريخ العام إلى نواحٍ جديدة لم يتطرق لها التاريخ العسكري، وذلك بدراسة الوثائق القانونية والتنظيمية والعقابية والصحية والرسائل أو الإشارات المتبادلة بين القادة والحكام أثناء الحملات العسكرية خارج حدود الدولة، وأظهرت الدراسات التي تناولت هذه الأبعاد التي لم يتطرق لها التاريخ العسكري التقليدي المتداول في الأكاديميات العسكرية، جوانب مهمة غفل عنها المؤرخ العسكري.

تمثلت الإضافة التي أنتجتها مدارس التاريخ العام الحديثة في عناصر كاشفة عن الحياة الاجتماعية والمقومات الأخلاقية التي تحكم العلاقات لدى القوات المنخرطة في العمليات الحربية من قادة وجنود، وتأثير هذا على أداء القوات في ميادين القتال. وعلى سبيل المثال، أوضحت وثائق التحقيقات في المحاكمات العسكرية الميدانية مستويات الوعي لدى الجنود والضغوط الذاتية التي يواجهونها، وأثر ذلك على سلوكهم ونشاطهم، ومن ثم مجريات العمليات الحربية، كما كشفت الرسائل المتبادلة بين القادة والحكام مدى التداخل في العلاقة بين السياسة والحرب، وتأثير هذا على مجرى العمليات العسكرية.

قد يثار تساؤل لدى المدنيين عن الأهمية التي يحظى بها التاريخ العسكري وإدراجه كمادة أساسية في جميع مراحل دراسة العسكريين، بما فيها إعداد القادة لتولي المناصب العليا. وقبل الإجابة عن هذا التساؤل تجدر الإشارة إلى أن التاريخ العسكري لا يقدم وصفات سابقة التجهيز أو خريطة طريق نهائية، يقوم القادة باستنساخها واتباعها، لأن مسارات الحروب لا تتكرر، وسياقاتها هي دائما في حالة صيرورة، وهذا ما عبر عنه المفكر والمؤرخ العسكري البروسي “كارل فون كلاوزفيتز” منذ قرابة مائتي عام، قائلا “دراسة التاريخ تهيئ قادة المستقبل.. أو بلفظ أكثر تحديدا توجههم فيما يخص تعلمهم الذاتي، وليس مرافقتهم إلى ساحة المعركة”.

الهدف الأساسي للتاريخ العسكري هو شحذ ذهن القادة وتعزيز آليات التفكير في ممارسة أعمال قتال القوات، لأن تطعيم المعرفة العسكرية بالدروس المستفادة من مجريات الحروب السابقة وتجارب القادة التاريخيين تمنح القادة الجدد وقادة المستقبل تبصرا أكثر عمقا واتساعا في إطار من الرؤية الشاملة القادرة على اقتناص الفرص والحضور الذهني في المواقف الطارئة الناتجة عن التحولات الحادة في مجرى المعارك، وهذا لا يتحقق دون استلهام دروس التاريخ لبناء حصافة استراتيجية.

جدير بالذكر أن التاريخ العسكري ليس منفصلا عن تأسيس النظريات العسكرية المعاصرة، وقد أسهم رواد التاريخ العسكري في القرن العشرين في الغرب والشرق من خلال دراسة تاريخ المعارك والحروب السابقة لعصرهم، في تشييد وتمهيد الطريق للآخرين لوضع النظريات التي ساعدت بدرجة كبيرة في النقلة المفاهيمية التي طورت جيوش العالم.

سكاي نيوز

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %
Previous post الإعانات الأمريكية للشركات الأوروربية والانتقادات
Next post ملابس نوم على السجادة الحمراء