مقامات الحريري وعالميتها في الأدب

Read Time:5 Minute, 50 Second

سوزان الأسعد

شبكة المدار الإعلامية الأوربية…_لقد كان حظ الادب في العصر العباسي مخالف تماما لحظ السياسة , فالخصائص العباسية في الادب قد ظلت سائدة في النتاج الوجداني من الشعر والنثر الى سقوط بغداد , ولا يزال نفر كثير من الناثرين والناظمين ينهجون النهج العباسي في الأدب أصالة وتقليدا .ومن الجدير بالذكر تطور النثر حتى بلغ اوجه في العصر العباسي واصبح متعدد الفروع فهناك النثر العلمي والنثر الفلسفي والنثر التاريخي والادبي فكان بعضه قديم وبعضه الآخر مبتكرا لاعهد للعرب فيه إن الكتابة في هذا العصر بمثابة جواز عبور الى الوزارة وبعض وظائف الدولة المرموقة لذلك كان على الراغبين في الوصول الى هذه المناصب العليا اتقان صناعة الكتابة .ومن ابرز الفنون النثرية التي ظهرت في هذا العصر (التوقيعات , الكتابة الديوانية , الرسائل الاخوانية , المقامات ) ولعل الاخيرة هي التي سنقوم بدراستها.

فن المقامات:

المعنى اللغوي :

اذا رجعنا الى الشعر الجاهلي وجدنا كلمة مقامة تستعمل بمعنيين , فتارة تستعمل بمعنى مجلس القبيلة وتارة تستعمل بمعنى جماعة يتضمنها هذا المجلس , أما في العصر الاسلامي تستعمل بمعنى مجلس يقوم فيه شخص بين يدي خليفة او غيره ويتحدث واعظا واذا تقدمنا اكثر من ذلك فنجدها تستعمل بمعنى المحاضرة

المعنى الاصطلاحي :

عرفها الدكتور عمرو فروخ بأنها “قصة نثرية لكن قد يتخللها شعر قليل او كثير من نظم صاحبها المكدي , او من نظم بعض الشعراء فيما يروي بها لسان المكدي ايضا وقد يكون ايراد الشعر واظهار المقدرة في النظم او لإظهار البراعة في البديع خاصة عند الحريري ”

وعرفها الدكتور شوقي ضيف في كتابه المقامة “مجموعة حكايات قصيرة متفاوتة الحجم جمعت بين النثر والشعر , بطلها رجل وهمي عرف بخداعه ومغامراته وفصاحته وقدرته على قرض الشعر ,وحسن تخلصه من المآزق الى جانب انه شخصية فكاهية نشطة تنتزع البسمة من الشفاه والضحكة من الاعماق ويروي مغامرات هذه الشخصية التي تثير العجب رجل وهمي آخر ”

نبذة عن الكاتب :

هو القاسم بن علي بن محمد بن عثمان بن الحريري ابو محمد البصري ,من بلد قريب من البصرة يسمى المشان , مولده في حدود سنة ستة واربعين واربعمئة في خلافة المسترشد .كان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة وله كتب تشهد بفضله وابرزها كتاب المقامات .

طمحت نفسه الى وظائف الدولة وليس تحت ايدينا اخبار كثيرة تفسر تقلبه في الوظائف ,له ثلاثة اولاد وهم : عبيد الله , ابو القاسم عبدالله , ابو العباس محمد .

أولهم كان قاضي البصرة , والثاني موظفاً في ديوان بغداد , أما الثالث فورث وظيفة أبيه ,وكان الطلاب بعد وفاة الحريري يقصدون ابناءه الثلاثة ويأخذون عنهم مقامات ابيهم .

واشتهر من بينهم محمد في شرح صعوباتها اللغوية , ويعتبر من شرّاحها الذين نهضوا في تفسيرها وحل مشكلاتها الشريشي .

أشهر مؤلفاته (دُرّة الغواص في أوهام الخواص )و ( مُلحَة الأعراب في صناعة الإعراب ) و الرسالة السينية والشينية فضلاً عن ديوان شعر , واهم كتبه المقامات.

كتاب المقامات :

لقد عني الحريري بكتابه المقامات سالكاً نهج بديع الزمان الهمذاني محتذي حذوه , فألف كتاب المقامات الذي يحتوي على خمسين مقامة قيل ان اولها المقامة الحرامية , يقول الحريري :” فأنشأت المقامة الحرامية, ثم بنيت عليها سائر المقامات وكان أول شيء صنعته “.

لكل مقامة من مقامات الحريري موضوع مختلف وان كان معظمها عن النصب والاحتيال ,أما بالنسبة للشخصيات فهناك شخصيتان رئيسيتان , الأولى أبو زيد السروجي وشخصيته تشبه شخصية خالويه المكدي في حديث الجاحظ , وكما قام ياقوت الحموي بإفراد ترجمة لخالويه ظناً منه انه انسان من لحم ودم , تحدث ايضاً عن المطهر بن سلار السروجي على انه انسان حقيقي وهذا بالنسبة للمكدي أو البطل , أما الراوي فأيضاً شخصية وهمية سمّاها الحارث بن همام ,يقول ابن خلكان :”انه قصد بهذا الاسم نفسه , ونظر في ذلك الى قول النبي صلى الله عليه وسلم :”كلكم حارث وكلكم همام “.

