انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: التّداعيات أوروبيّا و عربيا

Read Time:33 Minute, 14 Second

حافظ التونسي

باحث في العلاقات الدولية

شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_بعد 40 سنة من العضوية في الاتحاد الأوروبي، وبعد 9 أشهر من نتائج التصويت البريطاني المؤيد للبريكست في  23يونيو 2016،  وبتوقيع رئيسة وزراء المملكة المتحدة تيريزا ماي يوم 29 مارس 2017، رسالة إطلاق مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي Brexit، المتضمنة لطلب تفعيل البند 50 من اتفاقية لشبونة،تترجم المملكة المتحدة نتائج الرغبة الشعبية البريطانية المنبثقة عن الاستفتاء التاريخي بمضمونه وأبعاده. وبهذا الخروج يتلقى الاتحاد أعنف الضربات من أعضائه التي تجسد إلى حد ما تفكك جزئي فيه وهو اليوم يعد الكتلة السياسية والاقتصادية الأولى في العالم ، وقد تنذر هذه الرجة بشروخ أكبر في المستقبل، إذ يخشى اليوم من تداعيات الخروج على الصعيد المحلي والدولي، لا سيما انتقال عدوى الانفصال بطلب استفتاءات مماثلة، بإيعاز من اليمين الشعبوي، في ظل استفحال الأزمات الاقتصادية في دول الاتحاد المتزامنة مع أزمة اليورو ومعضلة  اللاجئين التي لا تبدو في نهاية نفقها مع اتساع رقعة النزاعات في البلدان الإسلامية وإنذارها  بتلاشي الوفاق الأوروبي بشأنها وتمدد تهديد الإرهاب الدولي، فما هي خلفيات وأبعاد الطلاق البريطاني- الأوروبي وتداعياته أوروبيا وعربيا ؟.

المبحث الأول: خلفيات الانفصال البريطاني وانعكاساته أوروبيا

  1. 1. بداية العد التنازلي للانفصال التاريخي عن الاتحاد الأوروبي:

تتبلور الرؤية التي صاغتها رئيسة الوزراء البريطانية في خطابها أمام البرلمان بالقول”عندما سأجلس إلى مائدة المفاوضات خلال الأشهر المقبلة سأمثل كل الناس في المملكة، الشباب والعجزة، والأغنياء والفقراء، وكل المواطنين الأوروبيين الذين اتخذوا من هذا البلد منزلا لهم. إزاء الفرص التي ستتاح أمامنا خلال هذه المرحلة. يجب على قيمنا المشتركة ومصالحنا أن تجمعنا، ونبني علاقات مع أصدقائنا القدامي وحلفاؤنا الجدد”.

ورغم التفاؤل الحذر الذي ينطوي عليه خطاب رئيسة الوزراء، فإن انطباق قرار إطلاق مفاوضات الخروج بسرعة من الاتحاد كما أعلنه سفير المملكة المتحدة لدى بروكسل، سيكون بلا شك أهم محطة في مفاوضات الاتحاد الأوروبي من أجل تطويق تداعيات القرار، للوصول إلى اتفاق بأقل الأضرار الممكنة لصالح المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ضمن شراكة جديدة يحددها الطرفان، بعد تسوية تركة الماضي خصوصا في المستحقات المالية على بريطانيا المقدرة ب60 مليار أورو. ورغم أن الخبراء  يقولون بعدم وجود مانع قانوني من تراجع أي دولة عضو عن قرار الانفصال قبل أن تكون خارج الاتحاد فعليا، فإن مسار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي والسوق الموحدة لا رجعة فيه (1) اليوم من أجل أن تتحكم بريطانيا في ملف الهجرة، لا سيما في ظل تأييد غالبية البريطانيين لنهج الحكومة في الخروج من الاتحاد بنسبة 53%، حسب آخر استطلاع قامت به  شركة ” أوآرتي” نهاية فبراير 2017. هذا وقد نشرت الحكومة البريطانية وثيقة بمحاور استراتيجية بعنوان الكتاب الأبيض متضمنة ل12 نقطة أساسية في المفاوضات وأولويات المملكة المتحدة السياسية والاقتصادية. من جانبه، أكد رئيس مجلس أوروبا “دونالد توسك” أنه قدم مسودة للدول الأعضاء بشأن المبادئ الإرشادية لمفاوضات الخروج بعد انقضاء 48 ساعة من تفعيل لندن للمادة 50 من معاهدة لشبونة التي تقر ب” حق انسحاب أحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشكل طوعي من طرف واحد، وفقا للمتطلبات الدستورية الخاصة بها ” ، ولا يستدعي ذلك تقديم أي تبرير له. وحيال القرار الرسمي البريطاني، أعلن ميشال بارنيه كبير المفاوضين الأوروبيين المكلف بملف المفاوضات بشأن البريكست، في أول ظهور له بُعيد تعيينه في 12 /6 /2016، أنه سيضع كل خبراته الفنية من أجل دعم تراص الصف الأوروبي إزاء المفاوض البريطاني واحترام دور ومسؤولية مؤسسات الاتحاد، وبالخصوص الحفاظ على تماسك هذا الأخير ووحدته، للوصول إلى اتفاق وفق جدول زمني لا يتجاوز شهر أكتوبر 2018، ملوحا في الأثناء بأن الدول الأخرى Pays tiers (غير الأعضاء) لا يمكنها التمتع بنفس حقوق الأعضاء، في إشارة إلى أن حرية تنقل للأشخاص التي تصر بريطانيا على إلغائها لا تتجزأ عن باقي الحريات الأصيلة في مبادئ فلسفة الحريات الأخرى (سلع، خدمات، رؤوس أموال). ولا شك أن هذا التجاذب يؤشر على مسار تفاوضي مُضْن لن تغيب عنه الضغوط والمناورات من كلا الجانبيْن، كما أن وصول المفاوضات الى طريق مسدود (دون اتفاق)، يشكل انشغالا مؤرقا لقادة الاتحاد، ففي جزء كبير سيتوقف عليه مصير الاتحاد وأفق تعافيه أو انتكاسته.

  1. مواطنو الاتحاد الأوروبي وكلفة البريكست

تزامن طلب خروج المملكة المتحدة مع احتفال الاتحاد الأوروبي بالذكرى الستين على تأسيسه في روما. ولا تبدو أن هناك بشائر تلوح لمواطني دول الاتحاد المقيمين في بريطانيا، لا سيما مع صدور لوائح جديدة من وزارة الداخلية البريطانية التي تلقت صلاحيات جديدة بشأن إمكانية طرد كل مقيم ليس له تأمين صحي على الأراضي البريطانية، الأمر الذي أحدث الارتباك لدى الجاليات الأوروبية، خصوصا لدى الطلبة والأوروبيين الذين يعولون عائلاتهم ويخشون من تأثير هذه اللوائح بفقد المساعدات الاجتماعية الممنوحة، فيما ينظر مراقبون إلى الإجراءات الجديدة على أنها خرق للاتفاقات الموقعة مع الاتحاد الأوروبي لجهة الحد من حرية التنقل التي تعد مبدأ جوهريا ضمن الحريات الأربعة التي ذكرناها ولمبدأ “المواطنة الأوروبية”، كما تشكل هذه الإجراءات تهديدا لمصالح 3,6 مليون أوروبي موجود في بريطانيا، ولا يعرف الردود التي سيتخذها الاتحاد بشأن تطبيق اللوائح التي تمس مواطنيه وكيفية تعامله في المقابل مع الرعايا البريطانيين المقيمين في دول أعضائه، وخصوصا أن إنهاء حرية دخول مواطني الاتحاد الأوروبي يتناقض مع بقاء بريطانيا في السوق الأوروبية المشتركة. إلى جانب مواطني دول الاتحاد الأوروبي، يخشى استغلال اليمين المتطرف في بريطانيا  لقرار خروج بريطانيا بتغذية المشاعر القومية والعنصرية  المناهضة للمسلمين والبولنديين والأجانب بصفة عامة، وتراجع خط الدفاع من أحرار العالم عن القضايا العربية، لا سيما في ظل الأوضاع الأمنية المرتبكة التي أججتها الأحداث الإرهابية الأخيرة في عدد من الدول الأوروبية، إذ شكلت بريطانيا لعقود طويلة، وبالذات لندن، في إطار سياسة تتسم بالمرونة والانفتاح، وعاء حاضنا لمراكز دراسات ومراكز حقوقية عربية، ومدينة مضيفا للطلبة واللاجئين العرب.

