مهن ..و..محن
(محمد الامين)بكلية طرابلس للعلوم الطبية
لم يكن شيئاً عابراً !!

Read Time:8 Minute, 18 Second


عايشتها : كوثر الفرجاني
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_في يومٍ مشمس كنت على موعد معه، في لحظة رسمها او اختارها القدر التقيته؛ كان لدي مقابلة عمل في كلية أهلية بالحي السكني القريب من بيتنا في اجمل ضواحي العاصمة طرابس؛ هناك رأيته؛ وهناك التقيته؛ وهو يقوم بعمله؛ كان مشهدا اعتياديا لعامل من العمالة الوافدة؛ سألته عن المشرف عن المكان فأشار بيده هناك؛ بعد التحاقي بالوظيفة الجديدة كنت على موعد دائم مع هذا المشهد اليومي؛ يستيقظ كعادته دون منبّه، وخيوط الشمس لم تتسلل بعد، يصلي متخشعاً في ركعاته وسجداته؛  ثم يتناول ما قسم له الله من رزق  بأسرع مما نتوقع، فالوقت سيف لا يرحم حتى لمعانه يحجب الرؤية، ويرتدى ما يوحي بعمله؛ ومن ثم يخرج من باب غرفته النظيفة؛ ليبدأ موعد النظافة اليومي؛ تارة يقف قرب مكنسته في تلك الزاوية حيث اعمل؛  وتارة اراه بالباحة الخلفية؛ كان هناك يلملم ما في ذلك المكان المليئ بالأوراق  (شيتات)وملازم ومذكرات متناثرة؛ على طوله تغطيه وكأنها سجادة بيضاء، بقايا أكل بكل أنواعها، وزجاج مكسور؛ وكأن الندى الصباحي تساقط زجاجاً بدل قطرات ماء وأشياء أخرى لا يمكن تمييز ماهيتها؛ وكثيرا ما تعجبت لهذه الكمية الهائلة من المخلفات ووجودها بهذا الشكل المبعثرة في مؤسسة تعليمية؛ ولأنه لا مفر؛  ولا بد أن ياخذ دوره في تنقية هذه الزاوية من الساحات، لوحة تشكيلية حبرها تنكر في عصارة النفايات تجسد مقولة جلال الدين الرومي: “كل تناقض إنما هو انسجام غير مفهوم”، لكن ليس لتعجبه حيلة!
كل ما عليه هو أن يزيل هذه المخلفات الإنسانية – إن صحَّ القول – عن هذا المكان او ذاك؛  فقد يصاب أحد المارة أثر ذلك الزجاج، وقد تتسرب رائحة العفن للبيوت المجاورة، فالروائح الكريهة كعادتها سريعة الانتشار؛ وقد تتسبب في انتشار الحشرات بالحي السكني المجاور؛
كان يخرج منديلا نظيفا من جيبه يتحسس عرقه ببطء وسكون رهيب ؛ حسدته عليه؛ من أين له بهذا السكون والسلام الداخلي! تعجبت تملكني الشعور بالحيرة في رحلة البحث  الدائم عن سلامي المفقود؛ أتابعه بشغف وفضول وهو يعود لينظف المكان؛ في مشهد وصل لأعلى معدلات العذوبة والنقاوة؛ وذروة الطهارة؛ اقتربت منه؛ شيء ما يشدك لهذا الوافد؛ المغترب الغريب؛ رغم صغر سنه.
