ماكْرون في الاليزيه : درس في الحدس وجدل اليمين و اليسار و الوسط

Read Time:8 Minute, 57 Second

 

شبكة المدار الإعلامية الأوربية…_أسدل الستار عن نتائج الرئاسية الفرنسية ليتضح حدس “ايمانويل ماكرون” الوافد الشاب على قصر الاليزيه. في قراءة لأهمية الوسط في سباق الرئاسة وحسم الأمور، وبتجاوز لثنائية اليسار واليمين تمّ الرقص على الحبال واعتلاء سدة الحكم بالخروج عن الأحزاب تارة والظهور في أهاب الرافض لها طورا حتى استقر الأمر. كان الاستثمار  في  إمبراطورية الوسط، صانعة الملوك في الجمهورية الخامسة ، وتغيرات التضاريس في قلب الأحزاب السياسية ورصد تمايلاتها الإيديولوجية  والسياسية وتوازناتها الإصلاحية، لينحو رئيس الاليزيه الجديد نحو  إنشاء  خارطة سياسية تقوم على ثنائية جديدة بين وسط موحّد وأطراف منقسمين.

 

مقدّمة

لا شكّ أن وصول “امانويل  ماكرون” لسدة الحكم في فرنسا يمثل درسا في أهمية الحدس السياسي في صناعة القادة وصناعة نجاحاتهم. فقد استوعب، كما استوعب غيره  رفض الشعب الفرنسي لطبقته الحاكمة. ولكنه، و على عكس غيره، استطاع أن يطلق ديناميكية تفكيكها. ولئن كان المستقبل وحده سيجيب عن سؤال ايجابيات هذه الديناميكية من عدمه،  فان المفيد تحليل ما يجري في الساحة السياسية الفرنسية.

أولا:  إمبراطورية الوسط

تقضي القاعدة التي حكمت التوازنات السياسية في فرنسا منذ عقود بان التيار الوسطي يشكل الرافعة للوصول إلى الاليزيه بل وحتى لممارسة الحكم. ولكنها تقضي أيضا بان الوسط  كقوة سياسية لا تستطيع أن يصل إلى الحكم بنفسه ويعود ذلك طبعا لأسباب عديدة. من أبرزها ضعف الروابط الإيديولوجية لهذا التيار. وهو معطى ينعكس سياسيا من خلال تفتت عناصره وعجزه عن إنشاء قوة حزبية مستقرة. ولكنه يعود أساسا للقطبية الثنائية التي يفرضها النظام الانتخابي. فالمرور من الدور الأول يحتاج إلى وحدة الصف. ولكن الوصول إلى الاليزيه يفرض القدرة على الانفتاح  ومن ثمة أهمية الوسط. أي أن من لا قدرة له على تجميع عائلته السياسية مآله  الإقصاء من الدور الأول وتلك نقطة ضعف الوسط. ومن لا يقدر على الانفتاح على غيره لا يستطيع أن يدرك عتبة الخمسين بالمائة من الأصوات في الدور الثاني. ومن ثمة أهمية الوسط الذي يمكن اعتباره صانع الملوك في الجمهورية الخامسة.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد. ذلك أن ممارسة السلطة نفسها تحتاج إلى سياسات وسطية لان غيرها يثير معارضة شرسة لا يحبّذها أصحاب الاليزيه. فأصبح الوسط ملجأ كل السياسيّين في ممارسة الحكم. ففي مجاله لا يبتعدون عن قواعدهم التي يحتاجونها حين العودة الى صناديق الاقتراع . في رحابه ، لا ينغلقون على عائلاتهم السياسية يمينا أويسارا. وفي ذلك تجنب لتعكير صفو الحياة السياسية بما أن فيه  تحسبا للحاجة إلى الانفتاح حين تقتضي ذلك المعادلات السياسية في المستقبل. والنتيجة تشابه كبير بين سياسات مختلف الحكومات. حتى إن المختصين يقولون أن فرنسا تتبع نفس السياسات الاقتصادية والاجتماعية تقريبا منذ الثمانينات على الأقل. وهو سبب من أسباب حنق الفرنسيين الذين يعتبر كثير منهم أن الطبقة السياسية قد أصبحت تشكل أوليغارشية من المحترفين تتقاسم فيما بينها جميع موارد الحكم محليا وجهويا ووطنيا. ويذهب البعض منهم إلى حد القول بعقم الديمقراطية الفرنسية التي تكفي بالتداول بين الأحزاب  دون أن تمكّن من تداول فعلي في السياسات.

