أمن الطاقة في العلاقات الروسية – الأوروبية: قراءة وفق نظرية الاعتماد المتبادل

Read Time:28 Minute, 33 Second

محفوظ رسول

شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_ يحظى موضوع أمن الطاقة في العلاقات الروسية – الأوروبية بأهمية متعاظمة في دراسة العلاقات الدولية، حيث أصبح هذا الموضوع أحد الهواجس والقضايا الموجعة في المأمورية السياسية بين الطرفين، بل غدا للطاقة دور مهم في تحديد منحى مسار العلاقة بين هذين القطبين؛ ذلك بأن دول هذا الاتحاد تعتمد بشكل بالغ على إمدادات الطاقة الروسية بنسبة لا تقل في أحسن أحوالها عن 30 بالمئة من حاجاتها الطاقية، فضـلاً عن أنها تصل عند بعض دول أوروبا الشرقية إلى قرابة 100 بالمئة. بينما تعتمد روسيا اعتماداً شديداً على سوق الطاقة الأوروبية، وبنسبة لا تقل عن 70 بالمئة من صادراتها الطاقية‏[1]، وهو ما يجعل العلاقة بين هذين القطبين تتميز بنوع من الحاجة والتبعية المتبادلة على نحوٍ يمكن أن نطلق عليه اعتماداً طاقياً متبادلاً. غير أن هذا الاعتماد يقع ضمن نطاق مستويات متباينة من دولة أوروبية إلى أخرى.

لقد طرحت الأزمات الأوكرانية المتتالية ارتهان الأمن الطاقي الأوروبي، مثلما طرحت ارتهان الأمن الطاقي الروسي نفسه، فضـلاً عن قابليته الشديدة للعطب، نظراً إلى الاعتماد الصارخ للقطبين على دول العبور في أمن الإمدادات الطاقية. وعلى هذا الأساس فما مدى درجة الاعتماد الطاقي المتبادل بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي؟ بمعنى آخر هل يمكن اعتبار العلاقات الطاقية بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي علاقات اعتماد متبادل؟ وإلى أي مدى وصل هذا الاعتماد؟ هل إلى درجة الحساسية أم إلى درجة القابلية للعطب (الهشاشة)؟ وهل هي علاقات اعتماد متبادل تماثلي أم غير تماثلي؟

تتكون الاجابة عن هذا التساؤل من خلال التطرق إلى مفهوم أمن الطاقة، وطبيعة العلاقات الطاقية بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، فضـلاً عن محاولة قياس درجة الاعتماد الطاقي المتبادل بين هذين القطبين؛ وذلك عبر منظارَي الحساسية والهشاشة؛ زيادة على تحديد علاقات الاعتماد التماثلي وغير التماثلي بين أطراف وفواعل العلاقة.

مفهوم الأمن الطاقي

يُرجع دانييل يورغن في مقال له تحت عنوان «ضمان أمن الطاقة» المفهوم إلى عشية الحرب العالمية الأولى؛ حين اتخذ اللورد ونستون تشرشل قراراً تاريخياً بتحويل تشغيل السفن الحربية البريطانية من الفحم إلى النفط. ويعد تشرشل أول من طرح تعريفاً لمفهوم أمن الطاقة حينما أشار إلى أنه «يكمن في التنوع والتنوع وحده» (Lie in Variety and Variety Alone)‏[2].

لقد استُعمل أمن الطاقة كمفهوم في وسائل الإعلام والبحث الأكاديمي، غير أن تعاريفه بقيت مبهمة، وفي أغلب الأحيان محدودة‏[3]. وذلك نظراً إلى تعدد المقاربات والمناظير والفواعل التي تناولت قضية أمن الطاقة. وهكذا يختلف أمن الطاقة من دولة إلى أخرى، حسب وضع الدولة في سوق الطاقة نفسها، حيث يقوم مفهوم أمن الطاقة عند الدول المصدرة الطاقة عموماً على أنه أمن الطلب؛ بمعنى ضمان إنتاج كافٍ من مصادر الطاقة، مع ضمان الطلب المستمر عليها، وبأسعار تنافسية (عالية) تسدد تكاليف الاستثمار وتحقق عوائد مالية مهمة. بينما يقوم المفهوم عند الدول المستوردة على أنه أمن الإمدادات الطاقية؛ بمعنى ضمان إمدادات طاقة كافية من موردين موثوق بهم، مع ضمان الوصول الآمن لهذه الإمدادات من دون خطر إعاقتها، وبأسعار معقولة (منخفضة) من أجل الحفاظ على الأداء الاقتصادي ومعدلات النمو، وبتكلفة اجتماعية أقل‏[4]. وهكذا يصبح السعران المنخفض والمرتفع أحد أهم تحديات ضمان أمن الطاقة بين الدول المصدرة والدول المستوردة؛ ذلك بأن فكرة السعر الملائم أو المناسب هي فكرة غامضة ومحيرة، فالسعر الملائم لدولة ما ليس ملائماً لدولة أخرى. وهو ما يسهم بدوره في تقليص أوجه التعاون بين الدول المنتجة فيما بينها من جهة، وبين الدول المصدرة ونظيرتها المستهلكة من جهة ثانية، حتى يفضي في الأخير إلى ما يسمى معضلة الطاقة؛ التي تعني «أن سعي الدولة نحو تحقيق أمن الطاقة الخاص بها، سوف يؤثر في سياسات الطاقة للدول الأخرى، سواء كانت مصدرة أو مستوردة»‏[5].

لو كنا في محاولة الجمع بين التعريفات السابقة لقلنا إن أمن الطاقة يعني التوازن السليم بين العرض والطلب على الطاقة بغرض تسهيل التنمية الاقتصادية والتطور الاجتماعي لكل من المصدِّرين والمستوردين. إنه توازن يُقصد منه التوافق بين مجموعة متنوعة من مصادر الطاقة ومجموعة معقدة من الحاجات. معنى هذا أن ننظر إلى أمن الطاقة نظرة تعاونية لا نظرة نزاعية. بعبارة أخرى، إن تحقيق أمن الطاقة بين الدول المصدرة ونظيرتها المستوردة ينبغي أن ينطلق من مبدأ لعبة غير صفرية (ربح – ربح) في علاقات الدول، لا من نظرة نزاعية عادة ما تفضي إلى معضلة الطاقة.