كان شاباً في مقتبل العمر،  يزيح أوراق الأشجار المتساقطة عن الساحة حيث المقهى؛  والغبار تلفه كحزام حماية أو عاصفة صغيرة خاصة بمكان وقوفه، لكن بخطواتي السريعة اخترقت الحزام فباغتتني جزيئات التراب كأنها ترفض وجودي، لكوني دخيلة وغريبة عنها، فكان منه أن توقف ليسمح لي بالمرور وليوقف تلك العاصفة الصغيرة حتى أمر بسلام لكونها خاصة به، لم يكتفِ بإيقافها بل هتف لي بابتسامة صباحية عذبة كعذوبة ذلك الصباح الشتوي البارد؛ انتابني الشعور بالدفء من هذا الحضور الجاذب؛ وهذا الشخص الدافيء؛ ويوم وراء يوم من تكرار هذا المشهد؛ وبحكم ميلي للتعرف على ثقافات الشعوب بدأت أتجاذب أطراف الحديث مع ذلك العامل اليافع، وقادنا الحوار بسؤالنا التاريخي “كم لك سنةٍ تعمل فيليبيا؟” بصياغة مختلفة بالتأكيد؛ جرى الحوار بسلاسة حول عمله في ليبيا وهو بهذا العمر؛ ضحك وقال :
أنا عندي طفل صغير وزوجتي بالتشاد في انتظار أن اشتري
لهم بطانية؛ وملابس جديدة؛ فقط هذه متطلبات أسرته الصغيرة؛
ما فهمته إن عليه أن يضمن لقمة خبز له ولعائلته المكونة من أمه وابيه وزوجته وطفله؛  لانه هو معيلها الوحيد؛ ومن هنا بدات هذه الحكاية في تحدي قساوة المكنسة؛ قطعة خشب باردة بدلاً من مكتب مرتب نظيف ودافئ وكرسي دوار؛  بدا منغمراً في عمله حتى إنه لم يكن ليلاحظ أن الشمس قد أخذت في أن تصبح حارقة، لولا العرق الذي بدأ يتصبب على وجهه الأسمر، ومحياه الجميل وكثيرا ما تذكر طفله الذي لم يكن ليروقه تقبيل خد أبيه المتعرق؛ لأنه كما علمه ليس من اللائق مسح اليد بالفم؛ ولهذا السبب قال لي   إنه لا يتمنى أن يكبر طفله ليصبح عامل نظافة حين يكبر لأنه عمل متعب ومضني.
وفي ذروة ذلك الحوار الإنساني المفعم برواءح النظافة والتعقيم أخبرني بأنه  عندما كان صغيراً  بدوره لم يكن يحلم بأن يصبح طبيباً نبيلاً في عمله أو مهندساً متفانياً في مخطاطاته؛ ولا أي شيء بحكم وجودهم في تلك المنطقة الحدودية ما بين ليبيا وتشاد؛ في إقليم جغرافي تضاريسه في منتهى القسوة تجعل من الحياة فيه أشبه بالجحيم؛  وشاءت الظروف أن يمتهن عامل نظافة  لكون الطب أو الهندسة والتعليم بصفة عامة اشبه بالمستحيل ولكونه لم يخلق له ولامثاله؛ في ظل ظروف حياتية معيشية قاسية؛ وأنه  خلق لأجل  ان يتعب في هذه الحياة ليضمن الحد الأدنى من المتطلبات التي يحتاجها؛  وانه محظوظ لانه كتب له أن يلتقي باناس طيبين كرماء لطفاء في ليبيا؛ قاصدا صاحب شركة الخدمات التعليمية التي تتبعها هذه الكلية؛ وهو سعيد أنه محاط برعاية هؤلاء الليبيين الطيبين؛ لأنهم اتاحوا له أن  يمتهن مهنة شريفة؛ تكفل له  الكسب الحلال الزلال؛ والتي يجهل أنها مهنة تتلخص في التدبير والتخلص من أعظم معضلات الوجود والنشاط الإنساني؛ النفايات والفضلات.
بعد أن يعقم المكان يتجهز لصلاة الظهر مصاحفه برواية قالون ورواية حفص ترافقه مع سجادته النظيفة  والتي ينقلها معه بعد أن يتأكد من نظافة المكان؛ ثم يجلس في تلك الزاوية يتعلم اللغة العربية ويقرأ في مصحفه الصغير؛ يطلب المساعدة من طالبات الكلية  في نطق بعض الحروف التي يكتبها بخط زخرفي جميل؛ أو يزورني في تلك الزاوية من مكتبة كلية طرابلس للعلوم الطبية يسألني ببراءة طفل مندهش: هل انت اتيت إلى هذا المكان لقراءة كل هذه الكتب؟ ومرة سألني كم لديك من الاطفال؟ تعاطف معي كثيرا لأني عجزت
على أن أنجب لهذا العالم حتى طفلا واحدا على الأقل؛ ظنا منه ان هناك سببا او عارضا عضويا أو صحيا يمنع ذلك المشروع الإنساني المبهج والخلاق؛ وتأثر أكثر وأصبح أكثر تعاطف بعد أن عرف أني عزباء؛ في إشارة واضحة اكد على ضرورة أن نمارس فعل الحياة وفقا للإبداع الفطري الذي جبلنا عليه؛  مؤكدا من خلال فحوى كلماته على تقديس الأسرة الممتدة في تلك الأقاليم البعيدة؛وضرورة الزواج في سن مبكرة وانجاب الكثير من الأطفال.
