مينتة وحلوة حليب

Read Time:3 Minute, 23 Second

الكاتبة الليبية والإعلامية نعيمة الطاهر

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_ يقع دكان عمي “علي بن عمر” في الجهة المقابلة من الشارع الذي يوجد فيه بيتنا.. جادة مزدة، هكذا كان يعرف الشارع، لان الطريق يؤدي إلى مزدة رغم بعدها عن بوزيان حيث نسكن…

بيتنا ذاك بني على قطعة ارض كانت في الأصل جنان خوخ، لم أر في حياتي شبيها لذلك الخوخ، ثماره مكتنزة حمراء الخدود، لذيذة بطريقة مدهشة.

اختفت أشجار الخوخ من جنان حوش بوي لكنها نمت وترعرت في حوازتنا بـ “فراطوسين”، أما أشجار اللوز فكانت باسقة وارفة غناء، تجود بأعذب ثمارها في “حمدان”.

في كل يوم وعلى مدار ساعاته، كنت أقطع الشارع كالطلقة، ولا أتوقف إلا داخل دكان عمي علي بن عمر، أدخل مسرعة واتجه إلى الأرفف لاتناول ما أوصتني أمي بجلبه، مرة علبة زيت قرطاج، ومرة أخرى “بشكطي مالح”، وفي مرات متعددة “باكو رز أنكل بنز” وفي كل مرة أتوقف لفترة أتأمل صورة ذلك الرجل الزنجي الذي طبعت صورته على “باكو الرز” ويبدو فيها سعيدا مبتهجا…

كنت اسأل عمي علي في فضول قاتل: صورة من هاذي، فينظر ألي متأففا وهو يصوب نحوي نظره وقد بانت عينيه الصغيرتين ويجيبني: قاطع صرته أنا؟ بعدين إنت جاية بتشري رز والا بتقصقصي على اللي في الصورة؟.. ابتسم في وجهه ملاطفة: باهي شن معناها اليافطة اللي قدام الدكان اللي مكتوب عليها “سجائر وملح“؟

يخبط عمي علي بيده على كتفي وهو يردد: معناها الحكومة محتكرة بيع السجاير والملح. شن معنى محتكرة؟.. يصمت عمي علي ولا يرد، واردد في نفسي: توا ننشد عليها بوي!

ينصرف هو إلى سجل كبير صفحاته مقسمة إلى مربعات صغيرة فيما يشبه كراسة حساب، وينشغل في تسجيل ما أشتريه منه  فقد كنا نشتري بالآجل، ودائما كان يأخذني الفضول وأنا أشاكسه ككل مرة: بشني تكتب يا عمي علي؟ الكتيبة مش بالعربي، ماتعرفش تكتب بالعربي إنت؟! يجيني وقد نفذ صبره: قداااش مرة بنجاوبك، هذا فرنساااااوي، أنا عشت في تونس في بداية حياتي.. ارتحتي توا !

باهي باهي، اردد وانا اتناول “بشكطي الكريمة” وعلب عصير الخوخ، فيما يسألني عمي علي: قداش خذيتي حكة يوقا؟ فارد زي كل مرة ثلاثة، فيباغتني بسؤال لحوح علاش مش 4؟ فارد: هكي وصتني أمي…

يبتسم عمي علي وهو يقول  أمك “المعلمة” إنسانة طيبة ومكافحة، في الأثناء يدخل جارنا عمي “محمد المختار” يلقي السلام ويوجه حديثه نحوي: خيرك ما جيتيش خذيتي طرف اللحم اللي موصي عليه بوك؟ ينتبه عمي علي للسؤال  ويجيبه: ماهي لازم تنشد وتقصقص وتوازي وتختار.. وتلقى الوقت فات !

التفت انا إلى عمي محمد وأجيبه: اهو توا نمشي للدكان.. فيرد: لالا مش توا تعالي بعد شوية بنمشي للجامع نرفع آذان الظهر.. عمي محمد كان جزارا يبيع اللحوم ومؤذنا، يغادر عمي محمد الدكان وهو يوصيني بضرورة الحضور لمحل الجزارة قائلا: إنت يا بنت ديمة ديمة دايرة زي ” النمالة الفارسية” لا تركحي لا تملي، قتله شن معنى نمالة فارسية؟ خرج ولم يجاوب على سؤالي، بينما انبرى عمي علي بن عمر مجاوبا: النمالة الفارسية نملة طول اليوم وهي ماشية جاية، تطلع فارغة ترجع محملة، فهمتي توا علاش مسميك هكي؟! بعدين تقوليليش آمته بتروحي لامك بالقضية وآمته بتطيبوا غذاكم؟

اخذت ” قراطيس الكاغط” التي وضع فيها البضاعة وانا اقول له: عادي احنا ديمة نتغذوا موخر.. وانطلقت كالسهم اقطع “الكياس” بالرغم من اقتراب شاحنة مسرعة، وفي لمح البصر كنت امام باب “الكنشيلو” حيث وجدت أمي تنتظرني في “الفيراندا” قلقة وهي تقول: وقت عليا وعليك.. خشي البسي “قرنبيولك” فيسع، صغار الصبح قريب يروحوا وأكيد صغار عشية في الساحة…

انطلقت مسرعة، إرتديت “القربميول” وتناولت شنطتي، وخاطبت امي المعلمة: علاش ما خليتينيش نقرا في الصف الثالث عندك؟ جاوبتني ناهرة: وخيرها ابلة عايشة الشيباني؟ مدرسة قديرة وتعرف طبك بااااهي!.

 ارتدت أمي المعلمة فراشيتها وقد بانت تخليلة حوليها اللانا مرتبة وجميلة، فيما سبقتها انا  إلى الباب، وقبل أن أواصل المسير أمامها  نحو طريق  “المدرسة الفوقية”، انحرفت يسارا وقطعت الطريق مجددا وانا ادخل إلى دكان عمي علي وأتجه مباشرة إلى  فازوات الحلوة  وأمد يدي وأملأها مرتين، وخرجت بنفس السرعة وانا اصيح:

خذيت مينتة وحلوة حليب.. سجلهم ياعمي علي.. يضرب الرجل  كفيه ببعضها وهو يقهقه: يا والله نمالة فارسية، خليها عليا أنا المرة هاذي، تلقفت حبة حلوة مينتة في فمي فشعرت بانتعاش عجيب، وقبل أن يذهب الطعم كانت حبة حلوة الحليب تطحن تحت اسناني فيما أنا أشعر بكل حلاوة الدنيا في فمي !

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %
closeup of an airplane on an airport at dusk Previous post نظام أوروبي جديد للسفر
Next post  أمريكا تعيد قطعة أثرية لفلسطين