وهو ما ركّزت عليه القوى الشعبوية في أقصى اليمين وأقصى اليسار ،معتبرة أن التداول الحقيقي لا يمكن ان يكون إلا بالتخلص من الأحزاب التقليدية أي الحزب الاشتراكي في وسط اليسار وحزب الجمهوريين في وسط اليمين. وكان من الممكن أن يكون لهذا الطرح أثره ولكن بشرط توحيد القوى الشعبوية خلف قيادة مشتركة. وتكمن المشكلة في أن هذا شبه مستحيل، وذلك رغم التشابه الملفت لبرامجها الاقتصادية والاجتماعية القائمة على الحمائية والانغلاق. وسبب ذلك الفجوة الإيديولوجية والتاريخية التي تقف بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. وعليه ،آمنت الأحزاب التقليدية بأنها في مأمن  إذ أنها لم تكن تحسب حسابا للخطر القادم من الوسط. وهي في ذلك معذورة لأنه يعسر  توقع أن يصب  التغيير من الموقع الذي كان الالتجاء إلى سياساته سببا من أسباب الشعور بالجمود ،ومبررا للغضب الذي كانت الأحزاب التقليدية عرضة له. وهنا يأتي حدس “ايمانويل ماركون”. فقد استطاع الاستفادة من الغضب  الشعبي ،ولكن مع طرح بديل . أي انه جمع بين جاذبية الاعتدال وجاذبية الرفض. فقد قدم نفسه على انه من خارج الأحزاب ،ومناهض لها. و بدا هدفه إعادة رسم الخارطة السياسة الفرنسية تجاوزا للتقسيم القديم بين اليمين واليسار.

ثانيا: تدمير اليسار  

لقد كان “ماكرون” يعلم أن تحقيق مشروعه يفرض عليه تزعم ما يسميها ب”جبهة الإصلاحيين” في مواجهة القوى الشعبوية في مختلف أشكالها، وحجته في ذلك التشابه الكبير بين البرامج الاجتماعية الاقتصادية لأقصى طرفَي المشهد السياسي من جهة وبين مختلف العناصر المكونة لوسط المشهد من جهة أخرى. وعليه فإن الخارطة السياسية القديمة لم تكن غير قادرة على الاستجابة لأولويات الشعب الفرنسي وتطلعاته فحسب. ولكنها كانت تمثل أيضا عائقا هيكليا أمام مؤسسة الكتلة الإصلاحية التي تعود لها مسؤولية حماية فرنسا من الوقوع في براثن الشعبوية.

ولذا ،فقد كانت غاية “ماكرون” الأولى تفكيك اليسار وشلّ كل قدراته على التمترس وراء شعاراته الاجتماعية القديمة. وينبغي التذكير أن “ماكرون” قادم من الحزب الاشتراكي وبالتالي  كان من الضروري له أن يبدأ رسم الخارطة السياسية الجديدة من خلال تفكيك هذا الحزب.فما كان له أن يصل إلى الاليزيه دون انتزاع جناحه الأكثر ليبرالية باعتباره خزّان الأصوات الأقرب إليه. أي أن إمبراطورية الوسط كانت قد بدأت زحفها يسارا. فاحتلت ما كان لها أن تحتل وتركت الباقي خرابا قد يصلح للبكاء على الإطلال.

