
دراسة في المنهجية التاريخية لإبن خلدون بين النظرية المنظومية والتطبيق
هبه محمد معين ترجمان
علم التاريخ هو المعرفة الدقيقة الصارمة بالأحداث و المؤرخ عالم يبحث عن الحقيقة، وقد تنوعت المناهج وطرق وأساليب العرض لهذا العلم كما تنوعت الأهداف والغايات , ولعل البعض يرى أن علم التاريخ عند العرب نشأ في الموسوعات التاريخية الكبيرة للطبري وابن كثير وابن الأثير والمسعودي والواقدي حتى المقريزي لكن يبقى الأهم على الإطلاق في تنمية البحث المنهجي للتاريخ هو ابن خلدون، الذي يعتبر أهم مؤرخ للحضارة العربية الإسلامية على امتداد القرون السبعة السابقة وتأتي أهميته في هذا المجال بسبب التحول الجذري الذي أحدثه في دراسة التاريخ فقد استطاع أن يخلص إلى القول: بأن فلسفة التاريخ هي تعبير عن الوعي بالتاريخ وفي نفس الوقت تربية لهذا الوعي وتطوير له. لتخرج العملية التأريخية بذلك عن أن تكون مجرد تأمل نظري، لأنها في نهاية الأمر رصد لحركات المجتمعات في تطورها، ليصبح علم الممارسة على مستوى النظر. ومهمة ضرورية من أجل إرساء شروط النهضة الحديثة.
وقد عكس ابن خلدون فهمه للانتفاع بدراسة التاريخ على خلاف ما يراه بعض الدارسين المعاصرين للتاريخ والتي نشهدها في هذين البيتين وهما :
من لم يعد التاريخ في صدره لم يدرِ حلو العيش من مره
ومن وعى تاريخ من قد مضى قد ضاف أعماراً إلى عمره
ولعل براعة ابن خلدون تأتي في رؤيته للدراسة التاريخية التي تنبع من كونه يحمل فكراً مجتمعياً، مكنه من رؤية واسعة الأفق للمفردات التي كان يجب أن يراها أي باحث متعمق لفهم الأمور، ليغدو علم الاجتماع ذو صلة قوية بالدراسات التاريخية ويعتبر كل حدث تاريخي حدثاً اجتماعياً، وكل حدث اجتماعي حدثاً تاريخياً، مما يفضي إلى أن كلاً من علم التاريخ وعلم الاجتماع يهتمان بدراسة نفس الظواهر. وإذا كان باستطاعة كل منهما، في إطاره الخاص، الإلمام بأحد مظاهرها وتكوين تصور عنها، فإن الصورة التي يقدمانها تبقى بالرغم من ذلك جزئية ومجردة، ما لم يتم وضع نتائج دراستهما في إطارها الشمولي والمتكامل,كما اعتبر ابن خلدون دراسة التاريخ هي فهم للطبائع والتجارب البشرية التي تفيد في التعامل مع الأحداث مهما اختلفت أسبابها. لأن النهج الديالكتيكي (الجدلي) لفهم التاريخ برأيه استطاع تحقيق نتيجة تركيبية لسياق الأحداث، وذلك بفهم الماضي كمحطة وطريق ضرورية تمر بها الأحداث التي يقوم بها أناس ينتمون لبيئة معينة يتولد عنها في الحاضر ظروفاً ومجتمعات وبيئات لا يمكن فهم صيرورتها وتطورها وفكرها إلا بفهم تلك المحطات التاريخية التي مرت بها, وبذلك يكون موضوع العلوم التاريخية مجموع الأعمال الإنسانية عبر تسلسلاتها في كل الأزمنة والأمكنة، سيما إذا كان ولا يزال لها تأثير على الوجود الإنساني وعلى بنية جماعة بشرية ما، وضمنيا على وجود بنية الجماعة الإنسانية الحاضرة أو المستقبلية.