ولا تشذ روسيا عن باقي الدول المنتجة والمستوردة لمصادر الطاقة؛ حيث تعرف أمنها الطاقي – مثلما يذهب إليه الباحث بمركز استراتيجية الطاقة بموسكو م. بيلوفا (M. Belova) على أنه: «ليس هناك تعريف وحيد لأمن الطاقة.. لروسيا مثل أي مورد طاقي آخر، أمن طاقة.. يدور حول أمن الطلب.. وأسعار طويلة المدى، والتزامات طويلة المدى أيضاً..»‏[6]. والحقيقة أن أمن الطاقة الروسي يقوم على ضرورة الاستخراج الكافي من مصادر الطاقة الروسية الواقعة في مناطق جغرافية صعبة وقاسية، مثلما يتضمن ضرورة الوصول الآمن إلى أسواق الطاقة العالمية، خاصة الأوروبية منها؛ فضـلاً عن ضرورة التصدير الآمن لإمدادات الطاقة الروسية دون عرقلتها من طرف دول العبور، وبأسعار عالية تحقق أرباحاً مهمة. زيادة على ضرورة امتلاك التكنولوجيات المناسبة والضرورية لاستخراج الطاقة، وامتلاك والتحكم في شبكة خطوط نقلها نحو الأسواق الخارجية. ناهيك بضرورة التنويع وخلق توازن سليم في أسواق الطاقة الروسية بما لا يجعل روسيا تابعة لسوق طاقة واحدة. والحقيقة أن هذا المفهوم يجعل من روسيا فاعـلاً ودولة محورية مهمة في توازنات الطاقة في السوق الدولية بوصفها منتجاً طاقياً كبيراً. فلا عجب من استخدام الأدبيات السياسية عبارة: «ليس لروسيا سياسة خارجية وإنما سياسة طاقة»‏[7].

يقوم مفهوم أمن الطاقة لدى الاتحاد الأوروبي على أمن إمدادات الطاقة؛ حيث يتضمن هذا المفهوم تصوراً يقوم على ضرورة «استمرارية الإمدادات من مصادر موثوقة، وسهلة الوصول إليها، وبأسعار معقولة، وبآثار مقبولة بيئياً»‏[8]. نستشف من هذا التعريف أربعة عناصر رئيسة تشكل المضمون الحقيقي لمفهوم أمن الطاقة الأوروبي؛ يتعلق أولها باستمرارية توافر موارد الطاقة في السوق من بترول وغاز طبيعي وفحم… وتدفقها بشكل مستديم بلا انقطاع نحو دول الاتحاد الأوروبي. ويتعلق ثانيها بضمان توفر مصادر طاقة موثوقة من مناطق الإنتاج (المتمركزة أساساً في روسيا ومنطقة الخليج وشمال أفريقيا). ويتعلق ثالثها بضمان أسعار معقولة لمختلف موارد الطاقة (خاصة الغاز والنفط نظراً لشدة الاعتماد عليه). بينما يرتبط رابعها بضمان حماية البيئة، وعدم إلحاق الضرر بها. وهكذا أضحى أمن الطاقة الأوروبي – بعد الأزمات الطاقية التي شهدها – يقوم على بعد آخر يتمثل بضرورة تنويع مناطق إمدادات الطاقية بغية تقليل التبعية الطاقية الأوروبية لروسيا‏[9].

يتضح من خلال المفهومين الروسي والأوروبي لأمن الطاقة أن هناك اتفاقاً واضحاً بين المفهومين؛ في ما يتعلق بضرورة استمرار تدفق إمدادات الطاقة بين الطرفين بصفة دائمة. بيد أن موطن الخلاف يتمثل بالطريقة المثلى التي يمكن من خلالها ضمان استمرار هذه الإمدادات، وحجمها، وطرق نقلها.

ثانياً: نظرية الاعتماد المتبادل
في تحليل علاقات الطاقة بين الدول

أصبح الاعتماد على التحليل الليبرالي الجديد (نظرية الاعتماد المتبادل) لقضايا السياسة الدولية أمراً بالغ الأهمية، نظراً إلى ارتفاع مستويات الترابط الاقتصادي بين الأمم؛ فيما يعرف بنقاش مسير العولمة. وتعد نظرية الاعتماد المتبادل إحدى أهم تلك الطروحات الليبرالية الجديدة المناهضة لفكرة التحليل الواقعي الصرف. ويعرِّف روبرت كيوهان وجوزيف ناي في كتابهما القوة والاعتماد الصادر عام 2012 مفهوم الاعتماد على أنه: «حالات تتميز بالتأثيرات المتبادلة بين الدول أو بين الفواعل في مختلف الدول»‏[10]. ويميز روبرت كيوهان بين الاعتماد المتبادل وبين الاعتماد أو الترابط البسيط، ذلك بأن اعتماد الدولة على دولة أخرى في وارداتها الطاقية يختلف عن اعتمادها على دولة أخرى في بعض المنتجات الاقتصادية غير الاستراتيجية. ولأن الدول المنتجة للطاقة تعتمد على عمليات التصدير قصد الحصول على عوائد مالية – من أسواق البلدان المستهلكة – قصد مواصلة عجلة التنمية الاقتصادية، وبخاصة في الحالة الروسية – الأوروبية، فإن هذه العلاقة تخلق اعتماداً متبادلاً بين هذين القطبين. يطرح روبرت كيوهان وجوزيف ناي في نظريتهما حول الاعتماد المتبادل مفهومين شكّلا أعمدة مهمة في نظريتهما؛ هما مفهوم الاعتماد المتبادل الحساس ومفهوم الاعتماد المتبادل القابل للعطب (Sensitivity and Vulnerability Interdependence).

يعني مفهوم الحساسية حسب الكاتبين «تلك الكلفة التي تعانيها الدولة من قبل التأثيرات المفروضة عليها من الفواعل الخارجية، قبل أن تلجأ الدولة إلى محاولات تعديل وتغيير سياساتها». بينما يعني مفهوم القابلية للعطب (Vulnerability) «مسؤولية الفواعل لتحمل التكاليف المفروضة عليها من طرف الأحداث الخارجية بعدما تكون سياستها قد عدلت فعـلاً»‏[11].

بناء على ما سبق، يعني مفهوم الاعتماد المتبادل الحساس (Sensitivity Interdependence) عند كيوهان وناي: «درجات الاستجابة ضمن إطار سياسي يركز على مدى سرعة التغيرات الحاصلة في بلد ما، وما يمكن أن تحدثه من تغيرات عظمى في بلد آخر، فضـلاً عن مكامن هذه التأثيرات العظمى». ويقول كيوهان وناي إن دراسة الاعتماد المتبادل لا تتوقف على مجرد حجم صفقات التدفق عبر الحدود، ولكن أيضاً بتلك التأثيرات العظمى التي تغيِّر أسباب صفقات الحكومات والدول.