  1. سمعة لندن سيتي التجارية على المحكّ

كما سيطرح الخروج من الاتحاد الأوروبي تساؤلات عن مدى تأثيره على موقع المدينة London City كمركز مال وأعمال عالمي وانعكاساته الاقتصادية محليا وأوروبيا. ففيما يرى محللون أن الانعكاسات لن تبرز فعليا الا بعد عامين من تفعيل قرار الخروج كحد أدنى، يرى آخرون أن بريطانيا جزء كبير من السوق الأوروبية  (زهاء 40% من المعاملات الدولية داخل دول الاتحاد تدار في لندن) إلى جانب فرنسا وألمانيا، ويخشى أن تفقد بريطانيا كثير من مزايا عضويتها السابقة في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سيضطرها إلى تعديل قوانينها الداخلية بدءا بتلك الخاصة بالخدمات المالية والتجارية وبالقوانين الضريبية والمصرفية (2)، كما يخشى من تفكك الاتحاد نفسه، وإن كان الاتحاد نفسه قد أعلن بلسان رئيسه أنه لا تنازل مع المنشقين.على الصعيد المالي، من المرجح أن تنقل كبرى الصناديق الاستثمارية المتواجدة في لندن سيتي أرصدتها المقدرة بتريليونات الدولات والموفرة لآلف الوظائف خارج بريطانيا، ومن الوجهات  البديلة المحتملة لوكسمبورغ وإمارة ليشتنشتاين وسويسرا، في ظل منع قوانين الاتحاد بيع المنتجات الاستثمارية خارج دولة غير عضو يتواجد فيها المقر الرئيسي للصندوق. وهذا السيناريو محتمل على خلفية تصريح دوتشه بنك الألماني أكبر بنوك منطقة اليورو لجهة أرصدته من الأصول، بتاريخ 19 مايو 2016 باستعداده لمغادرة لندن، وتحذير جي.ب. مورغان وسيتي بنك وغيرهما من خسارة لندن لهيمنتها على سوق صرف الجنيه المقدر حجمها ب5 تريليونات دولار يوميا، وبحجم تعامل مضاعف عن تعامل منطقة اليورو برمتها. ومن المرجح أن الأسواق العالمية ستشهد رجات بحكم أن حصة بريطانيا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي تقدر بنسبة2,4%.

المبحث الثاني: تراجع المشروع الأوروبي والدور الألماني الفرنسي المرتقب

  1. التباين الهيكلي في الاتحاد الأوروبي: السماد الضمني للتفكك

تحمل هيكلة الاتحاد،ضمنا، بذورا في التباين الجوهري بين أعضائه، إذ أن هذه الكتلة مقسمة تلقائيا وذاتيا إلى 3 مجموعات: مجموعة شمال أوروبا وتضم دولا متطورة صناعيا، تقابلها مجموعة دول جنوب أوروبا وهي دول مثقلة بالديون ويكبل اقتصادها المتعثر قراراتها السيادية، ومجموعة دول أوربا الشرقية المنضمة لاحقا للاتحاد، وهي دول إلى حد ما متخلفة اقتصاديا (بمعايير التنمية الاقتصادية ومؤشرات النمو التي يعتمدها الاتحاد)، ولم تنعتق بعد من تبعات أنظمتها الاستبدادية السابقة. علاوة على هذا التباين الهيكلي، تتعدد الفروقات على مستوى اللغة والدين والتاريخ. ولا شك أن نخوة المواطن البريطاني الذي قام بالتصويت لفائدة الخروج واعتبره ” تصويت على الحرية”  (3)هو أكثر الأوروبيين تمسكا بتاريخه وتباهيا بتاريخ ” مملكته العظمى”، وهو عامل أسهم في حد كبير في التردد في الالتزام بالمشروع الأوروبي (4)، وفي التشكيك فيه (منطقة اليورو وفضاء الشنغن) . فالاتحاد الأوروبي ليس نتاجا لواقع جغرافي وتاريخي كالمغرب العربي أو إفريقيا أو نتاجا اقتصاديا وثقافيا كبلدان الخليج، بل هو أقرب إلى نتاج نخبوي سعى زعماء الدول الستة (فرنسا، جمهورية ألمانيا الفدرالية، إيطاليا، هولندا، بلجيكا، لوكسمبورغ) المؤسسة له في بداية الخمسينات لبنائه ككتلة سياسية واقتصادية تكون بمثابة مضاد حيوي للنزاعات العسكرية فيما بينها من ناحية، ونموذجا لسلطة لامركزية تنافس الولايات المتحدة وروسيا من ناحية أخرى، أخذا بعين الاعتبار أن 30 % من الدول الأوروبية ليست أعضاء فيه، وأغلبها فقيرة بالمعايير الأوروبية نفسها.

  1. المشروع الأوروبي الجامع على محك الوحدة السياسية والهوية الأوروبية

بناء على ما تقدم، تطرح اليوم أسئلة جوهرية بشأن جدوى المشروع الأوروبي بالنسبة لعدد كبير من مواطني الاتحاد، بعد انضمام دولهم إلى الاتحاد واندثار عملتهم الوطنية، موازاة مع نشوء صعوبات اقتصادية واجتماعية لا تزال تعاني منها منذ انضمامها، على غرار إيطاليا واسبانيا واليونان والبرتغال، الخاصرة الضعيفة في الاتحاد أو(Weak sisters)، وهو خط يرجح أنه سيزداد بروزا إلى السطح بالدعوة إلى الانفصالEffet domino (لوبان بفرنسا وفيلدرز بهولندا كمثال إلى جانب 16 حزب يميني في دول أعضاء في الاتحاد). وقد دفعت هذه الأوضاع رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي Donald Tusk بالقول أن أزمة اليورو قوية (5)  أن وجود الاتحاد صار مهددا، لا سيما مع تزايد الانتقادات بخصوص وجود وحدة سياسية حقيقية داخل الاتحاد في غياب سياسة خارجية واضحة (6) تنأى عن استقطاب كبرى العواصم الأوروبية وتعكس بوفاء رؤية مؤسساته. لم يخْلُ خطاب رئيس المفوضية الأوروبية Jean-Claude Juncker من بعض الازدواجية والتناقض في التعبير عن وضع الاتحاد الراهن، خلال الاجتماع السنوي عن وضع الاتحاد في سبتمبر 2016، بالقول أن “الاتحاد الأوروبي ليس في خطر، وإن كان يمر بأزمة وجود”، متسائلاً في ذات الوقت “إذا ما كان البريكست يؤشر لبداية تحلل الوحدة الأوروبية”، وأقتبس كما جاء نص خطابه بصيغته الأصلية:”“L’UE n’est pas en danger même si elletraverse une crise existentielle sérieuse..Nos amis et partenaires du monde entier regrettent profondément le Brexit et se demandent si le Brexit marque le début de la désintégration de l’UE”.

مقابل هذا الإقرار الرسمي التاريخي بأزمة “وجود” الاتحاد الأوروبي، جاء موقف المستشارة ميركل بنبرة أقل حدة مدللة بأنها “ضربة قاسية لمسار الوحدة الأوروبية، وليس هناك رد سهل لحل الأزمة “، في خطابها يوم 24 جوان 2016، في محاولة للتهوين من الوضع الشائك الذي يواجهه الاتحاد، وإن كان موقف ألمانيا سياسيا بالدرجة الأولى، ترتيبا على أن ألمانيا الآن تعد القاطرة الأولى في الاتحاد بقوة صادراتها ودعمها لليورو (يورومارك)، فإن التساؤل اليوم يظل قائما: الى متى سيستمر الدعم الألماني لدول الاتحاد الضعيفة، في وقت تواجه فيه ضغوطا داخلية إزاء التزامها الأوروبي على حساب مصالح مواطنيها ؟.لم تأت من فراغ هزيمة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي ترْأسه ميركل، يوم 14 ماي 2017 بحصوله على 18% بعد أن كانت 23,3% عام 2013 أمام الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحائز على 22,4% وأمام حزب البديل من أجل ألمانيا المعادي للاجئين وللاتحاد والحائز على 12,9% (أنشأ منذ 3 سنوات) بقدر ما تفهم على أنها عقاب من الشعب الألماني على سياسة الباب المفتوحة أمام اللاجئين (1,2 مليون) وعلى تحمل أعباء أوروبا المتعثرة.