ولقد صدق حدس “ماكرون” حين رفض المشاركة في الانتخابات الأولية لوسط اليسار . وقد رأى الكثيرون في هذا الاختيار مقامرة غير محسوبة العواقب ، بما أنها كانت تعني قطيعته الكلية مع عائلته السياسية ولكن هذا الرأي يعتمد قاعدة تقول بان الوصول إلى الاليزيه لا يكون إلا عبر آلة انتخابية حزبية . أي انه سجين الإطار التحليلي القائم على ثنائية اليمين واليسار التي كان هدف ماكرون تجاوزها أصلا. لقد كان مؤسس “حزب إلى الأمام” يعلم يقينا أن  جثة حزبه الأم ستكون العتبة الأولى التي يدوسها على طريقه نحو الاليزيه. وقد رأى بوضوح نقطة الضعف التي أمكنه من خلالها أن يصيبه في مقتل. ألا وهي آلية الانتخابات الأولية. فقد استوعب أن اعتمادها ،خاصة في ظل وجود رئيس متخل يفترض أن يكون المرشح الطبيعي للاشتراكيين،  إنما يعبر عن أزمة الحزب الاشتراكي الذي عجزت مؤسساته عن إفراز قيادة ذات حظوظ معقولة للانتصار. فاستبدلت شرعية الواقعية بشرعية الانتخابات. لقد فهم “ماكرون” أن حزبه القديم بتخلي مؤسساته عن القرار، إنما قد ترك مصيره للمجهول ، بل انه قد استسلم لجناحه الأكثر تشددا والأبعد عن مجال الوسط الذي كان ماكرون يسعى لاستباحته. أي أن امتناعه عن المشاركة في الانتخابات الأولية قد ساهم في ترجيح كفة الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي مما فسح المجال لإمبراطوريته أن تتوسع يسارا. ولعل الإمبراطور لم يكن يتوقع أن صعود نجمه إعلاميا وسياسيا على حساب “بنوا امون” مرشح الحزب الاشتراكي سيضاعف الضغط عليه في أقصى اليسار أيضا. إذ أن اليساريّين الباحثين عن تيّار ذي حظوظ حقيقية في الفوز بسدة الاليزيه لم يصوتوا كما هي عادتهم ، لمرشح الحزب الاشتراكي. وكان أمامه اختياران انتقلت  لهما اغلب الأصوات. فالجناح الليبرالي صوت للوسط . في حين انحاز الجناح المتشدد إلى أقصى اليسار مع “جون لوك ميلانشون” . فكانت النتيجة كارثية على الاشتراكيين. ولم تقتصر على هزيمة مدوية تكبدها مرشّحهم منذ الدور الأول. بل أنها وصلت حد زعزعة مؤسسة الحزب وتهديد ماكيناته الانتخابية. فقد تفتت تياراته ،وغابت القدرة على تجميعها إلى درجة أن “ايمانويل فالس” ، احد رموزه ورئيس الوزراء السابق قد اقرّ بموت الحزب سريريا. والعيب أن هذا التصريح على خطورته لم يثر أي ردة فعل تستحق الذكر. وكان الجميع قد قبل نهاية الحزب الذي لا يزال إلى حد اللحظة يتمتع بالأغلبية المطلقة في البرلمان. والحقيقة أن اليسار الفرنسي اليوم منقسم إلى ستة تيارات على الأقل ليس بينها أية قوة قادرة على أن تشكل تحديا جديا في التوازنات الراهنة. ويتوقع أن تطلق الانتخابات التشريعية الشهر القادم رصاصة الرحمة على أكثرها. وفي ذلك  تحقيق لأول أهداف ماكرون بإقصاء احد ابرز مكونات الخارطة السياسية الفرنسية منذ نشأة الجمهورية الخامسة .