وفي حديثنا عن منهجية ابن خلدون في البحث التاريخي نجد أنه قدم في مقدمته الشهيرة مثالاً فريداً من الرؤية الشمولية التي تهيئ كل ذي فن من استحكام فنه وكل ذي علم من استيعاب علمه وعمله فيه؛ ومن العنوان الذي بدأ فيه ابن خلدون مقدمته ” في طبيعة العمران في الخليقة” يظهر منهجاً تكاملياً من المعطيات المعلوماتية التي تمكنه من استنباط الحقائق التاريخية والاجتماعية في مؤلفاته.ولكن هل استطاع أن يلتزم ابن خلدون بمنظومته هذه؟
لقد وجد الباحثون أن ابن خلدون من خلال فهمه للتاريخ ودراسته لم يكن أمراً سطحياً أبداً لقد كان أمراً منهجياً فعلاً ؛ فيتحدث غولدمان عن دراسة التاريخ قائلاً: (إن البنية الحقيقية للأحداث التاريخية، بالرغم من ذلك، تتضمن زيادةً على قصدها الواعي في تفكير وغايات الفاعلين، معنى موضوعياً مغايراً بكيفية ملحوظة في الغالب مثلاً:
*هل كانت الحروب التي خاضها نابليون حروبا ذات صبغة دفاعية أم هجومية؟
*هل كان القصد منها خلق هيمنة أوربية أم فقط الدفاع عن مكاسب الثورة الفرنسية ضد حكومات النظام القديم وفي نفس الوقت فرض واقع دولة برجوازية جديدة بالقوة، من المحتمل أن تصبح منافسا لانجلترا ؟
هكذا يبدو أن القيام بدراسة الأحداث التاريخية والاجتماعية يجب أن يتم على مستويين، مما يستلزم أيضاً معيارين من أجل أحكام القيمة، والتي ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار ليس فقط التلاحم والترابط الإنساني والقوة الإبداعية لدى الأفراد بل وأيضا التناسق الموجود بين وعيهم الفردي والحقيقة الموضوعية). لذلك فإن البيئة التي تحيط بالفرد هي التي تصنع الفرد وتصنع نجاحه أو فشله، عظمته أو وضاعته فلو أن نابليون بونابرت ولد قبل خمسين سنة، أي في عهد لويس الخامس عشر لما كانت لحياة هذا الضابط الشاب سوى أهمية حكائية مثيرة، على اعتبار أن الظروف كانت ستحد ربما من طاقته وفعله.لكن ابن خلدون رغم هذا اختلت منظومته عن المنهجية التي وضعها ولم يستطع تطبيقها وبدى خلل تاريخه الشهير باسم “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” خاصةً في أخبار أهل المشرق فلا المقدمة ولا ” تاريخ البربر” تضمنا دراسةً منظمةً عن الأزمة التي استطاع ابن خلدون أن يراقب تأثيراتها في القرن الرابع عشر.وقد جزَّءَ فهمه لعناصر دراسته بطريقة غير واضحة لأغلب الدارسين حتى إن إيف لاكوست يرى أنها (غير مدروسة بحق وأنها متناقضة، والإفادة منها لا تكون إلا ببعض المقاطع .وهكذا أبن خلدون الذي وضع المنهجية للبحث التاريخي كتب تاريخه (العبر وديوان المبتدأ والخبر..) قبل أن يكتب المقدمة لذا وقع في الأخطاء نفسها التي وقع فيها المؤرخون الذين انتقدهم في مقدمته، فأثبت بذلك أنه يكتب بنفس مستوى الكثيرين من أسلافه، وقد بات من الواضح لدى كثير من المؤرخين وسواهم أنه لم يلتزم بتطبيق تنظيراته المنهجية والنقدية ولم يلتزم بالمنظومية الخاصة بالبحث والتي وردت في المقدمة، الخاصة بالعمل التاريخي، إذ ذكر في (العبر) أخباراً وروايات ضعيفة من المتعذر قبولها إذا ما طبقت عليها آليات وأدوات النقد وإثبات الحقائق التاريخية التي تطرق إليها ضمن حديثه عن أخطاء المؤرخين وأكاذيبهم، وفي مقدمتها جهلهم، كما يقول بطبائع العمران. “وقد أشار أحد الباحثين إلى أن ابن خلدون بمقدار ما يرتفع في نظريته الاجتماعية نراه يسف في تاريخه، فهو فهو أحياناً في واد وأحياناً