  1. الدور الألماني الفرنسي المرتقب: عملية إنقاذية للاتحاد ؟

ولا شك أن بحث فرنسا الجديدة، الجناح الثاني في الاتحاد، بقيادة الرئيس الشاب ماكرون عن استعادة ريادتها داخل الاتحاد الأوروبي، من خلال زيارته الرسمية الأولى إلى ألمانيا يوم 15 ماي 2017، والتي تلت اعتلائه سدة الرئاسة يوم 14 من نفس الشهر، ومحاضرته عن ” أوروبا” في جامعة Humboldt-وأقتبس قوله ” أن فرنسا هي القوة السياسية الوحيدة المؤيدة لأوروبا، وأننا إلى جانب ألمانيا سنعمل على تعزيز التعاون وعلى إعادة هيكلة الاتحاد الأوروبي ” ليس إلا ترجمة لعمق الأزمة الأوروبية من ناحية، ودلالة من ناحية أخرى على أهمية الدور الثنائي الذي تتطلع اليه القوتان الأوروبيتان لإنقاذ مركب الاتحاد وإرسائه على بر الاستقرار. من المؤمل أن يسعى هذا المحور الثنائي لوضع حد لأزمة “وجود” الاتحاد التي لا يمكن فصلها في أية حال عن بعد الهوية الأوروبية التي يتصارع داخلها تياران واحد يحمل فكرة الذاتية أو الخصوصية الأوروبية وثان مريد لفكرة أوروبا الفدرالية، ويضع هذا الصراع على المحك ديمومة المشروع الأوروبي على المَدييْن المتوسط والطويل ومدى قدرة البلدين على موازنة التقارب بين التيارييْن. ف” القيم الأوروبية” الجامعة التي تجاوزت صراع الهويات الإقليمية والقومية في فترات  معينة ومحددة زمنيا في تاريخ القارة العجوز، لا تجد مبررات قوية لمساندتها من الناحيتين الثقافية والدينية (إذ لم تكن المسيحية قادرة على توحيد الأوروبيين بقدر ما كرست سلطة البابا وهيمنته) للتدليل على أنها قيم بالفعل تتقاسمها الشعوب الأوروبية، حيث كانت التوافقات الأوروبية دائما ملتفة بعباءة التحالفات العسكرية الظرفية لمواجهة الأعداء وقد جاء أغلبها كردة فعل على الحروب والأطماع الامبريالية والجيوسياسية، ولم تتحد البلدان الأوروبية حصرا تحت راية أية إمبراطورية، ومن هنا لا يمكن الحديث عن بعد قيمي أوروبي قبل انفصال ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية مع الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا. وبالتالي فالاتحاد الأوروبي يشكل تحالفا سياسيا (دون الوحدة المعنوية في بعدها التكاملي) استثنائيا ومنفصلا عن تاريخ أوروبا أسهمت الثورة الصناعية في بريطانيا والثورة السياسية في فرنسا في تشكيل ما يعتبره الساسة الأوروبيين أعمدة هوية مشتركة، وهذه الأعمدة على أهميتها في تحقيق القفزة الصناعية لأوروبا وتشكيل أسس الديمقراطية لا تشكل معايير جامعة في بعدها الهويّاتي للشعوب الأوروبية، ولنا في شهادات ايريك هوبزباوم (1917 -2012)على حالات التفكك الأوروبي وندرة الائتلافات تاريخيا وتحديدا قبل خمسينيات القرن الماضي أمثلة لا تحصى تنفي جميعها أي اتجاه وحدوي يؤسس موضوعيا لهوية أوروبية. ويطرح اليوم غياب هوية أوروبية حقيقية في ظل عدم وجود وعاء حاضن لمكونات هوية مشتركة Ingrédients identitaires، السؤال بشأن القدرة على تأسيس وحدة مالية واقتصادية دون وحدة سياسية موازية، خصوصا في ظل ما تشير إليها التجارب من أن غياب هوية مشتركة يحول دون استمرارية أي مشروع وحدوي، وبالأخص أوقات الأزمات المستعرة التي يفرض فيها انحياز للمصالح القومية/ القُطْرية على حساب الفدرالية، وبالتالي تنامي شعور بمعاداة الأوْرَبة والأجانب في حالة الاتحاد الأوروبي، سواء من يمين يرى الفدرالية خطرا على الخصوصية والدولة القومية، أو يسار رافض لسياسات تقشفية تمليها الرأسمالية، وبالتالي فإن فرضية التفكك واردة جديا في حالة الاتحاد الأوروبي، إذا ما جرت  استفتاءات مماثلة تكون نتائجها على شاكلة التصويت البريطاني، وقد تكون إيطاليا أول من سيحذو النهج البريطاني، بسبب مؤشرات الانهيار “الوشيك” لنظامها المصرفي ولوجود نزوع شعبي أصيل نحو الخصوصية والنخوة بالهوية القومية. وقد تستيقظ النعرات الانفصالية من مضاجعها في كتالونيا بإسبانيا والكورس في فرنسا والغوزو في مالطا للمطالبة ب”استقلالها” سياسيا. من المسلّم به أن الاتحاد الأوروبي الذي خبرت دوله الحربين العالميتين وتجرعت مرارة الدمار والانقسام يمتلك الخبرة اللازمة في إدارة الأزمات لتجاوز العثرات، ويُعوَل على نجاح الرهان الألماني الفرنسي في ترتيب البيت من الداخل بعد اللقاء الألماني الفرنسي الأخير للحيلولة دون استشراء عدوى البريكست ولتثبيت سياسة أوروبية خارجية تدين للمركز، بروكسل (6). نستشف من قراءة نقدية تاريخية للبناء الأوروبي خلال الفترة 1950-2005 مراوحة العلاقات الألمانية الفرنسية بين المد والجزر، حيث كان التفاهم في بداية الخمسينات على ضع حد للعداء المتبادل عبر تأسيس مجموعة الحديد والصلب CECA لتتحول لاحقا عام 1954 إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية CEE، ثم إلى الاتحاد الأوروبي UE على شكله الحالي، مع ما تخلل تلك الفترة من تجاذب بخصوص مشروع مجموعة الدفاع الأوروبية CED عام 1954 والذي اشتركت فيه بريطانيا أيضا ولكنه باء بالفشل. بلغ التقارب الفرنسي الألماني أوجه بفضل شخصيتين “كونراد ادناور” و”شارل ديغول”، الأول كان هدفه صلح تؤطره علاقة تعاون قوية، والثاني كان يتطلع الى تحرير أوروبا من أطماع وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، فكان اتفاق الاليزيه الموقع في جانفي 1963، ليؤسس لعلاقة البلدين بمتانتها الحالية، وبشكل مباشر للوحدة الأوروبية. ولا شك أن البلدين اللذين نجحا الى حد كبير في تجاوز الخلافات السياسية خصوصا في الفترة التي عقبت مغادرة ادناور وقدوم ارهارد، وتمكنا من إنتاج مشترك لايرباص عام 1969 ومن إطلاق أول قمر صناعي أوروبي للاتصالات الفضائية (Symphonie)، هما اليوم قادران، كدول مركز، على تمثيل دور إنقاذي بمستوى إمكاناتهما وإرادتهما المشتركة المعلنة. ودون أن نسقط في مثالية توصيف هذه العلاقات تاريخيا، فقد شهدت خلال رئاسة  فرانسوا هولندا توترا بعد عرض وزيره الأول السابق مانويل فالس عام 2015 على أنجيلا ميركل مقايضة سياسية مؤداها استعداد الاتحاد الأوروبي لمساعدة ألمانيا في تحمل عبء اللاجئين على أن تخفف ألمانيا من صرامة سياستها تجاه الاتحاد وفق معادلة “Solidarité de tous au service d’un progrès économique pour tous”.كسلم أولويات، من المرجح عمليا أن يتجه التفكير الى ترسيخ “الهوية” الأوروبية في أبعادها الاقتصادية والتجارية والدفاعية ومباشرة إصلاحات/ تحويرات، عبر آليات،  تنطلق من إنشاء وزارة مالية أوروبية تودع لديها الخزينة وأمور الجباية والمصاريف اللازمة ولإدارة العملية الإنقاذية للمؤسسات المتعثرة بفعالية. علاوة على ذلك تطرح اليوم إعادة هيكلة معايير معاهدة ماستريخت لعام 1993، المحددة لنسبة عجز الموازنة على الناتج القومي بأن لا يتجاوز أكثر من 3%، وأن لا يتجاوز الدين على الناتج القومي نسبة 60%. ومن جهة أخرى وفي ضوء التطلع الفرنسي إلى سياسة دفاع تبررها تدخلات مشتركة، من المحتمل جدا أن يكون هناك تفكير لإنشاء دفاع أوروبي مشترك، لم يتبلور رسميا إلى اليوم على مستوى الاتحاد الأوروبي.فمن ضمن أهم المؤيدات الاقتصادية لأنصار الخروج البريطاني من الاتحاد، كما يراها حزب استقلال المملكة المتحدة (UNITED KINGDOM INDEPENDENCE PARTY)،  الأب الروحي ومهندس استفتاء البريكست، يمكن إنفاق 350 مليون جنيه التي تدفعها المملكة المتحدة لمنطقة اليورو على مواطنيها في إطار نظام تأمينها الاجتماعي والصحي، وهذه الأموال التي تفرضها العضوية تزيد من الدين العام، وأنه يمكن لبريطانيا أن تكون بذاتها منطقة دولية للتجارة الحرة، بدل السوق المشتركة (7).

