تونس 7 وأشياء من الذاكرة.

Read Time:4 Minute, 52 Second

غادة الطبيب
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_التوقيت هو العاشرة صباحاً، اليوم هو الأحد أمّا الفصل فهو الصيف، صيف نموذجي حار، كما ينبغي أن يكون في منتصف التسعينيات أم أنها البدايات المبكرة للتسعينيات ؟
لست اذكر وربما اخشي أن يفاجئني الرقم الضخم الذي يقبع مابين ذاك الزمن وهذا الزمان، ربما اخشى الإعتراف أنّ الزمن الأشد جمالا مضى.
إنها طرابلس تتمطى كطفلة على فراش وثير ، تقفز الروائح والأصوات إليها كقط فارسي مدلل وتُغبّشُ الحرارة اللاهبة عينيها فتضيقان بحثا عن ملاذ آمن من الضجيج والرائحة.
لم تكن الستالايت تزين أسطح البيوت كتميمة كبيرة ، كما هى الآن، كان التلفزيون جهازا مربعا ضخما يصلح أن نطلق عليه اسم صندوق الفرجة، كان متموضعا على طاولة خشبية يتوسط (وسط الحوش) أو الدار الكبيرة قبل أن تضيع المسميات وتصبح المعيشة هى اللقب المعتمد لتلك الغرف، ربما تكون الطاولة مزيجا من الحديد المعالج والزجاج الصلب صعب الكسر ، على كل حال مهما اختلفت المواد فالصندوق واحد، يتربع كملك مهيب مكلل بمفرش من الدانتيل الأبيض المخرم تعلوه مزهرية تحوى زهورا بلاستيكية ملونة تفوح بتلك الرائحة المميزة لللدائن المعاد تدويرها.
كانت القناة الوطنية تفتتِحُ برامجها متأخرة ولم يكن هناك ترف الإختيار بل إن الريموت كونترول كان اختراعا عبقريا وجهازا ينظر إليه بمزيج من الرهبة والغرابة ، إننا يارفاق نتحدث عن زمن كان فيه للتلفزيون محطتان الوطنية الرئيسية أو الجماهيرية كما كنا ندعوها والقناة الثانية الناطقة بالإنجليزية التى كانت تمنحنا خيطا ضئيلا من التواصل مع العالم عندما كان (توم وجيري) هو اقصى الأمانى و(سبيكترمان)كما كنا ننطقها هو قمة التكنولوجيا واقصى ماوصلنا من الانتاجات اليابانية المتطورة.
الفيلم الأجنبي المترجم بمعامل أنيس عبيد بالقاهرة كان حدثا جللاً، أتذكر جيدا تلك الأمسيات الصيفية، رائحة البطيخ (الدلاع) تغمر البيت والسمك الذي تقليه أمى على نار هادئة يضفى مسحة من الخصوصية والجمال على تلك الليالي، التلفزيون الخشبي الضخم بزره الوحيد والهوائي المبارك الذي يعلو سطح البيت وينتصب مقاوما المسافات والرياح محاولا التقاط أحدى المحطات الإيطالية، الراى اونو ربما إن كنت أذكر .
كان الفيلم يتحدث عن حرب فيتنام، عن جنود أمريكيين يتعاطفون مع عائلة فيتنامية، كالعادة دائما هناك بطل وهناك فتاة تقع في غرامه وهناك قصة بطولة وألم، أذكر أن والدى رحمه الله وضّح لى القليل عن تلك الحرب، كنت طفلة وقتها وماكانت السياسة تمثل لي شيئا سوى كتاب (المجتمع الجماهيري ).
لنعد لهوائي الاستقبال المبارك الذي كان اليد التى تمتد نحو عزلتنا وتمنحنا قناة تونس 7 أو (التلفزة الوطنية التونسية )
يا الله ماذا سأكتب ؟
إن الأصوات والصور والأسماء تتزاحم وتتدافع نحو رأسي من معقل ذكرياتى ، إن ذاكرتي تحاول التقاط انفاسها ويدى عبثاً تحاول تجميع مايمكن كتابته.
تونس 7 كانت النافذة التى نطل منها كليبيين على العالم ، ربما سيتهمنى البعض بالمبالغة ، ربما سيضحك البعض ، ربما سيبتسم البعض ، لكن الجميع سيتذكر تلك الفرحة العارمة التى تملأ القلب حينما يبدأ الصيف رسميا بالتقاط بث قناة تونس 7.
ولأننى أنا ، ولأننى ابنة ذاك الزمان ولأننى كنت طفلة تعنيها افلام الكرتون فسأبدأ بها، سأبدا بصباحات الأحد التى بدأت الحديث عنها، سأكتب عن برنامح شمس الأحد وعن الأستاذة هالة الركبي ، عن ذاك المزيج المنوع ذاك الخليط الجميل المتمازج الذي كنت ادمنه وانتظر صباحات الأحد لأجلس واتابعه، عن العالم الواسع الذي منحته لنا تلك السيدة وعن فقرة الكرتون التى كانت بالطبع قمة المتعة في ذاك الوقت بالنسبة لى وللآلاف غيري من أطفال تلك الفترة الجميلة .