منذ زمن لم استشعر مثل هذا التعاطف الصادق؛ وهذه العفوية البريئة في طرح أسئلة شخصية؛ في وسط مفعم بالقسوة؛  ذهنيته وثقافته تمنعك من منحك حقك في  الارتباط بشريك حياة لا تنطبق عليه المواصفات والمعايير؛ وسط جائر يحرمك من اختيار شريك حياتك حتى وان أحببته ما لم يكن ضمن نطاق كراسة  المواصفات؛
ولوهلة تمنيت لو اني ولدت في تلك الأقاليم البعيدة حيث البساطة والعفوية والبعلية الانسانية تسمح لك بأن تعيش إنسانيتك بلا تكلف؛ وتحقق وتعيش بعلبتك وفطرتك وطبيعتك كما خلقنا الله.
تابعت المشهد اليومي في انتظار زيارته يسألني هل انظف المكان؟
لتصبح طقوسا يومية؛ تتغلغل في حنايا  روحي الضائعة الباحثة عن أمنها وأمانها في عالم يتسم بالتوحش.
يوميا كنت في انتظار لحظة استشعار ذلك الشيء من النظافة  والطهارة والنقاوة المفقودة في حياتنا اليومية؛ المختزلة في روح هذا الانسان؛
وبعد شهر من المعايشة الوجدانية من طرف واحد تذكرت أن اسأله عن اسمه؛ فقال (محمد الأمين) فكان له ايضا من اسمه نصيبا وافرا؛ يوميا يكمل عمله ثم يصلي ويقرأ القرآن ويجلس على دفاتره وكأنه طالب علم بهذه المؤسسة التعليمية التي هو جزء أساسي وضروري منها؛ وهو  مركزها ونقطة الارتكاز والركيزة والأساس فيها؛
فلا أظن أن هناك ما سيكون أخطر من لو توقف عمال النظافة عن العمل، ستحل بنا أكبر كارثة، خاصة كوننا شعوباً لم نصل بعد إلى درجة الوعي التي تمكننا من معرفة كيفية التعامل مع مخلفاتنا، فجلنا لا يعرف عن النفايات أي شيء سوى رميها!
في اليابان حيث الشعوب تعرف وتطبق تقنيات العزل وإعادة الهيكلة وتفقه جيداً كيفية التعامل مع القمامة حتى يتم تسهيل المأمورية على عامل النظافة والبيئة، يطلقون على عامل
النظافة -الذي هو لقب معيب لا يطلق على عامل النظافة؛ فاطلقوا عليه لقب مهندس الصحة والنظافة، فهم ينظرون إليه كشخص مسؤول عن صحة ونظافة المدينة خاصة ومستقبل البيئة عامة، يتم تكوينهم على أساس مهنة معترف بها ومقننة بكل حيثياتها، كما يجرون مقابلات كتابية وشفوية قبل الالتحاق بالعمل، براتب مجزي بعد حصولهم على شهادات تمنحهم صلاحية العمل والجدارة فيه، لذلك نجد عامل النظافة في اليابان يمتلك سيارة فاخرة، أو منزلاً محترماً ويحظى بحياة مستقرة ومستوى معيشي يحقق له جودة الحياة. عكس الحال في المجتمع العربي المسلم؛ حيث من المستحيل الرابع بعد الغول والعنقاء والخل الوفي أن يحظى عامل النظافة بأجرة تلبي كل حاجياته الأساسية حتى!ورغم ذلك نحن بدورنا كمواطنين وكبشر وكمسلمين نجازيهم بنظرة دونية وبتعامل يغزوه الاستهزاء والاحتقار حتى النخاع، فكيف لنا أن نحترم ونقدر شخصاً يعرض نفسه لشتى الأخطار المتعلقة بالأمراض والميكروبات لينظف فضلاتنا دون أدنى شروط السلامة أو حتى المراقبة الطبية؟
تغريني الأسطر لأتذكر ما حدث يومها، كنت جالسة في أدراج مكتبتي اراقبه على استيحاء؛ فهو لا يدرك فعل السحر الذي يفعله باعماقي وانا اراقبه بفضول وهو لا يدرك أنه يلامس ذلك الجانب العميق المنسي؛ ويتغلغل  في عمق العمق؛ ليذكرني بانسانيتي المنسية الضائعة في زحام مجتمع مزيف ومتكلف بلا حدود بنبذك ويعافيك فقط لأنك شفاف أو واضح.