ترتبط بريطانيا بعلاقات تجارية متجذرة مع الاتحاد الأوروبي (1973) ، ويتبوأ الاقتصاد البريطاني موقعا متميزا في السوق الأوروبية، بحجم يوازي سدس الاقتصاديات الأوروبية مجتمعة، وبنسبة صادرات تقدر ب47% موجهة أساسا نحو الاتحاد الأوروبي الذي تشكل وارداتها منه نسبة 53% من مجموع وارداتها من دول العالم. ويرتبط بهذه الصادرات والواردات ما يزيد عن عدد 3 ملايين و150 ألف وظيفة بشكل مباشر وغير مباشر، ويرتهن جزء كبير منها بعضوية بريطانيا في الاتحاد، علاوة على إمكانية ارتفاع الأسعار داخليا في ظل انحسار التنافسية المرتبطة بسوق أوروبية قوامها 500 مليون مستهلك. وعليه، نتساءل عن مدى إدراك المواطنين البريطانيين المؤيدين للبريكست لحجم الخسارة المنتظرة في ضوء حجم السوق الأوروبية المستوعبة لصادراتهم من ناحية، ونسبة 17% التي تتيحها أسواق الولايات المتحدة الأمريكية لصادراتهم، مع ترقب حذر لتدابير حمائية منتظرة من الرئيس ترامب لضبط الواردات على الأسواق الأمريكية ؟.

4.السناريوهات المحتملة لما بعد البريكست

تلتقي آراء الحكومة البريطانية السابقة (كامرون) والمؤسسات الاقتصادية العامة ببريطانيا مع طروحات صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية  ocdeفي القول بأن بريطانيا هي الخاسر الأكبر من البريكست (8) وأن هذا الأخير لن يكون ” هروبا من المبنى المحترق” كما صورته الثورة “الشعبوية” المناوئة وتقدر هذه المؤسسات حجم الخسارة المحتملة ب224 مليار جنيه إسترليني وخسارة مزايا اتفاقيات التجارة الحرة وانكماش  بنسبة 1,4 % بحلول عام 2019، مع احتمال عودة الاستقرار بحلول عام 2030. فمن السيناريوهات الممكنة لما بعد البريكست تبني بريطانيا لنموذج النرويج في علاقته مع الاتحاد الأوروبي، وهي الفرضية المثلى للمشككين في الاتحاد الذين يرون أهمية تموقع بريطانيا كشريك للاتحاد دون العضوية مع تمتعها بحق دخول السوق الموحدة، رغم عدم أحقيتها في التصويت على القواعد التي تحكم هذه السوق، وإمكانية استفادتها من برامج معينة يعدها الاتحاد خصوصا في مجال البحوث العلمية والتقنية.  ورغم عدم وجود أرقام رسمية معلنة من الاتحاد الأوروبي عن الفوائد التي تجنيها النرويج من هذه البرامج فإنه يبدو أن مساهمة بريطانيا تفوق نظيرته النرويجية عن كل مواطن لديها. وفي ظل هذه المرحلة التي يكتنفها التخوف من الارتدادات، والحيطة من القادة الأوروبيين، تبرز فرضيتان أمام الاتحاد الأوروبي:  الدفع ما أمكن نحو إتمام خروج بريطانيا وفق شروط سيسعى من خلالها الاتحاد الحفاظ على ماء وجهه قدر الإمكان وإرسال رسائل تحذير لأعضائه ممن قد تساورهم نوايا انفصالية، موازاة مع ذلك ستتحلل بريطانيا مع كل اتفاقاتها المالية ومن القوانين التي ربطتها مع الاتحاد.

الفرضية الثانية، ستتعلق بمصير الاتحاد نفسه في ظل عدم وضوح رؤيا في بروكسل بشأن التعاطي مع الخروج البريطاني وتعالي دعوات التشكيك، والشكل الذي سيكون عليه الاتحاد دون بريطانيا، وتحدي الحفاظ على وحدة الكيان والإصلاحات الممكنة لرأب الصدع. لا شك أن خروج بريطانيا يفقد الاتحاد أحد الأجنحة المحركة للسوق الموحدة ويقلل من تنافسيته على الصعيد الدولي، كما يفقد في المقابل بريطانيا الدعم الدبلوماسي الأوروبي في المحافل الدولية، إذ ستكون لاعبا معزولا خارج غطاءها الأوروبي، وهو أمر قد ينتج عنه انحياز بريطانيا الى الولايات المتحدة الأمريكية التي لم يخف رئيسها الجديد ترامب سعادته بالانفصال معبرا عن كونه “حدثا رائعا”، وهو ما قد ينشأ عنه محور سياسي استراتيجي جديد مقابل المحور الأوروبي، حيث لعبت بريطانيا دوما دور الحليف “الميسر” Facilitator لمواقف الولايات المتحدة في بروكسل، وهو ما دلل عليه المستشار السابق بالخارجية الأمريكية  NICHOLAS BURNSبالقول:

” “BRITAIN INTRODUCED US TO EU AND INTRODUCED EU TO US, PLAYING A PRAGMATIC ROLE”، في وقت يتنامى فيه محور النفوذ الروسي الصيني اقتصاديا واستراتيجيا في العالم. واليوم يجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام معضلتين بعد البريكست، مع تزامن الاتجاه الملحوظ للرئيس ترامب نحو إمكانية رفع العقوبات عن روسيا، فهو بين مطرقة الكلفة السياسية بالسير حذو النهج الأمريكي، وبين سندان كلفة اقتصادية باستمرار فرض العقوبات على روسيا وتداعيات ذلك على شركات دوله الأعضاء، ومن المرجح أن هذه المسألة إلى جانب القضايا الدولية الكبرى على غرار الحرب في سوريا والصراع الفلسطيني الإسرائيلي والملف النووي الإيراني وأزمة التهجير القسري (60 مليون مهجر قسري في العالم حسب التقرير السنوي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين عن عام 2015، إلى جانب الهجرة الطوعية والمهجًرين داخل أوطانهم Personnes déplacées internes) ومكافحة الإرهاب، ستشكل محاور مفصلية في العلاقات الأوروبية الأمريكية مستقبلا وفي إعادة رسم الخارطة الجيواستراتيجية في العالم، وهي قضايا عكست في الآونة الأخيرة تعارضا في المصالح بشكل جوهري بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، بما في ذلك بريطانيا، وتحديدا فيما يتعلق بطابع التدخل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط. ففي السياق الأخير، وصف تقرير لجنة العلاقات الدولية بمجلس اللوردات البريطاني الصادر في 2 ماي 2017 التدخل الأمريكي في المنطقة العربية ب”غير المتوقع والهدام”. ولا يبدو الاتحاد الأوروبي أقل قلقا بالنظر إلى المواقف “العدائية ” للرئيس ترامب، كما وصفته جهات أوروبية، بعد تصريحاته التي عقبت البريكست، وترتيبا على برنامجه الانتخابي الذي يتسم بالحمائية الصرفةPure protectionism في إطار مقولته “America first”، ولا ينبغي أن نغفل النرجسية والخُيَلاء اللتين تلفان شخصيته وتعكسان إلى حد ما أقواله ومواقفه. ولكن رغم الاختلافات الأخيرة في وجهات النظر البريطانية الأمريكية حيال السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط كما أوردها التقرير البريطاني الرسمي بعاليه والذي ينصح بعدم الركون إلى هذه السياسة، فإنه من المستبعد الإقرار بفتور العلاقات الثنائية للبلدين بعد البريكست، لسببيْن رئيسييْن:

