لماذا تحتفي “الجمهورية الإسلامية” بالآثار الساسانية؟

Read Time:5 Minute, 27 Second

حميد الكفائي

شبكة المدارالإعلامية الأوروبية…_تواصل الجمهورية الإسلامية في إيران التنقيب عن الآثار الساسانية (الزرادشتية) في إيران وخارجها، إذ أبرمت اتفاقية مع الحكومة العراقية لمواصلة التنقيب عن الآثار في الأراضي العراقية المحاذية لإيران، بل حتى في العاصمة بغداد، كما أبرمت مذكرة تفاهم مع الصين للتنقيب عن الآثار في أعماق الخليج العربي.

الأسباب والدوافع لهذا المشروع يمكن تخمينها، رغم أنها تتناقض مع السياسة المعلنة للنظام الإيراني وهي تطبيق الشريعة الإسلامية، وفق نظرية ولاية الفقيه الإيرانية، والتي مارست بسببها الحكومات الإيرانية المتعاقبة أشد أنواع القمع ضد مواطنيها الرافضين لها، كان آخرها ما سمي بـ”ثورة الحجاب”، متحججة بالتزامها بالشريعة الإسلامية التي تستمد منها شرعيتها في الحكم.

وفي سياق التنقيب عن الآثار القديمة، ذكر تقرير آخر لصحيفة “طهران تايمز” نشر في 22 فبراير الماضي أن “مذكرة تفاهم” أُبرِمت مع الصين للتنقيب عن الآثار في الخليج العربي قرب ميناء بندر ماهشهر! ورغم اعتراف الصحيفة بأن البحث عن الآثار في أعماق البحار يواجه مصاعب جمة، فإنها أشارت بوضوح أن مشروع التنقيب عن الآثار الساسانية في أعماق الخليج العربي مستمر، ونسبت إلى مسؤولة إيرانية، سارة عبادي، قولها “إن السلطات الإيرانية سوف تواصل محاولاتها تطوير هذا المشروع وتنميته، مهما كانت المصاعب التي تعترضه”!

فالمشروع في غاية الأهمية إذن، وعندما تقْدِم عليه دولة تعاني من الشح المالي، ومحاصرة اقتصاديا منذ سنين، لكنها مع ذلك، تخصص له أموالا، وتبرم بشأنه اتفاقيات مع دول أخرى، منها الصين والعراق، من أجل تنفيذه، لابد أن يكون مُهِمّا وأن تكون له أهداف وضعتها الحكومة الإيرانية ضمن أولوياتها.

يبدو أن الهدف من أعمال التنقيب هذه، هو الأمل بالعثور على آثار وأدلة يمكن أن تخدم المشروع التوسعي الذي يدور في مخيلة حكام إيران منذ أربعة عقود ونصف، وهو إضفاء شرعية تأريخية، واختلاق سردية تبرر التدخل في البلدان المجاورة، العربية تحديدا، باعتبار أنها كانت جزءا من إيران أو ضمن مناطق نفوذها التأريخي، بالاستعانة بالأدلة الأثرية التي قد يُعثر عليها أثناء التنقيب.

وتذكر الصحيفة في نهاية تقريرها أمرا لا علاقة له بالآثار، لكنه يكشف نوايا النظام الإيراني العدائية تجاه العالم العربي، إذ قالت إن “كل الوثائق القديمة والخرائط تشير إلى أن اسم الخليج هو (الفارسي) في كل اللغات، خصوصا اللغة العربية منذ عام 400 قبل الميلاد”، وأن الخليج “الفارسي” هو “مفخرة الإيرانيين لآلاف السنين!” أما كيف يكون الخليج مفخرة للإيرانيين، أو لغيرهم، فهذا في علم الغيب، وقد تعجز كل الفلسفات الوضعية عن تفسيره!

الخلجان والبحار والمحيطات والأنهار وسلاسل الجبال والوديان وباقي التضاريس الطبيعية، ليست من إنجاز أحد، باستثناء الصناعية منها، وإنما ظواهر طبيعية لا دخل للإنسان في صناعتها، رغم أنه يمكن أن يتحكم بها ويستفيد منها، لذلك لا يمكن أن تكون “مفخرة” لأي شعب أو أمة أو دولة. فالمفاخر في العادة هي إنجازات علمية أو اقتصادية أو عمرانية تحققها الدول أو الأمم عبر التخطيط السليم والعمل الدؤوب والبحث العلمي الرصين.

إيران تعتزم تسجيل هذه الآثار القديمة، التي تعتبرها فارسية، ضمن لائحة التراث العالمي لليونسكو، حتى تلك الموجودة في العراق أو في أعماق الخليج العربي، لكنها اعترضت بقوة على إدراج مواقع أثرية عراقية في قائمة التراث العالمي.

ففي يوليو من عام 2016، وافقت اليونسكو، بعد مساع حثيثة قام بها العراق، على إدراج مواقع أثرية عراقية ضمن لائحة التراث العالمي، وذلك في مؤتمرها المنعقد في إسطنبول لهذا الغرض. وقبل أن يذهب الوفد العراقي إلى مؤتمر اليونسكو في إسطنبول، أبلغت الحكومة الإيرانية وزارة الخارجية العراقية بأنها تعترض على تسجيل هذه المعالم الجغرافية العراقية، ومنها الأهوار، على لائحة التراث العالمي! وعندما تجاهلت الخارجية العراقية الاعتراض الإيراني، أو أنها لم تستطع أن ترد عليه سلبا أو إيجابا، باعتباره طلبا غير مألوف، أرسلت الحكومة الإيرانية، التي كان يرأسها الرئيس “الإصلاحي المعتدل”، حسن روحاني، وفدا إلى العراق لتبيان أسباب الاعتراض الإيراني، ودفع العراق للتخلي عن المشروع.