يمكن أن تقاس حساسية الاستيراد بتكلفة النفط الخارجي، ونسبة المجموع العام للنفط المستورد، مثـلاً، نجد أن الاعتماد الحساس للولايات المتحدة الأمريكية واليابان وأوروبا الغربية تأثرت بأسعار النفط المتزايدة عام 1973 – 1975، غير أن الولايات المتحدة كانت أقل حساسية من اليابان في ما يخص ارتفاع أسعار النفط حينها‏[12]. وهكذا يستدل على مستوى حساسية الاعتماد المتبادل الطاقي، عبر حجم الطاقة المستوردة بالنسبة إلى الطلب العام عليها في الدول المستوردة. بينما يقاس مستوى هشاشة الاعتماد المتبادل أو القابل للعطب عبر بدائل الطاقة المستوردة، وتكلفة تحويل تلك البدائل المحتملة إلى بدائل ممكنة. هنا نجد أن الدول التي تعتمد على استيراد الطاقة بنسبة 35 بالمئة من حاجاتها الطاقية قد تبدو حساسة لارتفاع أسعار الطاقة. غير أنه إذا قامت إحدى هذه الدول بالبحث عن بدائل محلية لوارداتها الطاقية عبر تكلفة مقبولة، فإنها ستكون أقل قابلية للعطب من تلك الدولة التي لا يتوافر لديها مثل هذه البدائل‏[13].

إن تحليل العلاقات الطاقية بين روسيا وأوروبا يجب أن يأخذ بعين الاعتبار التطرق إلى حالتَي الحساسية والقابلية للعطب بين مختلف فواعل العلاقة، وذلك قصد قياس مستوى التناظر بين طرفَي العلاقة.

ثالثاً: تطبيق نظرية الاعتماد المتبادل
على علاقات الطاقة بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي

1 – صور العلاقات الطاقية بين روسيا والاتحاد الأوروبي

تعد روسيا فاعـلاً طاقياً كبيراً؛ حيث تمتلك أكبر احتياطي عالمي من الغاز الطبيعي، مقداره 1.688 تريليون م3 (tcf) بما يعادل 23.4 بالمئة من الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي. ووصل الإنتاج الروسي من هذا المورد عام 2014 إلى 605 مليار م3 سنوياً؛ تم تصدير ما لا يقل عن 191 مليار م3 منه، فاتجه الجزء الأهم نحو أوروبا، بينما تم استهلاك الباقي محلياً. ويتوقع أن يصل الإنتاج الروسي من الغاز عام 2035 إلى 727.3 مليار م3، كما يتوقع أن يصدر منه حوالى 268 مليار م3 خلال تلك السنة‏[14].

تمتلك روسيا أيضاً ثامن أكبر احتياطي عالمي من النفط؛ يقدّر بنحو 10 إلى 12 بالمئة من الاحتياطي العالمي من النفط. وقدرت قيمة هذه الاحتياطيات المؤكدة مع مطلع عام 2016 بنحو 80 مليار برميل. بينما بلغ إنتاج روسيا من النفط عام 2015 مقدار 11.3 مليون برميل يومياً من النفط وباقي السوائل النفطية الأخرى. وقامت في إثرها روسيا بتصدير 7.5 مليون برميل يومياً من النفط الخام، بينما استهلكت 3.5 مليون برميل يومياً من النفط‏[15].

وهكذا يشكل قطاع الطاقة في روسيا ربع الناتج المحلي الإجمالي، وتسهم إيرادات النفط والغاز أكثر فأكثر في الموازنة الروسية؛ ففي عام 2013 موّلت تلك الإيرادات أكثر من 45 بالمئة من موازنة الدولة. بحيث يأتي الدخل الرئيس من النفط؛ الذي وصلت إيراداته عام 2013 إلى 191 مليار دولار، ومن الغاز نحو 28 مليار دولار؛ وهكذا يوفران الغاز والنفط معاً 68 بالمئة من إيرادات التصدير الروسية.

وجاء على الطرف الآخر الإنتاج الطاقي لدول الاتحاد الأوروبي لعام 2013، وفق المعادلة التالية: مقدار إجمالي إنتاج الطاقة الأولية لدول الاتحاد 789.8 مليون طن معادل نفط = 131.8 مليون طن معادل نفط من الغاز + 66.2 مليون طن معادل نفط من النفط + 155.8 مليون طن معادل نفط من الفحم + 226.3 مليون طن معادل نفط من الطاقة النووية + 192 مليون طن معادل نفط من الطاقة المتجددة + 17.7 مليون طن معادل نفط من طاقات أخرى‏[16].

استهلكت دول الاتحاد الأوروبي خلال السنة نفسها 1.666 مليار طن معادل نفط، بما جعل هذه الدول تستورد قرابة مليار طن معادل نفط لتغطية حاجاتها من الطاقة خلال السنة نفسها. وهكذا استورد الاتحاد الأوروبي (عام 2013) 33.50 بالمئة من حاجته النفطية من روسيا، مثلما استورد 39 بالمئة من حاجته من الغاز من روسيا أيضاً. وهو ما يجعل روسيا أول موّرد للنفط والغاز نحو الاتحاد الأوروبي. بمعنى أن دول الاتحاد الأوروبي تعتمد بشدة على إمدادات الطاقة الروسية، بما يجعلها أكثر تبعية لواردات الطاقة الروسية‏[17].

تشهد روسيا على الطرف الآخر أيضاً تبعية طاقية شديدة نحو سوق الطاقة الأوروبية؛ حيث يتجه ما يزيد على 80 بالمئة من الإنتاج الروسي من النفط والغاز نحو السوق، بينما تستورد روسيا ما يفوق نصف حاجتها من التقنية الخاصة باستخراج النفط والغاز من الاتحاد الأوروبي. وهكذا يمكن القول إن روسيا بحاجة إلى السوق الطاقية الأوروبية قصد تصريف إنتاجها، بينما تحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى إمدادات الطاقة الروسية قصد تلبية حاجاتها، وهو ما يخلق تبعية طاقية متبادلة بين القطبين‏[18].

2 – مؤشرات إدراك الاعتماد الطاقي الروسي – الأوروبي

لخصت المفوضية الأوروبية في أيار/مايو 2014 اعتماد أوروبا على الغاز الروسي على النحو التالي: «تعتمد ست دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي على روسيا فقط كمورد خارجي وحيد لوارداتها من الغاز الطبيعي؛ ومنها ثلاث دول تعتمد على استخدام الغاز الطبيعي لتلبية أكثر من ربع حاجاتها من الطاقة»‏[19]. وهكذا يتضح من خلال هذه العبارة مستوى التبعية الطاقية لبعض دول الاتحاد الأوروبي لروسيا، بما يجعلها أكثر ارتهاناً لإمدادات الطاقة الروسية.