أولا، “استثنائية” العلاقات التاريخية بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية تبررها سلسلة التحالفات المتواترة، حيث شاركت بريطانيا حليفها الأمريكي في الحربيْن العالميتيْن الأولى والثانية، ثم الحرب الباردة منذ 1945 وحتى سبعينات القرن الماضي، ثم حرب الخليج الثانية عام 1991، ثم أفغانستان عام 2001 فالعراق عام 2003، إضافة إلى التحالف الأخير ضد داعش عام 2014 والمستمر إلى اليوم. علاوة على بعد التعاون العسكري والأمني، يبلغ حجم التبادل التجاري ما يزيد عن نصف تريليون دولار سنويا (الشريك التجاري الأول)، وتدرك الولايات المتحدة الأمريكية تميز الخبرة البريطانية دبلوماسيا وسياسيا وسعة شبكة علاقاتها خاصة في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يفند الرأي بأن بريطانيا تابعة أكثر من كونها شريكة للولايات المتحدة الأمريكية في صنع القرار دوليا، دون أن نغفل الانجلوسكسونية التي تشكل بُعدا ثقافيا مشتركا بين البلدين، وهو ما حذا بالرئيس ديغول إلى القول أن “الولايات المتحدة الأمريكية أقرب إلى بريطانيا من أوروبا”.

ثانيا،  تتنزل زيارة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي الى البيت الأبيض يوم 27 جانفي 2017 ضمن أهداف تعزيز العلاقات التجارية لما بعد البريكست والرغبة في استعادة الانسجام في العلاقات ” الاستثنائية” بين الطرفين، ونعني هنا محاور التحالفات الإستراتيجية  في النظام الدولي العالمي. ولا شك أن بريطانيا ستسعى إلى استغلال تحالفها مع الولايات المتحدة كأداة ضغط على دول الاتحاد الأوروبي، كما أشارت إلى ذلك The telegraph في 20 جويلية 2016، وخصوصا على مستوى تعقيدات البعد الأطلسي (صفتها كنائب ومستشار أمين لحلف الناتو في قضايا أمن أوروبا)، حيث تعتبر ركن رئيس فيه، وبالتالي سيكون تعزيز محور هذا التحالف ضمن الشراكة الإستراتيجية قيمة جديدة مضافة لها لما بعد البريكست.

فمن ناحية، تتناغم هذه المعطيات مع أهداف الخطة الرسمية البريطانية للمرحلة الجديدة والتي ترجمت عنها ماي بالرغبة في “تحويل المملكة المتحدة إلى أمة تجارية كبرى في العالم” تفاعل معها الرئيس ترامب بالتعبير عن رغبة متبادلة لاتفاق ثنائي تجاري قريب وهو ما سبق التعبير عنه بصفته مرشحا للرئاسة الأمريكية (us NEWS AND wORLD REPORT،  بتاريخ 24 جوان2016، عقب نتائج التصويت البريطاني)، ومن ناحية أخرى تستجيب لسد الفجوة السياسية بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ولا بد من الإشارة إلى أن ارتجالية تصريحات الإدارة الأمريكية الجديدة وطبيعة تكوين مستشاري الرئيس، جزء منهم رجال أعمال يفتقدون الحنكة السياسية في إدارة الملفات الدولية، ستحتاجان إلى تصويب من الخبرة البريطانية والى مزيد المراجعة والتنسيق أمنيا واستراتيجيا معها، خصوصا في القضايا الدولية الشائكة التي أشرنا إليها لتثبيت اتجاه بوصلة النظام العالمي وشكل التوازنات فيه.

المبحث الثالث: العلاقات العربية الأوروبية في ظل البريكست

1.تداعيات البريكست على بلدان المغرب العربي

سيبلور البريكست واقعا ملموسا داخل دول الاتحاد والدول الشريكة والمرتبطة باتفاقات معه، بعد أن كان فرضية، قبل نتائج تصويت يونيو 2016، ويملي هذا الواقع اليوم على البلاد العربية التأقلم من زاوية مصالحها التجارية والسياسية، لتطويق الأضرار الناجمة عن ذلك- إن سلمنا بأن البريكست خسارة لها-. لحصر تداعيات البريكست عربيا، ينبغي علينا استعراض إطار وواقع للعلاقات العربية مع الاتحاد الأوروبي وحجم التجارة البينية مع بريطانيا وأهمية المصالح المشتركة اقتصاديا وأمنيا، ونتناول هنا تحديدا بلدان المغرب العربي وبلدان مجلس التعاون الخليجي وإن كانت محاور التعاون لهذه البلدان تنسحب في أغلب أوجهها على غيرها من البلدان العربية.  لا بد هنا أن نقر بأن العلاقات العربية الأوروبية يسيطر عليها الطابع الثنائي، لا سيما فيما يتعلق ببلدان المغرب العربي، في ظل جمود اتحاد المغرب العربي في الوقت الراهن Sclerose insititutionnelle والذي يرتبط أعضاؤه باتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي منذ تسعينات القرن الماضي، 1990 -2001، دون الإشارة إلى اتفاقات 1969 مع الجماعة الاقتصادية الأوروبية (CEE). تعتمد هذه العلاقات اليوم مع الاتحاد الأوروبي، ضمن أغلب محاورها،على برامج معونات وقروض تمويل إنمائي، ما عدا بلدان الخليج العربي التي ترتبط بالاتحاد الأوروبي في إطار مجلس التعاون الخليجي (اتفاق عام 1988) وتستفيد بحكم مواردها من برامجه بأكثر مرونة وأريحية.

فبالنسبة لبلدان المغرب العربي، فشل مؤتمر برشلونة المنعقد عام 1995  فشلا ذريعا في إنشاء منطقة تجارة حرة  (إلى جانب الدول المتوسطية) بحلول عام 2010، ولم يؤد إلى تحقيق هدفي التنمية عبر التجارة الحرة وتحقيق السلم بسبب استمرار إسرائيل بصفتها عضو في الاتحاد من أجل المتوسط في احتلال فلسطين وفي حروبها المتكررة على غزة، ففشل المشروع السياسي الذي حرك المؤتمر من المهد. علاوة على ذلك، لم يتغير موضوعيا الهيكل التقليدي لصادرات هذه دول المغرب العربي إلى الاتحاد الأوروبي (90 محروقات بالنسبة الجزائر وليبيا، والنسيج والمنتجات الزراعية والأسماك والحديد والفوسفات بالنسبة لتونس والمغرب)، وعدم حصول أغلب المؤسسات على شهادات المطابقة للمواصفات لنقص الجودة وارتفاع كلفة الإنتاج وفي ظل نقص السيولة والاستدانة ومن ثم عدم قدرتها على المنافسة، الأمر الذي أدى إلى حل عدد منها (9). موازاة مع ذلك فقد تحول الاستثمار الأوروبي المباشر(FDI) الى بلدان شرق أوروبا نتيجة الإخفاق في تهيئة مناخ استثماري جاذب، لا سيما بالنسبة للجزائر التي شهدت سنوات عجاف بسبب أحداث التسعينات، علاوة على عدم مسايرة التطور في الخدمات المصرفية الدولية وخفض المديونية لهذه البلدان وتراجع صرف العملة الوطنية (10)، وهيمنة جزئية للدولار الأمريكي الذي لا يزال إلى اليوم يمثل إلى حد ما دور عملة الملاذValeur refuge، ولم تفك الصادرات وخصوصا بالنسبة للمحروقات بسبب ارتباطها الهيكلي به، مما عطل الارتباط التجاري مع الاتحاد الأوروبي ماليا (عملة دفع واحتياط وعملة إبرام صفقات)، فكانت العلاقات في أغلب محاورها غير متكافئة، فيما لم تتعد التجارة البينية للمغرب العربي 6% من مجموع الصادرات والواردات إلى باقي بلدان العالم (11).