ثالثا:  تدمير اليمين

يهدف “ماكرون” إلى حكم فرنسا على رأس كتلة واسعة موحدة تكون قادرة على تنفيذ إصلاحات موجعة وعلى مواجهة قوى شعبوية حصدت مجتمعة في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية أكثر من نصف الأصوات. ولكنها تبقى مشتتة لأسباب  إيديولوجية وتاريخية عميقة. أي أن الخارطة السياسية التي يطمح لإنشائها تقوم على ثنائية جديدة بين وسط موحد وأطراف منقسمين. ولئن كان تحليل اليسار خطوة حاسمة نحو تحقيق هذه الغاية فإنها لا تكفي إذ ليس حزب الجمهوريين اليميني باللقمة السائغة.  وبالتالي فانه اقل تأثرا بنجاحاته الانتخابية من الحزب الاشتراكي وأكثر تحفزا لمقاومته وتجنب الوقوع في فخاخه. ثم إن خسارة مرشح اليمين ،”فرانسوا فيون” في الدور الأول من الرئاسيات على خطورتها جاءت اقل حدة وأثرا من هزيمة مرشح الاشتراكيين. فقد كانت نتيجته مشرفة بالمقارنة مع “بنوا امون” . كما أن هزيمته بدت مرتبطة بشخصه لما تعلق به فضائح  خدمت خصومه أكثر من ارتباطها ببرنامجه الانتخابي أو بالحزب الذي يمثله. وبحكم الاستقرار الذي أظهرته الكتلة الانتخابية اليمينية في مواجهة الضغط المزدوج الذي سلطه عليها “ماكرون” عن يسارها و”مارين لوبان” عن يمينها ، حق للجمهوريين أن يأملوا في استغلال الانتخابات التشريعية القادمة للثار سياسيا من خلال الحصول على أغلبية في البرلمان. وهو سيناريو لن يؤدي فقط إلى الحفاظ على توازن الحزب وضمان وحدة مؤسساته، بل انه سيفرض أيضا على أصحاب  الاليزيه تعايشا لا يحبّذه . أي أن حزب الجمهوريين يشكل اليوم القوة السياسية الأكثر خطورة على “ماكرون” ومشروعه خاصة انه يعتبر ان عجز حزبه عن حصد اغلبية مريحة في البرلمان سيعيق تنفيذ برنامجه الإصلاحي. ولذا  فانه قد انبرى لتفكيك اليمين بعد أن كان قد فكّك اليسار. وكانت أول خطواته أن فتح الباب منذ ترشحه للدور الثاني للرئاسيّات أمام رموز أحزاب الجمهوريين. للالتحاق بقوائم حزب إلى الأمام في تشريعيات جوان. وهو موقف محرج  للكثيرين بحكم أنهم وجدوا أنفسهم ممزقين بين إغراءات مشروع جديد واعد ومنتش بالانتصار في الرئاسيات ولكن دون ضمانات واضحة للاستمرار من جهة ومؤسسة حزبية عريقة وصلبة، ولكن أركانها قد تخرّ في أية لحظة تحت ضغط إمبراطورية “ماكرون” أو أمام إغراءاتها. واذا كان لابد من التخلي عن العائلة السياسية القديمة فإن من الأفضل المبادرة إلى ذلك قبل أن تحسم الأمور ، والتأخر قد يقلّل من فرص التموقع الجديد وقد يؤكد تهمة الانتهازية على أصحابها. ولكن التسرع قد يعني أيضا القطيعة مع موروث قديم دون القدرة على  ادارك مواقع القيادة في الحركة الجديدة ،عملا بالمثل الفرنسي الذي يقول ” للمنتدبين حديثا ان يشاركوا في الحرب ولكن ليس لهم أن يحملوا الرايات”. ثم ان ماكرون قد بادر منذ وصوله إلى الاليزيه ،إلى تعيين “ادوارد فيليب” رئيس لحكومة طغى عليها اللّون اليميني.ورئيس الوزراء نفسه من وسط اليمين. أي انه يتموقع سياسيا في المنطقة التي يحتاج “ماكرون” لضمها إلى إمبراطورية الوسط التي يقودها في اقرب وقت ممكن. وفي ذلك إشارة واضحة إلى انه قد بدا زحفه يمينا. ونتيجة الزحف تبدو شبه مضمونة . فبالإضافة  إلى التقارب الكبير بين خطابه السياسي ومبادئ وسط اليمين ،يملك صاحب الاليزيه أكثر من سهم في قوسه. فإمّا أن يفكك حزب الجمهوريين بإغراءات الالتحاق إلى الحكومة. بما يضمن لحزبه أوفر الحظوظ للهيمنة على البرلمان، وأما أن يفككه من خلال اعتماد سياسات تثير الانقسام بين صفوف الجمهوريين في البرلمان .

خاتمة

لاشك ان للحظ ،كما للإعلام وللوبيّات المال الأعمال دورا حاسما في ملحمة “ايمانويل ماكرون” على طريق الاليزيه ،وفي نجاحه في زعزعة الخارطة السياسية التي حكمت فرنسا منذ عقود طويلة. ولكن ذلك لا ينفي ما أثبته الرجل من حدس سياسي في تحسس الفرص ،ومن قدرات ميكيافيلية على استغلالها بأقصى قدر ممكن ن النجاعة . ولا شك انه يعتبر أن تفكيكه لليمين واليسار إنما هو قائم على فكرة “التدمير الخلاّقة” بلغة “جوزيف شمبيتير” الاقتصادية مطبقة على الحياة السياسية. ولئن كان التدمير فعالا فان الأيام القادمة وحدها كفيلة ببيان مدى قدرة ماكرون على الانتقال من الهدم إلى البناء.

مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية csds

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post الاستخبارات الفرنسية ليست على مستوى مهمة مكافحة_الإرهاب
Next post دلالات انضمام حلف( الناتو) للتحالف الدولي لمحاربة داعش