وكانت الأسباب كلها واهية وغير مقنعة، وتدور حول قضايا عراقية بحت، بل وتطالب بتغيير أسماء الأهوار وما إلى ذلك من تدخلات سافرة في شؤون العراق، ما دفع رئيس الوفد العراقي، حسن الجنابي، وزير الموارد المائية الأسبق، إلى رفض المطالب الإيرانية وإنهاء الاجتماع، محتجا على تدخل إيران في هذا الشأن الوطني العراقي البحت. وقد ذكر الجنابي هذه المسألة في كتابه (الدولة العقيمة) ص 95.

ومن الجدير بالذكر أن إيران حرّفت مسارات بعض الأنهار، ومنها نهر الكارون قبيل مصبه في شط العرب، وسيطرت على الأنهار الحدودية عن طريق إنشاء السدود عليها ضاربة عرض الحائط بالتزاماتها تجاه العراق، بما في ذلك الالتزامات المدونة في اتفاقية عام 1975. كما أنها قطعت مياه نهر الكرخة عن هور (الحويزة) المشترك، ما أدى إلى جفاف أجزاء كبيرة منه وقتل الأحياء المائية والنباتات وهجرة آلاف العوائل العراقية التي تعيش من خيراته.

من المستغرب أن يسعى نظام “إسلامي” متشدد، إلى الاحتفاء بالآثار الساسانية الزرادشتية، ويبحث عنها في دول أخرى وفي أعماق البحار، وأن يصر على استخدام الأسماء القومية لفئة واحدة من الشعب الإيراني، المتعدد القوميات، ويسير على خطى النظام القومي الفارسي الذي أطاح به، رغم أنه لم يتوقف منذ 44 عاما عن التشدق بالإسلام، والسعي، سعيا محموما، عبر وسائل كثيرة، معظمها غير مشروع، لتصدير أفكاره “الإسلامية” إلى العالم العربي تحديدا، والعالم الإسلامي عموما، وإطلاق أسماءٍ إسلامية مقدسة، كالقدس وكربلاء وخيبر، على مشاريعه التوسعية وحروبه الخارجية ضد الدول الإسلامية المجاورة.

والأشد استغرابا هو البحث عن آثار “الحضارة” الساسانية، التي أسقطها العرب المسلمون في معركة القادسية في فجر الإسلام، والتي تحوَّل بعدها سكان بلاد فارس إلى الإسلام. ويفترض بهذا النظام “الإسلامي” أن يسعى لرفعة الإسلام والتمسك بالمبادئ والقيم التي وضعها المسلمون الأوائل، وكانوا كلهم عربا، وأن يعتز بالأسماء العربية للمعالم الجغرافية في المنطقة، بدلا من إحياء الحضارة الساسانية الزرادشتية التي اتسمت بالغطرسة والظلم واضطهاد الأقوام التي حكمتها، خصوصا العرب في العراق والجزيرة العربية، حيث دارت أولى معاركها الغاشمة، في عهد شاهبور الثاني (310-379م)، وفق ما ذكره المؤرخ البريطاني بلير فوكس-تشايلدز، ثم عانت من الانحطاط والترهل والخلافات بين ملوكِها وقادتِها، الأمر الذي مهَّد لسقوطها المريع.

يبدو أن مفاجآت النظام الإيراني لا نهاية لها، فقد فاجأنا في الثمانينيات عندما أطلق اسم أبو لؤلؤة، قاتل الخليفة عمر بن الخطاب، على اسم شارع في طهران، ثم أطلق اسم خالد الإسلامبولي، قاتل الرئيس أنور السادات، على اسم شارع آخر في العاصمة. فهل يا ترى سيفاجئنا هذا النظام يوما ببناء نصب تذكاري يخلد الشاه يزدجرد بن شهريار بن كسرى، آخر ملوك الساسانيين، الذي أسقطه العرب المسلمون؟

لقد سعى الحكام الإيرانيون عبر القرون إلى تحريف حقائق التأريخ، كي تتلاءم مع متبنياتهم القومية، وحاولوا بشتى الوسائل المتوفرة لديهم، إلغاء العراق من الوجود، لكن العراق برهن عبر سبعة آلاف وخمسمئة سنة على وجوده، بأنه عصي على الغزاة والطامعين، وكل من حاول السيطرة عليه عاد مدحورا.

يبقى السؤال، الذي يطرحه العراقيون وغيرهم، هو لماذا توقِّع حكومة العراق (المنتخبة) على اتفاقية مع إيران للتنقيب عن الآثار الساسانية في العراق؟ علما أنها آثار عراقية إغريقية؟ وما هو فحوى هذه الاتفاقية التي ذكرها داريوش فرماني في صحيفة طهران تايمز؟ وهل تدرك هدف إيران البعيد الأمد من هذه الأفعال؟ أم أن حكومات العراق (الديمقراطي) لا يعنيها استقلال البلد وحقوقه التأريخية ومستقبله وكرامة شعبه؟

سكاي نيوز

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post إتفاق الهجرة الجديد في بلجيكا
Next post كأس السوبر الإيطالي في السعودية