تطورت علاقات تونس والمغرب بالاتحاد الأوروبي- دون الجزائر وموريتانيا وليبيا لخصوصية أوضاع هذه البلدان من زاوية تعاملها مع الاتحاد الأوربي (12)– بفضل وضع الشريك المتقدم Statut AvancE، وخصوصا منذ إرساء الاتحاد بداية عام 2004 لسياسة الجوار المتوسطيةpolitique europeenne De voisinage ، في الوقت الذي يعد فيه شريكهما الرئيسي الأول (60 إلى 70% من حجم المبادلات تتم معه، 55% بالنسبة لتونس خلال الأشهر الأربعة الأولى للعام الجاري 2017، حسب تصريح وزير التجارة بتاريخ    15 /5 /2017  خلال ندوة حول ” الوضع الراهن للميزان التجاري بقصر الحكومة). ولا بد من التدليل هنا على تعاظم حساسية البعد الأمني لدى دول الاتحاد لما تمليه الجغرافيا وسعيها لتطويق الهجرة والإرهاب على حدودها الجنوبية من جهة، ولتوسيع المشاركة الديمقراطية لبلدان المغرب العربي  واتساق أنظمتها عموما مع معايير حقوق الإنسان من جهة أخرى. ولكن في إطار سياسة الجوار هذه اصطدمت صادرات بلدان المغرب العربي بالقيود الصارمة التي فرضها الاتحاد الأوروبي بإلغاء نسبة الصفر عليها (النسيج، وتحديد سقف المنتجات الزراعية في إطار التدابير الزراعية المشتركةPoilitique Agricole Commune، ومشتقات النفط)، ولم تأت السياسة المتوسطية الشاملة التي تلتهاpolitique   mediterranneene globale، رغم إدماجها للبعدين الأطلسي والصحراوي والبيئة، بنتائج أفضل حيث غيبت الخصوصية التي يتميز بها كل بلد عن غيره سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ثم انتهج الاتحاد الأوروبي سياسة متوسطية متجددةPolitique Mediterraneenne Renovee  عام 2008 ركزت بشكل أكبر على المساعدات والدعم المالي  Instruments financiersعبر مراحل أسهمت إلى حد ما في تحريك عدد من المشاريع التنموية في كل من تونس والمغرب وتعزيز مسار الإصلاحات  واستمرارها إلى الفترة الحالية، لا سيما منذ 2011 وانتهاج سياسة  دعم الديمقراطيات الناشئة وتبني إجراءMore for more  والذي يقضي بزيادة المساعدة المالية وفق مزيد الديمقراطية للحكم السياسي ورد مصطلحها بتدبير prime a la carte. وفي ضوء هذه التدابير، ارتفع حجم المساعدات الأوروبية لتونس إلى 300 مليون أورو لعام الجاري 2017، كما أُعلن عن ذلك في البيان الرسمي للاتحاد الذي عقب اختتام أشغال الدورة 13 لمجلس الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وتونس، يوم 11 /5 /2017 ببروكسل. وعليه، فقد تطورت سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه لبلدان المغرب العربي كمًا  ولم تتطور كيْفا، ولم تحدث النقلة النوعية نحو المساعدة على قيام الاتحاد المغاربي لينوب عن أعضائه في دفع الشراكة بشكل أكثر فعالية وتكافؤ.

لقد كشفت الثورات العربية التي اندلعت في أوج أزمة اليورو (13) على اختلالات جوهرية في السياسة الخارجية للاتحاد تجاه المغرب العربي من زاوية رؤية الاتحاد الأصيلة في التعاطي مع البلدان الأخرى pays tiers ضمن منطق Inward looking، ويدفع الاتحاد اليوم ثمن دعمه للديكتاتوريات السابقة في تونس وليبيا بالخصوص كشريكين رئيسين، بأن راهن على التعاون الأمني (14) أكثر من تحفيزه لفرص النمو والتشغيل، مع استفحال أزمة الهجرة غير الشرعية العابرة لحدوده الجنوبية وعجزه عن مواجهة التحديات الأمنية المرتبطة بها، فكان أن عين ممثلا أعلى جديد بعد فشل سلفه، وأدى تتابع الفشل الى انتهاجه سياسة أكثر تقشفية تعتمد على تقديم الحوافز بمشروطية عالية، ولم يتسن له بلورة رؤية واضحة في التعامل مع هذه الدول، ماعدا مجالي أمن إمدادات الطاقة ومكافحة الإرهاب، فيما تطرح اليوم أسئلة حول أهداف وفعالية الآليتين الجديدتين اللتين استحدثهما والخاصتين بتعزيز دور المجتمع المدني والديمقراطيات الناشئة.

ينظر اليوم الاتحاد الأوروبي إلى تونس ضمن رؤية خاصة ترتهن بأهمية إنجاح الانتقال الديمقراطي وتعزيز الاستحقاقات السياسية لما بعد 2011 وتخطي تحديات حساسية مرحلة Post-revolution سياسيا واقتصاديا وأمنيا لكونها حلقة هامة في سلسلة الحسابات الجيوسياسية الأوروبية تجاه منطقة شمال إفريقيا. ولا شك أن بريطانيا ستسعى ضمن سياستها العربية (15)، بعد إتمام مراحل انسحابها من الاتحاد الأوروبي، إلى تقوية الروابط مع حلفائها وأصدقائها ” القدامى والجدد”، كما جاء ذلك على لسان رئيسة الوزراء ماي أمام البرلمان والذي اشرنا إليه في بداية هذه الورقة، وكما يرى ذلك مؤيدي الانسحاب البريطاني لتعويض خسارتها المحتملة. ومن زاوية واقعية هذا المنطق، ستتجه بريطانيا مستقبلا الى تثبيت حراكها الاقتصادي والتجاري والاستثماري في المغرب العربي، وهو ما تؤكده زيارة وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون بتاريخ 3 /5 /2017 إلى تونس لتندرج  في هذا التوجه من أجل الارتقاء بالعلاقات الثنائية في مجال السياحة وتعزيز الاستثمارات البريطانية ومتابعة تعهداتها خلال  “مؤتمر دعم الاقتصاد والاستثمار تونس 2020”. وفي هذا الصدد فإنه من الأهمية بمكان لتونس أن تعزز استقرارها السياسي والأمني وتستكمل مسار الإصلاحات، وأن تتفاعل الحكومة إيجابيا وعبر مراحل يعلن عنها، مع المطلبية المتصاعدة للشباب في المناطق المهمشة وتطويق حالة الاحتقان الاجتماعي عبر حوار ينأى عن الجرعات الانتعاشية والاستقطاب السياسي للأحزاب، وأن تقوم  بالمصارحة اللازمة وببعث المشاريع التي تحتاجها هذه الجهات وأبناءها، ضمن إستراتيجية وطنية تراعي الأولويات، وتنأى عن العسكرة والردود الأمنية التي لن تأتي في آخر الأمر بالحلول المنشودة منها، وأن تطوق اقتصاديا حالة العجز المتنامي لميزانها التجاري مع الخارج في جل أقسامه (16). ومن المؤكد أن هذه الحلول إضافة إلى تحقيق مؤشرات نمو فعلية ستكون بمثابة رسائل طمأنة لبريطانيا وستسهم في تعزيز استقطاب استثماراتها الخارجية وفي حلحلة أزمة السياحة التي ضرب عليها حظر من حكومتها، بعد حادث سوسة الإرهابي في شهر جويلية 2015 الذي أسفر عن 30 ضحية بريطانية (من ضمن 38) وأملى مراجعة مجلس العموم لسياسة بريطانيا في حربها على تنظيم داعش الذي أوزعت له رسميا مسؤولية الهجوم على الرعايا البريطانيين، وحدا بحزب العمال البريطاني إلى تغيير موقفه والسماح للقوات العسكرية البريطانية بضربات على مواقع التنظيم في سوريا ردا على قتل مواطنيه (17).