كان صباح الأحد مختلفا وظهيرته مختلفة وأمسياته أكثر اختلافا، كنا نشاهد بانبهار برامج المسابقات التى تدور رحاها على الشواطئ التونسية، نشاهد حفلات الفنانين وننتظر آخر ما انتجته الدراما المصرية.
صباحات الأحد المقدسة التى تبدأ باكرا ، مزيج الألوان والأصوات وجمال الطبيعة عندما يقدم البرنامج من خارج الاستديو ، هل ابالغ لو قلت أن بعض الصور تلتصق بعقلي، بذاكرتى البصرية .
هل ابالغ إن وصفت ربما ما كانت ترتديه السيدة هالة في احدى الحلقات.
كانت أياما بهية يارفاق ، أياما بهية، كانت افلام الكرتون تُقدّم طازجة ببخار افواه مدبلجيها، الساعة الخامسة عصرا وقتى المقدس ، الثمين الذي يفصلنى عن العالم، هناك ومن نافذة تونس 7 وعلى شرف تلفزيوننا الخشبي القديم تعرفت على جودى أبوت وصاحب ظلها الطويل، بوليانا ومغامراتها، كاتولى فتاة المراعي، المئات من افلام الكرتون التى كانت تمدنا بالقيم والمبادئ الإنسانية السامية، بعيدا عن الهراء الذي يقدم اليوم وتمتلأ به عقول الأطفال.
مابين مراعي هولندا وجبال الألب والمدارس الداخلية الأمريكية في منتصف الخمسينات، مناجم الماس في الهند وعذابات بطلة الماسة الزرقاء، مغامرات عنابة ومايا ورحلة احلامها كانت أيامى الصيفية تمضى بطيئة دون ملل، مليئة بالمغامرات دون أن اغادر غرفتنا الكبيرة وأنا قابعة بين درفتى الدولاب الخشبي الضخم، اتوسد بطاطين ومخدات والدتى، اتنشق الروائح العذبة لزهور اللافندر المجففة واسافر وأنا بين درفتى الدولاب.
وكيف اكتب عن تونس 7 وعن أمسيات الصيف ولا اكتب عن (المنصف الكاتب ) عذرا سيدى فأنا استمد جرأتي في مخاطبتك بدون القاب لأنك كنت أحد الأسباب التى زادت حبي للكتب.
لن تكون طفلا شهد التسعينات المجيدة مالم تشاهد ( في كل بيت كتاب) ياالله كيف تدفق ذاك الصوت الهادئ لأذنى الآن وأنا اكتب هذه الكلمات، كيف داعبت عيناى الصور والشخصيات، كيف انطبعت في عقلي وقلبي واعدت تجسيدها ومحاكاتها عندما كنت اقدم فقرة من مكتبتي في برنامجى الإذاعي.
إننى احتاج زوايا بعدد أيام السنة كي اكتب عن تلك الأيام وعما كانت تقدمه تونس 7 لكنى ورغم ضآلة مساحتي لن أنسى مسلسل الثامنة المصري ، أحدث الانتاجات الدرامية التى تصل إلينا عبرها.
الشرفة المفتوحة على الليالي الصيفية، بضع حبات من العنب واكوام من البطيخ والشمام وطبق ( الشرمولة ) والخبز الدافئ من مخبز الحي و(كوم الدكة ) يملأ شاشة التلفزيون عبر تونس 7.
ليالي الحلمية والمال والبنون ، الضوء الشارد كلها اعمال تدفقت إلينا عبر بوابة تونس 7 ، يوم أن كانت الدراما فناً وكانت الفرجة متعة.
اليوم هناك الاف المحطات التلفزيونية، الاف البرامج ، مئات المسلسلات، أما برامج الاطفال فتبث طوال اليوم لكن هناك شيئا ينقصنا، شئ نعرفه لكننا لانستطيع تحديد هويته، ربما هى الوِفرة التى تحرمك المتعة ، متعة الانتظار والمفاجآة، احساسك بالشوق للحلقة التالية، النظام الدقيق الذي يعاكس الفوضى السائدة يوم أن كان لكل شئ وقت وتوقيت.
تونس 7 شكرا لأنكِ جعلتى طفولتى وطفولة الملايين جميلة، شكرا بعدد أيام الصيف التى جعلتيها أحلى.
شكرا بعدد القيم التى تعلمناها من ( في كل بيت كتاب ) و(ضيعة محروس) وافلام الكرتون الجميلة.
شكرا لكل معد ومصور ومذيع وفنى ومدير ومشرف كان سببا في سعادتنا.
شكرا بحجم وطن

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %
Previous post أغرب المحاكمات في التاريخ
Next post الرقمنه في بلجيكا