في واد آخر ,ويعلق على هذا التناقض الدكتور محمد عابد الجابري بين (المقدمة) وتاريخ العبر) إلى عدم صلاحية معيار (طبائع العمران) التي أكد عليها ابن خلدون للحكم على الأحداث التاريخية، وأنه هو المعيار النقدي الأهم و أن غيابه عن المؤرخين السابقين له هو الذي أوقعهم في الأخطاء. لكن، حسب ما يراه الجابري، بأن العمران ليس عبارة عن قواعد منهجية، بل هو تفسير لأحداث تاريخية معينة، فهو يعتمد على التاريخ ولا يعتمد التاريخ عليه. ويجب أن تكون الأخبار التاريخية صحيحة لكي نتمكن من خلالها من التعرف على (طبائع العمران)، وعليه يكون التاريخ الصحيح معياراً للقواعد السليمة للعمران البشري. وقد أفضى هذا التحليل إلى تخطئة ابن خلدون مرة أخرى حينما جعل العمران البشري معياراً أو مقياساً تقاس عليه صحة الأحداث التاريخية. وهو الذي أوقعه في التناقض بين التنظير لمعيار العمران في المقدمة وتطبيقه في العبر، ، لأن القوانين التي وضعها للعمران لا تنطبق على أحداث تاريخية صحيحة كبرى لا تحتمل التأويل أو التحايل. وبما أن ابن خلدون لم يكن بقادر على أن يجعل لكل حدث منها قانوناً خاصاً، لأن ذلك يلغي عدم العمران إذ لا علم إلا بالكلّي، فقد لجأ إلى ترك (طبائع العمران) جانباً وشرع بكتابة التاريخ كما هو، وبالشكل نفسه الذي كتبه به أسلافه من المؤرخين ,ولكن ماذا عن معياري الدقة والموضوعية، وقوانين الطبيعة عند ابن خلدون ؟ ومن خلال البحث نجد أن ابن خلدون كان واعياً لمعيار القوانين الطبيعية عندما كتب التاريخ، لكنه من جهة ثانية أغفل عن معيار الدقة والموضوعية في كثير من الأحداث التاريخية التي نقلها في تاريخه، “إذ روى أخباراً واهية عن مؤرخين سابقين عليه، وأخذها على أنها مسلمات صحيحة لا تقبل الجدل.. والمستقصي لتاريخه يلحظ هذا بكثرة، وبخاصة في الجزء الذي كتبه عن أخبار المشرق العربي، وتاريخ البشرية القديم ,كما أنه لم يزد شيئاً مهماً في تاريخه على ما دونه المؤرخون الذين سبقوه إلا في إضافات انفرد بها عن تاريخ البربر خاصة
ومن ناحية أخرى، فإن دقة المؤرخ وموضوعيته التي أفاض ابن خلدون في الحديث عنها ، وشدد على إتباعها، ونقد من لم يلتزم بها من المؤرخين نقداً لاذعاً، قد غابت عنه في مواضع كثيرة فقد أورد ابن خلدون في بداية مقدمته عدداً من الأخبار التاريخية التي استشهد بها كأمثلة على الأخطاء التي وقع فيها معاصروه من المؤرخين، والسابقون له منهم، لأن هؤلاء وأولئك، كما يقرر، لم يلتزموا بمعايير فحص الروايات التاريخية، وفي مقدمتها معيار (العمران)، ولم يراعوا الدقة والموضوعية وقوانين الطبيعة فيما نقلوه منها. بيد أنه، في تصحيحه لتلك الأخطاء وفي إعادة قراءته لتلك الأخبار والروايات، لم يراع غالباً القواعد والضوابط النقدية، (العمرانية) والموضوعية والطبيعية، ولعله يمكن التماس العذر له لمفارقة التنظير والتطبيق في تاريخ ابن خلدون دون مقدمته، لأنه، وكما سبق وأشرنا،أنه أتم كتابة تاريخه تقريباً قبل أن يشرع بكتابة المقدمة. ولكن مثل هذا العذر لا يمكن أن يساق لتبرير ابتعاده عن تطبيق معايير كتابة التاريخ الصحيح ونقد الروايات التاريخية مما أثبته في المقدمة على ما أورده من روايات تاريخية فيها. ولكن ذلك لا يعني في الوقت نفسه أن كل معالجات ابن خلدون للروايات الخاطئة كانت بعيدة عن الضوابط والمعايير التي وضعها لكتابة تاريخ صحيح، إذ أن نقده لبعض