فالحارث الكاسب , والهمام كثير الاهتمام بأموره , ومامن شخص إلا وهو حارث وهمام وقوله صلى الله عليه وسلم :”أحب الأسماء الى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة ”

أحكام نقدية عن الكتاب والكاتب :

  • لقد قال شميم الحلي وهو أحد شرّاح مقامات الحريري :”ما أظن الله خلقني الا لإظهار فضل الحريري “
  • قال الزمخشري :

أقسمُ باللهِ وبآياته        ومشعرِ الحج وميقاته

إن الحريري حرّي بأن    تكتبُ بالتبرِ مقاماته

  • أما بالنسبة لابن بري فقد رد على تهمة ابن الخشاب بالسرقة قائلا :” الأحسن أن يقال إن هذا من وقع حافز على حافز, وتوارد الخاطر على الخاطر , وهذا ليس لتخطئة وجه , إذ هو كثير الإطلاع “

وقد بنى ابن الخشاب تصوره النقدي لمقامات الحريري على منطلقين اثنين :

  • نفي صفة المصنف عن الحريري وإحلال صفة السارق , وسرقات الحريري – في نظره – كثيرة , ومنها استعارة الحريري لمقولة الجاحظ في البيان والتبيين ” نعوذ بك من شر اللسَن , كما نعوذ بك من معرة اللّكن وفضوح الحصر “
  • أما المنطلق الثاني الذي يبني عليه ابن الخشاب تصوره النقدي فهو التنبيه على مجانبة الحريري الصواب اللغوي ومبدأ الفصحى النقية .
  • لقد لاحظ الدكتور شوقي ضيف خضوع مقامات الحريري الى بناء محكم ” إن من يقرأ مقامات الحريري كلها , ويتعقبه فيها يعرف أنه ألفها جميعاً عملاً واحداً , وحقاً لا يبدو الرّبط واضحاً بين مقامة وتاليتها , غير أننا إذا فحصنا مقامات الحريري وجدناه يرتبها ويرقمها , فتلك المقامة الأولى وتلك المقامة الخمسون , وكل مقامة بينهما تأخذ رقمها الخاص , وهذا معناه البناء المحكم ذو الحلقات “
  • يروي الشريشي -وهو أحد أبرز شرّاح مقامات الحريري- عن بعض أشياخه , تفضيله بديع الزمان على الحريري , لأن مقامات الأول ارتجال , ومقامات الأخير كتابة .

أثر مقامات الحريري في الآداب العالمية :

لقد صنف الأدب في العصر العباسي من أحد أهم الآداب العالمية , لما كان في ذلك العصر حركات ثقافية متنوعة , واشتدت فيه حركة نقل التراث اليوناني و الهندي والفارسي والتداخل بين الأمم والأخذ من ثقافاتها .

كما كان لذلك العصر نصيب كبير في التطور الثقافي والأدبي وكان ذلك العصر ميلاد لكثير من الفنون الأدبية التي لم تكن تعرف النور مسبقا وميلاد للكثير من الأساليب المختلفة التي لم يكن لها عهد سابق , وظهر فيه الكثير من المدارس الأدبية مثل مدرسة أبي نواس الذي تمرد على نهج القصيدة الجاهلية ومدرسة ابي تمام الذي كان من اعلام المدرسة الشامية وكان له اسلوب متفرد مختلف يتعمد الغموض في شعره وخلط الفلسفة بالأدب .

أما المقامات فكان لها نصيب وافر من هذه العالمية , حيث أخذت عنها الكثير من الحضارات وحاول عدد من كتاب الفرس التأليف على منوالها، ومنذ أكثر من قرن طبعت ترجمة فارسية لمقامات الحريري، وقد لاحظت باحثة روسية أثر المقامات في الأدب الفارسي الحديث، خصوصاً في فن الرواية، وترجمت المقامات في أواخر القرن الماضي إلى اللغة التركية، ولم تقتصر الترجمة على اللغات الشرقية، بل ترجمت إلى عدد من اللغات الأوروبية، وهكذا أتيح لمقامات الحريري ما لم يتح إلا للقليل من المؤلفات .

وكانت – ولازالت – مصدر الهام للكثير من الكتاب والفنانين ,في العصر الحديث اهتم المستشرقون بالحريري ومقاماته ، وشغل المستشرق الفرنسي المعروف دي ساس بالحريري ومقاماته فنشر بعضها سنة 1806 ثم قام بشرحها ، وطبع هذا العمل سنة 1822 وأتاح طبع المقامات في أوروبا مجال الاشتغال بها بين دارسي الأدب العربي في الجامعات الأوروبية فترجمها برستون إلى اللغة الإنجليزية، ثم نشرت مترجمة على الفرنسية، وقبل أن ينتهي القرن التاسع عشر كانت المقامات قد نشرت مرة أخرى في أوروبا مع تعليقات نحوية ونقدية وتاريخية للمستشرق شتاينجاس، ومع بداية البحث العلمي في الجامعات العربية بدأ الاهتمام بالحريري ومقاماته، وكتب عنها الكثير، فبحثت ضمن الإطار النثري العام أو كفنٍّ أدبي عربي خالص.نستطيع القول أن المقامة فن عربي خالص بدأ في القرن السابع هجري وانتهى في القرن التاسع عشر هجري ولعل عدم استمراريته يعود الى رتابته واعتماد موسيقاه الى الكم دون الكيف , اضافة الى تغير لغة العصر , فالموسوعية المعجمية التي كانت تستخدم في ذلك العصر والتعابير والتشابيه لم تعد – غالبها – تستعمل في الأدب اليوم.

_…شبكة المدار الإعلامية الأوربية…_

 

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post غازبروم تربط توريداتها للأسواق الخارجية بعملات أجنبية
Next post بلجيكا ستعاني من انقطاع التيار الكهربائي في نوفمبر