حريٌّ بنا الإشارة إلى أنه ستحلل درجة حساسية وهشاشة الاعتماد الطاقي بين روسيا والاتحاد الأوروبي عبر تحليل التمايز داخل دول الاتحاد الأوروبي نفسه، وعبر تمايز علاقاتها الطاقية مع روسيا. ويكون هذا عبر التمييز بين مجموعتين مختلفتين من درجات الاعتماد المتبادل؛ حيث تتمثل المجموعة الأولى بدرجات الاعتماد المتبادل بين دول أوروبا الغربية وروسيا؛ في حين، تتمثل المجموعة الثانية بدرجات الاعتماد المتبادل بين روسيا وبلدان العبور، المتمثلة بدول أوروبا الشرقية. حيث يمكن تمييز اختلافات كبيرة بين مستويات الحساسية والهشاشة بين هذه المجموعات وروسيا.

أ – الاعتماد الطاقي للاتحاد الأوروبي:
بين الحساسية والقابلية الشديدة للعطب

تشهد دول الاتحاد الأوروبي مستويات عالية من الحساسية والقابلية الشديدة للعطب في إمداداتها الطاقية القادمة من روسيا، ولا سيَّما في معاملات الغاز الطبيعي. ويمكن تميز هذه المستويات وفق عنصرين مهمين هما:

(1) حساسية الاعتماد الطاقي الأوروبي: يمكننا قياس درجات حساسية الاعتماد الطاقي لدول الاتحاد الأوروبي عبر عدد من المتغيرات لعل أهمها؛ متغير تنوع مزيج الوقود الأساسي، ومتغير استيراد التبعية وإحلال الوقود، ومتغير تركيز السوق وحصتها من المناطق غير المستقرة سياسياً في الواردات الطاقية. والحقيقة أن القاء نظرة على الوضع الطاقي الحالي في الاتحاد الأوروبي، يثبت لنا أن جميع معايير زيادة درجة حساسية الاعتماد الطاقي يبدو أنها موجودة، وهي كما يلي:

– تعد مساهمة إنتاج النفط والغاز في مزيج الطاقة لدول الاتحاد الأوروبي ضعيفة؛ حيث يسهم النفط بنسبة 9.1 بالمئة، والغاز الطبيعي بنسبة 16.7 بالمئة من مزيج إنتاج الطاقة لدول الاتحاد الأوروبي.

– تصل درجة الاعتماد الأوروبي على واردات الطاقة إلى نسب مرتفعة جداً (قرابة 53 بالمئة من الحاجات الأوروبية للطاقة).

– تهيمن روسيا على حصة كبيرة جداً من سوق الطاقة في أوروبا؛ (39 بالمئة من سوق الغاز الطبيعي، ومقدار 33.5 بالمئة من سوق النفط لدول الاتحاد). وهو ما يجعل التبعية الأوروبية لإمدادات الطاقة تتركز عند مورد واحد مهم يتمثل بروسيا‏[20].

– يتسلّم الاتحاد الأوروبي مقدار 80 بالمئة من إمدادات الطاقة القادمة من روسيا عبر أوكرانيا كدولة عبور؛ وهو ما يجعله يواجه توجساً دائماً بشأن قطع إمدادات الطاقة على خلفية الأزمات الأوكرانية المتتالية، بما يؤثر في استدامة سلسلة الطاقة نحو أوروبا.

نتيجة لما سبق، يمكن اعتداد درجة حساسية الاعتماد الطاقي للاتحاد الأوروبي ذات حساسية مرتفعة. وهذه الحساسية هي انعكاس إلى حد كبير لحقيقة مفادها أن الاتحاد الأوروبي يعتمد على إمدادات خطوط أنابيب الغاز القادمة من روسيا، وليس لديه القدرة الكافية في الوقت الراهن على خلق بدائل فورية لتبعيته الطاقية نحو روسيا‏[21]. نتيجة لذلك، تم طرح فكرة تنويع طرق ومناطق الاعتماد الأوروبي على توريدات الطاقة الخارجية. ومع ذلك – وفقاً لنظرية الاعتماد المتبادل – فإن درجة حساسية الاعتماد الطاقي الأوروبي، ليست مهمة بقدر أهمية ودرجة هشاشة الاعتماد الطاقي الأوروبي، وقابليته الشديدة للعطب.

(2) هشاشة الاعتماد الطاقي الأوروبي: يمكن قياس هشاشة الاعتماد الطاقي للاتحاد الأوروبي من خلال النظر – ليس فقط على نسبة حاجات الاتحاد الأوروبي من الطاقة وتكاليف قطع إمدادات الطاقة – ولكن أيضاً في بدائل الطاقة المستوردة، وتكاليف التحول إلى البدائل الممكنة. وهكذا، ينبغي أن ينظر إلى هشاشة الاعتماد الطاقي للاتحاد الأوروبي في علاقته مع روسيا عبر منظار مجال تهديدات يشمل المدَيَين القريب والبعيد؛ مثل عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على إنجاز طرق بديلة لإمدادات الطاقة الروسية، وقضية زيادة الاستثمارات في مجال تحسين كفاءة استخدام الطاقة، وتكنولوجيات الطاقة البديلة، والطاقات البديلة. وتشير توقعات وضع الطاقة في الاتحاد الأوروبي إلى ما يلي:

– يتوقع استمرار هيمنة مصادر الطاقة التقليدية في المدى القصير والمتوسط في مزيج الطاقة الأوروبي، نظراً إلى التكلفة العالية نسبياً لموارد الطاقة البديلة.

–  يتوقع زيادة نمو الاعتماد الأوروبي على واردات الطاقة الخارجية، حيث سيصل استيراد الغاز الطبيعي إلى نسبة 75 بالمئة من حاجة الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030. بينما لن يتجاوز خلالها نمو المصادر البديلة نسبة 27 بالمئة من حصة مزيج الطاقة.

– يتوقع بقاء روسيا واحدة من المصادر الرئيسية الأهم لإمدادات الطاقة للاتحاد الأوروبي، ولا سيَّما مع قرب نضوب واستنزاف مصادر إمدادات الطاقة من مناطق أخرى من العالم.

– يُتوقع أن تكون روسيا المورد الأكثر موثوقية لإمدادات الطاقة في السنوات القادمة مقارنة مع باقي المناطق الجغرافية الأخرى؛ التي تشهد صراعات صدامية لا يمكن حلها في المدى القريب. ويتوقع أن تغدو عملية تنويع مناطق الإمداد أكثر صعوبة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، وبخاصة في المديين القريب والمتوسط، بسبب تكلفتها العالية، ووقوعها في مناطق غير مستقرة سياسياً وأمنياً.

– ترتبط دول الاتحاد الأوروبي بعقود إمدادات طويلة المدى مع شركة غازبروم الروسية؛ تتضمن استيراد الاتحاد الأوروبي مقدار 180 – 200 مليار متر مكعب من الغاز من طرف شركة غازبروم الروسية، ومعظم هذه العقود تمتد إلى ما وراء عام 2025، وبعضها إلى ما بعد عام 2030، وهو ما يجعل دول الاتحاد الأوروبي أكثر ارتباطاً بإمدادات الطاقة الروسية.