وليؤكد لي أن المدرس، الطبيب، المهندس، التاجر، الجزار، الإسكافي، عامل نظافة، صاحب ورشة، صاحب المعاش، فلاح، خماس..
لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى، وما بذلته من جهد واجتهاد وسهر الليالي في دراستك وتحصيلك العلمي؛ لا فرق بين الناس سواء على مستوى أصولهم، لغتهم، لونهم، جنسهم، أو حتى مهنتهم إلا بالتقوى، إلا بمدى تفانيه ونزاهته وشفافيته ومدى استحضاره وحرصه على كل ما يرضي الله فيها، كل مهنة شريفة؛ فهي موضع افتخار وتقدير ولنا أن نحترمها.
الله -سبحانه وتعالى- وزع مصدر الرزق لكل الناس، ولعلها حكمة إلهية كونية عظيمة فلنحترمها ولنحترم أنفسنا ونحترم كل المهن مادام صاحبها يتعب ويجتهد بالحلال؛
كذلك هو عامل النظافة، اختار المكنسة والشارع، الغبار وكل أنواع الروائح، اختار عرق الحلال البسيط بدل راحة الحرام التارف، فكيف لنا ألا نقدرهم ونقف لهم تبجيلاً وإجلالاً باحترام نظافتنا العمومية، ورمي القمامة في الأماكن المخصصة لها (سلوك حضاري)؟ لنتذكر فقط أن مع كل ورقة نرميها ينحني لها ظهر رجل أو امرأة امتهن هذه المهنة المحنة.
في الأخير ..
لم يكن محمد الأمين انسانا عابرا في حياتي لأنساه بهذه السهولة، ولم يكن مجرد عابر مكان، هذا الانسان دمعت عيناي لأجله يوم فارقنا،  وسجدت لله أدعو له أن يوفقه ويصل سالما وهو يحمل بطانية لأمه وابيه، واخرى لزوجته وطفله؛ هذا الشخص أخذ من جناني ووجداني الكثير؛  ومن احترامي وتقديري الكثير الكثير؛ ومن حلمي ووجعي، هذا الشخص لم يكن ليكون عابرا، كان وسيبقى صعب النسيان؛ أتذكره وهو يثني ركبتيه على درسه اليومي بعد أن يكمل شغله في هندسة التعقيم والنظافة؛ يتعلم الابجدية
العربية التي لم يكن يتقنها؛ وجلس في مؤسسة تعليمية طبية يتعلم العربية فقط؛ ليقرأ القرآن؛ وخلال سنة ونيف تعلمها؛ وحفظ القران الكريم؛  أتذكره وهو ينتقل بسجادته ومصاحفه التي تركها تذكار على  رفوف مكتبة كلية طرابلس للعلوم الطبية حيث تعلم أبجديات اللغة العربية وقراءة القرآن الكريم؛ ليرجع لتلك الأقاليم البعيدة؛ حيث شظف العيش، وقساوة الحياة؛ ليعلم الأطفال القرآن في الجامع الصغير  بقريته هناك حيث البيوتات الصغيرة والأعشاش تلتف حول الجامع الصغير حيث (محمد الأمين) معلم القرآن يعلم اطفال القرية بالأقاليم البعيدة .

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
100 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post بلجيكا مستمرة بإرسال الأسلحة لأوكرانيا
Next post البارحة زارنا أبي ..!