يبدو المغرب أكثر بلدان المغرب العربي توازنا، فإلى جانب استقراره السياسي، استطاع تنويع فرصه الاستثمارية مما يجعل أثر البريكست أقل وقعا عما هو عليه لدى جيرانه، مع إمكانية تراجع الطلب الخارجي المرتبط بتقلبات الأسواق المالية الدولية والبورصة، وهي عوامل تقترن بطبيعة المرحلة “البريكسيتية” المشوبة إلى حد كتابة هذه الدراسة بضبابية الرؤية الأوروبية. بيْد أنه في حالة تحول بريطانيا إلى فضاء تجاري عالمي متحرر من كل القيود والتشريعات الأوروبية سيدفع بالتأكيد نحو الرفع من حجم التبادل التجاري البريطاني المغاربي بشكل عام.

وإنه من الأهمية التأكيد هنا على أهمية مسايرة بلدان منطقتنا للاقتصاد المعولم في جانبه التكنولوجي (صناعي أو تكنولوجيا رقمي، والمعرفي، بعد تراجع تنافسية بلدان المغربي العربي والبلدان العربية عموما، حسب تصنيف تقرير مؤتمر دافوس الاقتصادي حول التنافسية للفترة 2017 -2016 والتي تضع البلدان العربية عامة ضمن مراتب متأخرة (باستثناء تقدم نسبي لدول الخليج ومصر والمغرب) في مجال الجاهزية للابتكار DIGITAL READINESS، بمراوحة مؤشرات اقتصاد المعرفة (جملة المعايير الخاصة بتبني التكنولوجيا واستخدامها وتطويرها، ووجود بيئة تشريعية لها ومواءمة أسعار خدمات الاتصال) دون تقدم يذكر، موازاة مع تراجع سوق الشغل في استيعاب أصحاب الشهادات العليا لمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط  ANMOبنسبة عامة قدرت ب25%.  وحسب معايير التصنيف الدولي الذي أنشأه مؤسس المنتدى العالمي كلاوس شواب عام 1979، لا تزال بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط ضعيفة على مستوى التعليم العالي ونجاعة سوق العمل.

  1. تداعيات البريكست على بلدان مجلس التعاون الخليجي

بالنسبة لبلدان مجلس التعاون الخليجي، فإن انخفاض الجنيه الإسترليني سيدفع نحو زيادة الاستثمارات في بريطانيا، وأن خروج بريطانيا كبلد مستقر بمتوسط بطالة 5%، وصاحب تقليد راسخ في المعاملات المصرفية، سينعكس سلبا على الأسواق والبورصات العالمية والشركات الصغرى والمتوسطة بالخصوص بدرجة أكبر. ولنا في هذه التداعيات أثر لاحقا للإعلان عن نتائج التصويت الذي أدى الى انخفاض أسعار النفط ب6% في الساعات الأولى لنتائج البريكست، وإن تكرر هذا الأمر خلال فترة المفاوضات البريطانية الأوروبية فسيزيد من تراجع الإيرادات الريْعية الخليجية، وبالتالي سيؤثر سلبا على تداولات الأسهم في بورصاتها.

يبلغ حجم التجارة بين بريطانيا والبلدان الخليجية 18 مليار جنيه إسترليني، مقابل واردات ب17,9 مليار جنيه إسترليني، مما يبرز القيمة السوقية للمنتجات الخليجية في بريطانيا، التي إن أصابها “ركودا بريكسيتيا” سيتراجع الطلب عليها بشكل مباشر. ولكن لا تبدو حاليا مؤشرات تأثير واضح حاليا، خصوصا مع توفر عوامل جذب كثيرة في بريطانيا للأسواق الخليجية واحتمال ظهور تأثيرات على المدى المتوسط، خصوصا بعد وضع القوانين المنظمة للسوق الأوروبية.

ولا يمنع التفاؤل الحذر من الإشارة إلى ضرورة تنويع مصادر الإنتاج غير النفطية، كما نبه الخبراء العرب إلى ذلك سابقا، خصوصا في ظل انخفاض أسعار النفط بشكل غير مسبوق خلال الفترة 2015 -2016، وفي ظل الطلب المتزايد على استهلاك الطاقة محليا والحاجة إلى دعم القدرة الصناعية للتصدير، وخصوصا أن دول الخليج تمثل السوق الخامسة لصادرات الاتحاد الأوروبي، الذي يعد الشريك التجاري الأول لها.وبالنسبة لبريطانيا، تصدر بلدان مجلس التعاون الخليجي إليها النفط والغاز ومواد ذات صلة وتستورد منها تشكيلة واسعة من السلع المصنعة والخدمات، ومن ثم فإن توثيق العلاقات التجارية في مجالات الصناعة والطاقات المتجددة والنظيفة لمرحلة ما بعد النفط أمر لا غنى عنه.

من السابق لأوانه القول أن مفاوضات التجارة الحرة ستستأنف قريبا بين دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي بعد أن تم إيقافها منذ 2008 من دول المجلس عقب الأزمة المالية العالمية ولاحقا للشروط المشطة للاتحاد بشأن فرض رسوم على الصادرات، ولو أنه من الأهمية بمكان النظر في إعادة هيكلتها اليوم في ظل البريكست للدفع نحو قبول إجراءات تعويضية عن هذه الرسوم من طرف الاتحاد الأوروبي، في إطار قواعد منظمة التجارة العالمية (الاثنان عضوان فيها)، وفي ظل محدودية مناورات الاتحاد في الوقت الحالي. ولا شك أن معرفة المتغيرات الناتجة عن البريكست سيخدم الموقف التفاوضي لدول مجلس التعاون الخليجي ويعظم استفادتها منها، لجهة الحصول على ترتيبات تفاضلية، لما بعد الخروج الرسمي من الاتحاد (أخذا بعين الاعتبار أن بريطانيا غير مخولة حاليا للتوقيع على اتفاق تجارة لكونها مازالت عضوا في الاتحاد). علاوة على التجارة التي تعد إحدى ركائز العلاقات الخليجية الأوروبية هناك مجالات لا تقل أهمية وجديرة بالتطوير ومنها النقل (اتفاق السماء المفتوحة) والتكنولوجيا والطاقة والزراعة وبناء المدن الذكية، في ضوء التقدم العلمي لدول الاتحاد وبريطانيا وحاجة دول المجلس لتطوير إمكاناتها الاقتصادية وإدارة ثرواتها المائية وفق سياسة ” أمن مائي” أكثر ترشيدا، وتحقيق تنمية مستدامة قوامها اقتصاد المعرفة. لا يأتي تفاؤلنا بالنسبة لمستقبل لعلاقات الخليجية الأوروبية من فراغ، بقدر ما هو نتاج استنتاج لوجود آفاق لتعاون مستقبلي أكثر تقاربا وتكافئا ، ترتيبا على تعامل دول المجلس ككتلة مع الاتحاد وما يعطيه ذلك من ثقل في تفاوضه، فضلا عما قطعته أغلب بلدانه من أشواط كبيرة في التنمية لا رجعة فيها، مع توافر الإمكانات والموارد الطاقية والإرادة السياسية لتحويل عوائد الريع إلى اقتصاد متنوع لإنجاح مرحلة ما بعد النفط وتقوية الروابط القائمة  مع الاتحاد الأوروبي على شتى الأصعدة.