– يجعل الانقسام الحالي في سياسة الطاقة الأوروبية، من دول هذا الاتحاد أكثر هشاشة وضعفاً في مواجهة ضغوط الدول المنتجة، ولا سيَّما روسيا. فلا عجب من لجوء روسيا إلى اصطياد الدول الأوروبية فرادى عبر توقيع كل منها صفقات طويلة المدى مع روسيا. وعلى هذا النحو واستناداً إلى نظرية الاعتماد المتبادل، فإن غياب التماسك والتضامن في سياسة الطاقة الأوروبية المشتركة سيزيد من مستوى حساسية وهشاشة الاعتماد الطاقي الأوروبي تجاه روسيا.

ب – الاعتماد الطاقي الروسي: من الحساسية إلى الهشاشة

تعتمد روسيا بشدة على السوق الطاقية الأوروبية في صادراتها الطاقية. في هذا الصدد، يقول ألكسندر ميدفيديف، نائب رئيس لجنة إدارة شركة غازبروم المدير العام لشركة «غازبروم اكسبورت»، «روسيا هي أكثر اعتماداً حالياً على الاتحاد الأوروبي وليس العكس… فالاتحاد الأوروبي يعتمد على 25 بالمئة من استهلاكه الغاز من روسيا، بينما تعتمد شركة غازبروم على السوق الأوروبية أكثر من 70 بالمئة في عائدات صادراتها.. غازبروم تحتاج إلى أوروبا بقدر ما تحتاج أوروبا إلى الغاز الروسي»‏[22]. وهكذا تغدو روسيا ذات حساسية وقابلية شديدة للعطب لتوريداتها الطاقية نحو أوروبا.

(1) حساسية الاعتماد الطاقي الروسي على سوق الاتحاد الأوروبي الطاقية: تتميز حساسية الاعتماد الطاقي الروسي على السوق الطاقية لدول الاتحاد الأوروبي وفق النقاط التالية‏[23]:

– تعتمد روسيا أكثر فأكثر على عائدات واردات الطاقة، وعلى وجه الخصوص، سوق الطاقة للاتحاد الأوروبي، حيث إن الجزء الأكبر من صادرات الطاقة الروسية (80 بالمئة) يذهب إلى الاتحاد الأوروبي، ويشكل هذا الجزء شطراً كبيراً من إيرادات الدولة الروسية. لذلك، فإن تعطل الإمدادات الروسية نحو الاتحاد الأوروبي سيكون مكلفاً بالنسبة إلى روسيا، وذا آثار فورية.

– يتم تسجيل أعلى معدلات الأسعار المدفوعة كقيمة لصادرات الطاقة الروسية عند المستويات الأوروبية، خاصة دول أوروبا الغربية (500 دولار للألف م3) حيث لا يتم تقديم هذه المستويات من الأسعار في مناطق أخرى، ومن أسواق أخرى محتملة.

– ترتبط روسيا مع دول الاتحاد الأوروبي عبر شبكة أنابيب لا يمكن الاستغناء عنها، كما لا يمكن لشحنات الغاز المسال المنقول بحراً عبر الناقلات، أن تكون بديـلاً حقيقياً من السوق الطاقية الأوروبية.

– تعتمد روسيا على بلدان العبور في وسط وشرق أوروبا، حيث توجد طرق إمدادات الطاقة الرئيسية لنقل إمدادات الطاقة الروسية (أوكرانيا وبيلاروسيا) بما يجعل روسيا تابعة لهذه الأنابيب والمناطق.

والحقيقة أنه يمكن أن تدار تحديات حساسية الاعتماد الروسي بشكل فعال على المدى القصير من خلال ربط روسيا مع السوق الأوروبية بمزيد من العقود الثنائية طويلة الأمد، التي يمكن أن تؤمِّن مستوى صادرات الطاقة نحو أوروبا، كما تحد من فرص فرض عقوبات أوروبية مشتركة على توريدات الطاقة الروسية.

(2) هشاشة الاعتماد الطاقي الروسي على الاتحاد الأوروبي والقابلية الشديدة للعطب: يمكن أن نقيس هشاشة الاعتماد الطاقي الروسي من خلال النظر إلى بدائل صادرات الطاقة نحو السوق الطاقية الأوروبية، وتكاليف تحويلها إلى بدائل ممكنة. بعبارة أخرى، النظر إلى تلك الطرق والمناطق والقطاعات التي يمكنها أن تكون بديـلاً من السوق الطاقية الأوروبية، وما هي تكاليف ذلك البديل‏[24]. وهكذا ينبغي النظر إلى هشاشة الاعتماد الروسي على الاتحاد الأوروبي وفق منظار يضم تهديدات طويلة المدى؛ مثل عدم قدرة روسيا – على المدى الطويل – على القيام بتنويع طرق ومناطق بديلة لإمداداتها الطاقية تجاه أسواقها المتوخاة.

غير أن روسيا – في الحقيقة – تدير مخاطر هشاشة اعتمادها الطاقي على السوق الأوروبية، عبر توليفة من السياسات الطاقية ذات المديين القريب والبعيد؛ وفق النقاط التالية:

– تشخص روسيا نحو السوق الطاقية الآسيوية كبديل عن السوق الطاقية الأوروبية، غير أن كلفة هذا الخيار عالية، إذ سوف تندفع روسيا لبناء شبكة أنابيب جديدة مع الصين والهند وكوريا واليابان بغية ربطها بإمدادات الطاقة الروسية‏[25].

– تعمل روسيا على عرقلة مشاريع الطاقة الأوروبية البديلة من روسيا قصد التقليل من هشاشة الاعتماد الروسي على السوق الطاقية لدول الاتحاد الأوروبي، وذلك عبر تحدي أي محاولات بناء خطوط أنابيب بديلة من دون روسيا، فضـلاً عن زعزعة الاستقرار السياسي والأمني في دول العبور المهمة لأوروبا؛ جورجيا وأوكرانيا مثـلاً.

– تعمل روسيا على تطبيق استراتيجية «فرِّق تسُدْ» بخلق مزيد من الانقسام بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من أجل الحؤول دون وصول هذا الاتحاد إلى سياسة مشتركة؛ تتخذ تدابير غير مواتية لسياسة الطاقة الروسية.

– تعمل روسيا على التقليل من تبعيتها لدول العبور، عبر مشاريع السيل الشمالي والسيل التركي قصد تحسين هشاشة اعتمادها الطاقي على الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل.