الروايات كان موفقاً، ومتوافقاً مع تلك الضوابط والمعايير التي قررها، وخاصة ما استند إلى النقد الذي يعتمد معيار (العقل) و (العادة)، كنقده وفقاً لهذين المعيارين لما أورده المسعودي، وكثير من المؤرخين، عن عدد جيش بني إسرائيل في التيه، وعن وصول التبابعة إلى المغرب الأقصى وبلاد الروم وفارس وما وراء النهر والصين. وعن دواب البحر التي صدت الإسكندر ومنعته من بناء الإسكندرية، وتمثال الزرزور في روما، والمدينة ذات الأبواب، ومدينة النحاس. لكن تبقى المفارقة بين التنظير والتطبيق بين مقدمة ابن خلدون والتاريخ الذي كتبه واضحة ومعروفة بعد أن أشار إليها العديد ممن محصوا تاريخه رغم أن هذا الأمر لم يتضح في البداية في دراسات الباحثين للفكر الخلدوني، والتناقض الذي لمسناه مما تقدم بين ما أراده ابن خلدون للعمل التاريخي من دقة وموضوعية ومراعاة للعقل وقواعد العمران، وبين طبيعة معالجته لبعض الأحداث التاريخية التي أوردها في مقدمته، لا يخرج، فيما يبدو، عما كانت تتصف به شخصية ابن خلدون التي تجاذبتها نزعتان متضادتان كما يرى ساطع الحصري, إحداهما حب المنصب والجاه، والأخرى حب الدرس والعلم. وهاتان النزعتان اللتان وقع تحت تأثيرهما ابن خلدون كانتا، فيما يقرر الحصري أيضاً الدافع لإبداعه الفكري، وهما أيضاً، فيما نرى، وراء تناقضاته التي أشرنا إليها. بيد أن كل تلك التناقضات والأخطاء التاريخية, تقلل من عبقريته الفكرية التنظيرية في مجال فلسفة التاريخ. وإلى هذا المعنى يشير المؤرخ الإنكليزي روبرت فلنت بقوله: “إذا نظرنا إلى ابن خلدون كمؤرخ وجدنا من يتفوق عليه من كتّاب العرب و نجد عالم منقطع النظير في مجال وضع النظريات كما وصفه فلنت حتى مع عدم التزامه بها وهو يشمل كل زمان ومكان .وعزّ نظيره بين الذين سبقوه والذين أعقبوه حتى القرن التاسع عشر، في ميدان الآراء التنظيرية الخاصة بأصول الدراسة التاريخية والنقد التاريخي، والتي تناثرت في ثنايا نقده للمؤرخين. بيد أننا يجب أن نقرر، من جانب آخر، بأن الأفق الفكري الرحب لابن خلدون لم يقتصر على التنظير، بل تجاوزه إلى معالجات واقعية، ولكن في قضايا أخرى.. اجتماعية واقتصادية وسياسية متنوعة.
ورغم ما ذكر فأننا لا نقلل من قيمة التميز الذي اتصف به الفكر الخلدوني، ولا يجب أن نبخس عبقرية صاحب هذا الفكر حقها.. فمع ذلك فإن المقدمة تعد مؤلفاً موسوعي الطابع ، تتضمن عرضاً منهجياً وتحليلاً للبنى الاجتماعية والسياسية كما أن كتب التاريخ التي وضعها مازالت من المراجع الهامة للبحث التاريخي .ولعل المهم من الاستعراض السابق لإشكاليات البحث المنهجي بين النظرية والتطبيق هي الوصول للفكرة الأهم ليس فقط للتاريخ فقط ولكن لاعتما التحكيم العقلي والنقد في كافة الأمور فلا بد من إخضاع الروايات الحالية والقديمة للتدقيق والتمحيص للوصول للحقائق ويجب إعادة كتابة التاريخ دائماً بالاطلاع على المستجدات والتزام منهجية ومنظومية خاصة ودراساتنا التاريخية المعاصرة لا يمكن لها أن تتخلى عن مسؤولياتها تجاه هذه المهمة إذا أردنا لأنفسنا تاريخاً علمياً له حظ متميز في النهضة ودور فاعل في خلقها. ولا يعيبنا أن نتأسى بالتاريخ الذي بدأت أوربا بصنعه منذ التحول إلى التاريخ الدنيوي ووصوله لأحد العلوم الهامة باعتماده القواعد النقدية، العقلية والعملية، التي وضعها المؤرخان الفرنسيان شارل لانجلو وشارل سينوبوس.
Average Rating