يبقى أن نشير إلى أنه في إطار إنجاح شراكات التعاون الاقتصادي لدول المغرب العربي والدول الخليجية والعربية عامة مع بريطانيا والاتحاد الأوروبي، يتوجب إصلاح العلاقات العربية- العربية التي شهدت متغيرات بنيوية داخلية منذ قيام الثورات و خارجية على مستوى التوجهات الدبلوماسية إزاء بعضها البعض وإزاء الأطراف الدولية المتدخلة في الساحة العربية. عمق الاختلاف العربي تباين الرؤى الخاصة للأنظمة العربية للثورات ولمسارات الانتقال الديمقراطي التي لا زالت متعثرة باستمرار الحرب في سوريا وفي اليمن وتقاتل الفصائل في ليبيا (تضاف إلى عوائق تفعيل اتحاد المغرب العربي)، والصعوبات الاقتصادية في كل من تونس ومصر، علاوة على استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والتباين في مقاربات حكم الإسلام السياسي، مما وضع إمكانية وفاق عربي مشترك في عنق الزجاجة، في ظل مراوحة مواقف جامعة الدول العربية في قممها أو مجالس وزراءها بين دعم أو رفض للحلول المقترحة لحل الأزمات العربية، دون الخروج بإجماع يلتف حوله الصف العربي بشكل حاسم، وهي اليوم أكثر من ذي قبل مدعوة لتأكيد وجودها في ظل انفتاح المشهد الإقليمي على حضور متزايد للقوى الاقليمية وخاصة إيران. وتتأكد اليوم ضرورة استثمار مرحلة الانتقال الديمقراطي لابتكار آليات جديدة للتعاون العربي المشترك يقطع مع الفراغ الاقتصادي والأمني والاستراتيجي ويحصن المنطقة من الاختراقات انطلاقا من الحرص على بقاء النظام العربي على غرار النظام السابق، في ظل صعوبة تطويره كحد أدنى، مرورا باحترام السيادات القطرية وتحكمه العلاقات الرسمية، وصولا الى تقييم متفق عليه للأوضاع ولكيفية التعاطي مع القوى الاقليمية والدولية شرقا وغربا.

خاتمة :

من السابق لأوانه الحسم في كفة الغلبة للسيناريو المحتمل لما بعد البريكست ذلك أن المفاوضات مفتوحة على خيارات عدة ذكرناها، ومرتبطة الى حد كبير بقرار أعلى السلطة في بريطانيا وفي الاتحاد الأوروبي، وكذلك بتطور الأوضاع في اسكتلندا وفي باقي الدول الأوروبية الأعضاء (حدوث حالات انهيار اقتصادي أو استفتاءات مماثلة).

ولكن ينبغي أن نقر بأن هذه كل الاتجاهات لا تمنع البلدان العربية من تكييف سياستها وفق إرادتها بما يخدم مصالحها التجارية والاستثمارية، بشكل أقل ارتهانا بالتطورات المحتملة، لأنه من الهشاشة بمكان أن يكون هناك ارتباط هيكلي معين للاقتصاديات العربية بالانفصال البريطاني أو بتفكك الاتحاد نفسه، ولو أن البراغماتية تفرض رصدا للأحداث والتفاعل معها بأفضل التدابير، ولا يفوتنا هنا إبداء جملة من الاستنتاجات والاقتراحات:

  • نسبية قوة الاتحاد الأوروبي سياسيا واقتصاديا، وإن كان لا يزال الى اليوم يشكل القوة الاقتصادية الأولى عالميا، ومحورية أزمة المديونية في أزمته، حيث كان الاقراض والإقتراض المفرطيْن دون قيود سبب أزمات البلدان المتعثرة (على خلفية أن المهم سداد الفوائد)،. وتضع المديونية الآن على المحك هشاشة النظام الرأسمالي الذي صار يهدد الأفراد والمؤسسات والدول على حد سواء، كما تضع هذه القضية الديمقراطية التمثيلية داخل المجلس الأوروبي ومؤسسات الاتحاد على محك المساءلة الشعبية الأوروبية ومدى تبني الشرائح الاجتماعية العريضة لقرارات بروكسل (18)،
  • ينذر البريكست بإحتمال انتقال عدوى الانفصال الى أعضاء آخرين، لا سيما ايطاليا وهولندا واليونان واسبانيا، بسبب استمرار التعثر الاقتصادي لهذه البلدان (الأزمة الهيكلية في ادارة الديون وعجز ميزان المدفوعات لأغلبها)، موازاة مع صعود تيارات اليمين الشعبوي وتهديدها لوجود الاتحاد نفسه ومصالح والعرب والمسلمين والأجانب عامة،
  • ينبغي استثمار خروج بريطانيا لتطوير علاقاتهم التجارية معها ومع الاتحاد الأوروبي ضمن شراكة أفضل توازنا تراعى فيها الأولويات التي تخدم الشعوب (جاليات أو استثمارات خاصة)،
  • من الضروري لبلدان المغرب العربي التي ترتبط باتفاقات شراكة مع الاتحاد منذ تسعينات القرن الماضي أن ترتقي بهذه العلاقات ضمن دور يتجاوز ولاية شرطي الحدود وحارس المتوسط، والخروج من وضع المتلقي للمنح والمساعدات والقروض الى دور أكثر دينامية وفاعلية سياسيا واقتصاديا وتحفيز النمو ذاتيا عبر استغلال أفضل للموارد ومؤازرة الصناعات التصديرية المهددة خصوصا الصناعات التحويلية والنسيج (تونس والمغرب) والصناعات الكيميائية والحديد والذهب (ليبيا وموريتانيا) وتنويع هيكل صادراتها التقليدية نحو الاتحاد الأوروبي وتركيز اقتصاد يعتمد أكثر على الصناعة والزراعة (في ظل هشاشة القطاع السياحي الذي رغم أهميته يتأثر بأدنى العوامل الخارجية بما فيها الارهاب)، وتشغيل الشباب عبر بعث المشاريع الصغرى، لا سيما في المناطق الداخلية المهمشة التي عانت لعقود من حيف المركزية وكانت مهد اندلاع الشرارة الأولى للثورة. ولا يفوتنا هنا التأكيد على أهمية تصحيح الاقتصاد الكلي لجني منافع الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وتأهيل قدرات المؤسسات الوطنية تنافسيا برفع نصيب التكنولوجيا في الموازنات العامة، وتجاوز معوقات تكامل المغرب العربي (قضية الصحراء الغربية وتشابه الهياكل والاعتماد بشكل كبير على الرسوم الجمركية واستشراء الفساد) للتفاوض مع الاتحاد الأوروبي ككتلة ومسايرة العولمة من منطق التكتلات والندية التكنولوجية،
  • يبقى دور غرف التجارة والصناعة العربية محوريا لتفعيل الفرص الاستثمارية وإعداد دراسات الجدوى الصناعية ببيانات دقيقة ومحدثة باستمرار، بالتعاون مع نظيراتها من غرف التجارة العربية- الأوروبية المشتركة لفائدة الشركات الصغرى والمتوسطة، ودعم نقل التكنولوجيا وإقامة المشاريع المشتركة، عبر شراكة القطاع الخاص الذي يبقى أداؤه مكملا لدور الدولة ورافدا لها، وذلك من خلال متابعة نتائج المنتديات الاقتصادية والموائد المستديرة التي تنظمها لفائدة رجال الأعمال، وإقامة المعارض القطاعية المتخصصة وفق الاحتياجات المحلية. وفي هذا الصدد، ينتظر الكثير مستقبلا من المنتديات الاقتصادية العربية- الأوروبية للأعمال لمساندة هذا الدور الدقيق وتعزيز فرص ومحاور التعاون المشترك،
  • يرتهن تطوير العلاقات التجارية للعرب مع بريطانيا خاصة والاتحاد الأوروبي عامة وبالخارج بشكل أعم،  بالاستقرار السياسي، وبتطوير المنتجات العربية صناعيا، في إطار اقتصاد متنوع يعتمد أرقى التقنيات ترصد فيه الموازنات اللازمة لتطوير البحث العلمي، واعتماد البدائل الطاقية الجديدة، والرهان على تأهيل الموارد البشرية بكل مستوياتها، ليكون الإنسان العربي بحق منتجا للتحول وهدفا للرفاه.

عن مركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية csds

 

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post لقاء مع المفكّر الفرنسي “فرانْسوا بُرغات” ” مسار التطوّر السياسي للحركات الإسلامية”
Next post تسديد الرعاية النفسية في بلجيكا لن يدخل حيز التنفيذ قبل نهاية عام 2018