– يكمن أكبر خطر قد يواجه روسيا في احتمال عجزها عن تلبية الحاجات الطاقية الأوروبية والآسيوية في الوقت نفسه، بسبب عدم قدرتها على تمويل الاستثمارات اللازمة؛ وبخاصة مع العقوبات الاقتصادية والتكنولوجية المفروضة عليها، وهو ما يعوق عملية تطوير حقول طاقة جديدة، فضـلاً عن صعوبات بناء خطوط أنابيب جديدة ومكلفة. حيث تواجه شركة غازبروم ارتفاعاً حاداً في تكاليف الإنتاج، كما يتوجب عليها تطوير حقول جديدة في طبقات أرضية عميقة في منطقة القطب الشمالي بما يحقق زيادة في الإنتاج تتماشى والأهداف الإنتاجية المرجوة. وهكذا، فإن درجة هشاشة الاعتماد الطاقي الروسي تعتمد أكثر فأكثر على السياسات الرامية إلى حل هذه المسألة‏[26].

ومن نافلة القول أن العلاقات الطاقية الروسية – الأوروبية علاقات اعتماد طاقي متماثل؛ ذلك أن نتيجة إعادة توزيع القوة بين الطرفين، وكذا طبيعة العلاقات الطاقية القائمة، جعلتا الاعتماد الروسي على السوق الطاقية لدول الاتحاد الأوروبي ينتقل من مستوى الاعتماد اللاتماثلي أو اللامتناظر (Asymmetric Interdependence) إلى مستوى الاعتماد المتماثل (Symmetric Interdependence). فقد انخفض مستوى حساسية وهشاشة الاعتماد الروسي مقارنة بالوضع الذي كان سائداً قبل مطلع القرن الحادي والعشرين. وعلى هذا النحو تتمثل العوامل التي أعادت توزيع القوة لصالح روسيا بالنقاط التالية:

– خرجت روسيا – بوصفها أكبر منتج ومصدِّر للطاقة في العالم – أكبر مستفيد من الارتفاع الذي كان حاصـلاً في أسعار الطاقة على امتداد العقد الماضي، في ظل تزايد الطلب العالمي على الطاقة، وهو ما مكّنها من تكوين ثروة مالية مهمة‏[27].

– لقد زادت القوة المالية لروسيا كثيراً في السنوات الماضية من جرّاء ارتفاع أسعار الطاقة، الأمر الذي وضعها في موقف تفاوضي أكثر فائدة مما كانت عليه في السنوات السابقة، حيث سددت روسيا ديونها الخارجية، ونمت احتياطياتها النقدية بما جعلها قادرة نسبياً على الصمود قبالة تلك العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من جراء الأزمة الأوكرانية.

وهناك في الوقت نفسه رأي يقول إن الاتحاد الأوروبي قد أثبت ضعفه كعنصر فاعل في السياسة الخارجية والأمنية المشتركة عدة مرات، حيث ينشأ هذا الضعف من جرّاء تباين مصالح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وهو ما عدل كفة روسيا في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي. وقد اتضح ذلك جلياً في أحداث الحرب الجورجية – الروسية عام 2008، حينما بقيت دول الاتحاد الأوروبي تندد بالسلوك الروسي لا أكثر من ذلك‏[28].

هناك عامـل واحد يمنع روسيا حالياً من أن تتحول إلى فاعل طاقي مهيمن؛ هو ضعف تنويعها أسواق الطاقة في الوقت الحالي؛ إذ لا تزال صادراتها تتركز في السوق الأوروبية نسبة عالية، فضـلاً عن حاجتها إلى بعض التكنولوجيا الغربية الخاصة باستخراج موارد الطاقة العميقة. وستكون عملية إمداد شبكة أنابيب جديدة بعيداً من أوروبا ذات مكلفة عالية لروسيا، كما أنها ستستغرق وقتاً طويـلاً.

هكذا تبين جميع الشواهد أن هناك اعتماداً طاقياً متبادلاً بين روسيا والاتحاد الأوروبي إلى درجات عالية، تجعل أي خلل بين القطبين وفي مختلف المجالات ينعكس تكاليف عالية على كليهما، وهو ما سيسهم في الحفاظ على الوضع القائم على الأقل في المدى القريب.

ج – روسيا وبلدان العبور: بين التبعية وفك الارتباط

تتسم هشاشة الاعتماد الروسي – الأوروبي إذاً بالاعتماد المتماثل بين روسيا ودول أوروبا خاصة الغربية منها. بينما تتسم هشاشة الاعتماد الروسي مع دول أوروبا الشرقية – وهي دول العبور – باعتماد طاقي غير متماثل.

تتمتع روسيا بعلاقات إقليمية مختلفة مع بلدان عبور إمدادات الطاقة الروسية نحو أوروبا؛ حيث يمكن أن نميِّز بين ثلاث مجموعات مهمة؛ تتضمن أولها دولاً مثل أوكرانيا، ومولدافيا، وجورجيا؛ وهي دول لا تمتلك عضوية الاتحاد الأوروبي، غير أنها أكثر تأييداً للغرب، ومعارضة لروسيا في الوقت نفسه. بينما تتضمن المجموعة الثانية دول البلطيق؛ التي تتمتع بكل من عضوية الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي، غير أنها تحتفظ بعلاقات طاقية ملتهبة مع روسيا. بينما تضم المجموعة الثالثة روسيا البيضاء ذات الولاء والتأييد الكبير لروسيا، فضـلاً عن أرمينيا؛ التي تعد الحليف القوي لروسيا في منطقة القوقاز الجنوبية.

يضاف إلى نمط العلاقات السياسية القائمة بين روسيا ودول العبور، اعتماد روسي شديد على هذه الدول في إمدادات الطاقة الروسية نحو الاتحاد الأوروبي؛ حيث كان يمر ما يقارب 80 بالمئة من إمدادات الطاقة الروسية عبر أوكرانيا وحدها، بيد أن هذه النسبة انخفضت إلى مستوى 50 بالمئة بعدما نجحت روسيا في إنشاء أنبوب السيل الشمالي عبر بحر البلطيق نحو ألمانيا مباشرة من دون الحاجة إلى بلدان العبور.

ويمكن – حالياً – القول بأن هناك اعتماداً عالياً بين روسيا وبلدان العبور في أوروبا الوسطى والشرقية. كما يمكن القول إن درجات حساسية الاعتماد بين الجانبين هي درجات قابلة للتمايز؛ فروسيا تعتمد إلى حدٍ كبير على خطوط أنابيب الطاقة الموجودة في بلدان العبور (خط دروشبا الذي يمر عبر أوكرانيا مثـلاً)، بينما تعتمد بلدان العبور هذه على إمدادات الطاقة الروسية قصد تأمين حاجاتها من الطاقة، وعلى الرسوم التي تحصّلها من جراء عبور الطاقة الروسية عبر أراضيها (2 مليار دولار سنوياً لأوكرانيا)، حيث أصبح عبور الطاقة بالنسبة إلى بلدان العبور، وتوريد الغاز الطبيعي بالنسبة إلى روسيا، أداة مهمة في خلق درجات عالية من الاعتماد بين الطرفين. غير أن مستوى هذا الاعتماد لا يمكن إدراجه إلا في خانة هشاشة الاعتماد الطاقي، وليس حساسية الاعتماد الطاقي.

تتمثل هشاشة الاعتماد الطاقي الروسي على بلدان العبور – وتحديداً أوكرانيا – بتوفير هذه البلدان طرقاً وشبكة أنابيب نقل مهمة للطاقة الروسية. غير أنه يمكن لروسيا أن تخفض من هذه الهشاشة على المدى المتوسط بإنشاء طرق إمداد بديلة تتجنب بلدان العبور الحالية؛ بل نجحت روسيا نسبياً في ذلك من خلال إنشائها مشروع السيل الشمالي الأول، ومشروع السيل الشمالي الثاني. وهذا ما سيرفع بدوره مستوى حساسية وهشاشة اعتماد دول العبور على إمدادات الطاقة الروسية، وبخاصة في حال لم تتبع دول العبور استراتيجيات جديدة تحول دون إتمام روسيا لتلك الخطوط الطاقية؛ التي تجتنب بلدان العبور الحالية (مثل فشل روسيا في بناء مشروع السيل الجنوبي). ويحصل هذا سواء بعرقلة تلك المشاريع الجديدة، أو عبر التوجه الجماعي نحو استهلاك الغاز المسال القادم من مناطق غير روسيا (قطر مثـلاً)، وهو ما يجعل هذه الأنابيب الجديدة دون جدوى من بنائها بالنسبة إلى روسيا.

بناء على ما سبق، يمكن القول إن روسيا لا ترتاب من هشاشة اعتمادها الطاقي على دول العبور في أوروبا الشرقية بقدر ما تتوجس من هشاشة اعتمادها على سوق الطاقة في دول أوروبا الغربية، فدول أوروبا الشرقية رغم أنها منطقة مهمة لعبور إمدادات الطاقة الروسية، إلا أن هذه الدول لا تعد مستهلكاً كبيراً للطاقة مثل دول أوروبا الغربية كألمانيا وفرنسا. وعلى هذا النحو فإن تصعيد النزاع مع دول العبور يغدو أمراً وارداً دائماً بالنسبة إلى روسيا، كما أن هذه الدول (دول العبور) لن تتمكن من إحكام قبضتها على روسيا فحسب، إذا قررت اعتراض الإمدادات الروسية، وإنما ستحكم قبضتها على دول أوروبا الغربية المستهلك الكبير للطاقة الروسية، وهو ما يزيد الضغط على دول العبور، ويجعل استفادتها من مزاياها كدولة عبور بلا معنى؛ فضـلاً عن أنه سيجعلها تخسر مكاسب مالية هامة كانت تجنيها نظير الرسوم التي كانت تفرضها على إمدادات الطاقة العابرة لأراضيها. وهو ما يؤدي في النهاية إلى ضعف موقفها التفاوضي تجاه إمدادات الطاقة الروسية‏[29].

علاوة على ذلك، فإن دول العبور قد تجد نفسها خارج اهتمامات الإمدادات الروسية، وذلك حينما تلجأ روسيا إلى زيادة إمداداتها نحو دول أوروبا الغربية؛ بما يمكن أن يقلص من حجم الإمدادات الروسية عن دول أوروبا الشرقية. كما يمكن أن تستخدم روسيا سلاح الطاقة ضد دول العبور حينما تكون قد أنجزت قدراً كافياً من الأنابيب الجديدة التي تتجنبها (السيل التركي مثـلاً) هنا ستمارس روسيا نوعاً من العقاب الجماعي تجاه هذه الدول، ولا سيَّما تجاه أوكرانيا، وبخاصة أن روسيا تعمل منذ فترة للحد من هشاشة اعتمادها على دول العبور وفق النقاط التالية:

– حققت روسيا نجاحاً نسبياً كبيراً من خلال تحكمها في سلسلة الطاقة (الإنتاج، النقل، التوزيع)، عبر ذراعها الأيمن غازبروم في إنتاج الغاز الطبيعي، وذراعها الأيسر روسنفت في إنتاج النفط الروسي. زيادة على شرائها أسهماً كبيرة في ملكية البنية التحتية للطاقة في عدد من بلدان أوروبا الوسطى والشرقية. وذلك حينما نجحت عامي 2004 – 2005 في شراء أسهم شبكة نقل الطاقة في بيلاروسيا، واحتكارها لتوريدات الطاقة في دول آسيا الوسطى.

– تنويع مسارات نقل الطاقة، وعلى وجه الخصوص تلك الطرق التي تتجنب أوكرانيا، حيث بدأت روسيا عام 1999 تخفض تدريجاً كميات الإمدادات عبر أوكرانيا، وذلك حينما قامت ببناء خط يامال نحو أوروبا عبر بيلاروسيا، وكذا خط السيل الأزرق التركي الذي يربط روسيا بتركيا، وخط السيل الشمالي الذي يحوي أنبوبين مهمين من روسيا نحو ألمانيا عبر أسفل بحر البلطيق.

أن العلاقات الطاقية القائمة بين روسيا والاتحاد الأوروبي قبل إعادة توزيع القوة في مطلع القرن العشرين؛ تميزت بحساسية وهشاشة عالية لروسيا تجاه السوق الطاقية للاتحاد الأوروبي وبلدان العبور. بينما تميزت حساسية الاعتماد الطاقي للاتحاد الأوروبي بحساسية عالية وهشاشة منخفضة. كما سجل الاتحاد الأوروبي حينها حساسية وهشاشة عالية تجاه دول العبور.

وتميزت العلاقات الطاقية بين روسيا والاتحاد الأوروبي بعد إعادة توزيع القوة بحساسية وهشاشة عاليتين آخذتين في الانخفاض تدريجياً. بينما يسجل الاتحاد الأوروبي حساسية وهشاشة عالية تجاه إمدادات الطاقة الروسية. كما تسجل روسيا حساسية وهشاشة متوسطة آخذة في الانخفاض تجاه بلدان العبور. بيد أن دول الاتحاد الأوروبي لا تزال تشهد حساسية وهشاشة عالية لإمدادات الطاقة عبر بلدان العبور. وهكذا يمكن القول إن العلاقات الطاقية الروسية تجاه دول أوروبا الغربية هي علاقات اعتماد متماثل، بينما تتميز هذه العلاقة مع دول أوروبا الشرقية بعلاقات اعتماد غير متماثل.

خلاصة واستنتاجات

يستخلص مما سبق أن أمن الطاقة هو أهم القضايا المحورية الرئيسة الحاكمة لمسار العلاقات الروسية – الأوروبية؛ حيث تتميز هذه العلاقات بدرجات عالية من الاعتماد المتبادل بين القطبين، نظير حاجة كل طرف إلى الطرف الآخر في الوقت الراهن. ويستخلص أيضاً أن درجات الاعتماد الطاقي بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي تأخذ مستويات مختلفة من دولة لأخرى؛ وذلك حسب حاجة تلك الدول إلى إمدادات الطاقة الروسية. وهنا يستخلص وجود نمطين من الاعتماد المتبادل، هما: اعتماد متبادل متماثل بين روسيا ودول أوروبا الغربية (تحديداً ألمانيا)، حيث لا يمكن لأي طرف الاستغناء عن الآخر في المدى القريب، فضـلاً عن كونه اعتماداً متبادلاً إيجابياً ينظر من خلاله كل طرف إلى تحقيق منافع متبادلة. ويستخلص أيضاً وجود اعتماد متبادل غير متماثل بين روسيا ودول العبور؛ حيث يتميز هذا الاعتماد بكونه اعتماداً متبادلاً سلبياً يحاول من خلاله كل طرف الهيمنة على الطرف الآخر.

يُستخلص أيضاً أن الحساسية والهشاشة الطاقية لكل طرف تجاه الطرف الآخر، تفرض عليه اعتماد مجموعة من السياسات الرامية إلى تخفيف مستويات هذه الحساسية والهشاشة، بما يمكن أن ينتج موقفاً صراعياً صدامياً بين الطرفين تارة (حروب أنابيب الطاقة)، وموقفاً تعاونياً تارة أخرى (حوار الطاقة). وهو ما يجعل مستقبل العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي يتحدد إلى هذا الحد أو ذاك وفق متغير أمن الطاقة.

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 464 في تشرين الأول/ أكتوبر 2017.

(**) محفوظ رسول: باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر 3.

[1] عاطف معتمد عبد الحميد، استعادة روسيا مكانة القطب الدولي: أزمة الفترة الانتقالية (بيروت: الدار العربية للعلوم – ناشرون، 2009)، ص 45.

[2]Daniel Yergin, «Ensuring Energy Security,» Foreign Affairs, vol. 85, no. 2 (March-April 2006), pp. 69‑82. 

[3]Mikko Palonkorpi, Energy Security and the Regional Security Complex Theory (Helsinki Aleksanteri Institute, University of Helsinki, 2006), pp. 1‑19. 

[4]علي حسين باكير، التنافس الجيواستراتيجي للقوى الكبرى على موارد الطاقة: ديبلوماسية الصين النفطية الأبعاد والانعكاسات (بيروت: دار المنهل اللبناني، 2010)، ص 48. 

[5]عمرو عبد العاطي، أمن الطاقة في السياسة الخارجية الأمريكية (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، ص 45. 

[6]Jack D. Sharples, «Russian Approaches to Energy Security and Climate Change: Russian Gas Exports to the EU,» Environmental Politics, vol. 22, no. 4 (2013), p. 3. 

[7]نورهان الشيخ، سياسة الطاقة الروسية وتأثيره على التوازن الاستراتيجي العالمي (القاهرة: المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية، 2009)، ص 1. 

[8]جمال الدين بن عمير وعمر قيرة، «مقاربة حول الأمن الطاقي الأوروبي: قراءة في الأبعاد الاقتصادية لمكانة الجزائر،» الرائد المغاربي (مركز الرائد بالجزائر)، العدد 1 (حزيران/يونيو 2013)، ص 4 – 26. 

[9]خديجة عرفة محمد، أمن الطاقة، سلسلة مفاهيم؛ العدد 50 (القاهرة: المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية، 2008)، ص 12. 

[10]Robert O. Keohane and Joseph S. Nye, Power and Interdependence, 4th ed. (London: Longman, 2012), p. 7. 

[11]المصدر نفسه، ص 7 – 11. 

[12]Nataliya Esakova, European Energy Security Analysing the EU-Russia Energy Security Regime in Terms of Interdependence Theory (Wiesbaden: Springer VS, 2012), p. 53. 

[13]خديجة عرفة محمد، أمن الطاقة وآثاره الاستراتيجية (الرياض: جامعة نايف للعلوم الأمنية، 2014)، ص 46. 

[14]ممدوح سلامة، أسباب الهبوط الحاد في أسعار النفط: فائض الإنتاج أم السياسة الدولية؟ (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 66. 

[15]U.S. Energy Information Administration, «Country Analysis Brief: Russia,» 25 October 2016, p. 4,  <http://www.iberglobal.com/files/2016‑2/rusia_eia.pdf>.

[16]Eurostat, Statistical Books, Energy, Transport and Environment Indicators (Luxembourg: European Union, 2015), p. 26. 

[17]المصدر نفسه، ص 47. 

[18]محفوظ رسول، «الأزمة الأوكرانية في الميزان الروسي الغربي،» مجلة فكر ومجتمع (الجزائر)، العدد 36 (كانون الثاني/يناير 2016)، ص 47 – 66. 

[19]Ralf Dickel [et al.], Reducing European Dependence on Russian Gas: Distinguishing Natural Gas Security from Geopolitics (Oxford: University of Oxford, Oxford Institute for Energy Studies, 2014), p. 6. 

[20] Eurostat, Statistical Books, Energy, Transport and Environment Indicators.

[21]Esakova, European Energy Security Ana lysing the EU-Russia Energy Security Regime in Terms of Interdependence Theory, p. 172.

[22]المصدر نفسه، ص 175. 

[23]Fillippos Proedrou, «The EU-Russia Energy Approach under the Prism of Interdependence,» European Security, vol. 16, nos. 3‑4 (September-December 2007), pp. 329‑355. 

[24] Esakova, Ibid., p. 176.

[25]يوسف خليفة اليوسف، الاقتصاد السياسي للنفط: رؤية عربية لتطوراته (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2015)، ص 303. 

[26]عماد يوسف قدورة، «روسيا وتركيا: علاقات متطورة وطموحات متنافسة في المنطقة العربية،» سياسات عربية (الدوحة)، العدد 15 (تموز/يوليو 2015)، ص 37 – 46. 

[27]Esakova, European Energy Security Analysing the EU-Russia Energy Security Regime in Terms of Interdependence Theory, p. 180. 

[28]Richard Youngs, Energy Security: Europe’s New Foreign Policy Challenge (London; New York: Routledge Taylor and Francis Group, 2009), p. 89. 

[29] Esakova, Ibid., p. 188.مركز دراسات الوحدة العربية

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

AlphaOmega Captcha Classica  –  Enter Security Code
     
 

Previous post كريستيانو رونالدو يعيش أفضل أيامه مع يوفنتوس
Next post وزير العدل البلجيكي يهدد ترامب بالإفراج عن مقاتلي داعش