ملاك سعيد_كاتبة من اليمن
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_ كان بيت عائلة “شيزو” كتلة من الكتمان المعماري الشحيح، مائلا عن قصد ليبتعد عن الحي وساكنيه، لا بفعل زلزال أو خللٍ هندسي كما قد يظن البعض.أبوابه ونوافذه دائمة الإغلاق، ولا شمس تُرى من نوافذه المغطّاة بكرتونٍ أسود قديم.حتى الجيران – أولئك الفضوليين بطبعهم – توقفوا عن التساؤل: “هل هناك أحد في الداخل؟”، وصاروا يتداولون نكتة: “إذا شممتَ رائحة سمكٍ متعفن، فاعلم أنّ بيت شيزو ما زال مأهولا”.في الداخل، كان يقبع “موروي شيزو”، شاب نحيل في أوائل الثلاثين، بأنفٍ مرتفع نسبيا يضفي عليه غرابة، فلا يُعرف إن كان حفيدا لامرأةٍ صينية أم شبحا عربيا مستوردا من مكان آخر.رغم ملامحه الآسيوية المبهمة، كانت له سمات يلحظها الجميع: اختباؤه خلف الآخرين في المواجهات، ترديد عبارة “كما تريدون” في كل نقاش، مسح عرقه العصبي بِكُم قميصه العتيق المتّسخ عند توجيه أي سؤال له، حتى لو كان عن الوقت!كما يسهُل تمييزه برائحة السمك المتعفن التي تلازمه، وبقميصه الوحيد المهترئ، وحذائه الذي يئن في كل خطوةٍ، ويشكو بصوتٍ مسموع من بقائه القسري في الخدمة، رغم تجاوزه سن التقاعد بخمسة أعوام على الأقل.هذا هو موروي، الذي كان يحيط به:أمه “لاوناي”: سبعينية تعتقد نفسها صبية عشرينية، تطل بملابس صاخبة وخواتم بلاستيكية تلمع كأنها رموز سحر، وتصر على مناداتها بـ”الآنسة” بدلا من “الجدة”.تذرف الدموع كتمساح حين تُنتقد مظاهر تضخمها النرجسي المزمن، الذي لا يشفيه شيء. وحتى مع إدراكها لتجاعيدها الغائرة وبشاعة منظرها وقوامها، إلا أنهالا تكفّ – في نوبات جنون العظمة المتواصلة – عن الحلم بالظهور كعارضة أزياء عالمية.وكانت تلازمها أمنية واحدة: ارتداء فستان أحمر مع حذاء رياضي زهري. لكن كل شيء يتطلب مالا، وهي لا تنفق حتى أنفاسها بسهولة.“وانغ شيزو”: أخ يُغيّر لهجته حسب محفظة مُحدّثه، مستعد لبيع أمه (الشمطاء المتصابية) في سوق المستعمل مقابل كوب شاي.لازمته المفضلة: “نحن أهل الحسب والنسب”، بينما يسرق أوراق التواليت وقطع الصابون من الحمامات العامة.يذكر في كل مناسبة أن جدّه كان “مسؤولا رفيعا” (والحقيقة أنه كان عميلا مخلصا للاستعمار).“لين شياو فن”: خال في الستينات، يُخفي عينيه وراء نظارات ضخمة كأنها حاجز ضد عالم الرجال.يتحدث بتلعثمٍ وصوتٍ رخو، وينهي كلامه عادة بضحكة خفيفة مبتورة لا تدري أهي ضحكة أنثى أم ذكر تخلّى عن الرجولة.وفي ظهيرة تشبه المساء، جلس أفراد هذه العائلة حول طاولة غير مستوية بسبب علبة سردين فارغة تدعم أحد زواياها.وضع في منتصفها وعاء حساء شفاف، يمكنك رؤية قاعه بوضوح، وعلى سطحه طفت قطعة سمك هزيلة كأنها تسبح محاولة الهرب من ذلك المكان الموبوء بالبخل والتعالي.السمكة التعيسة نفسها تُستخدم في كل مرة، ثم تُعاد إلى ثلاجة لا تزورها الكهرباء إلا ساعة واحدة كل أربعٍ وعشرين ساعة، بينما يكون حساء اليوم التالي في انتظارها لتضفي له نكهة السمك الميت من جديد.(طقوس الطهي في ذلك البيت تنتمي إلى فن الاقتصاد الكئيب، لا فن الطهو المذهل).قال الأخ ساخرا، وهو يقلب ملعقته في الحساء كمن ينقّب عن ذهب:“أقسم أن هذه السمكة كانت معنا منذ القرن الماضي… هل يُعقل أن يُحنط السمك؟”أجاب الخال بجدية ناعمة وهو ينفخ على ملعقته رغم برودة الحساء:“هي ليست سمكة، إنها بركة العائلة. تُبارك الوجبات، وتطيل عمر الثلاجة”.صاحت الأم وهي تضع طبقة جديدة من أحمر الشفاه:“من يعرف؟ قد نبيع وصفة الحساء ونصبح ملوكا”.موروي، كما العادة كان صامتا. يأكل ببطء، وينظر إلى الوعاء كأنه روزنامة سجين.يعلم أن الحديث عن الأكل سيقود إلى الحديث عن المال، والمال إلى الحديث عن الشح، والشح إلى تلك النظرة الحارقة من أمه الحيزبون:“ماذا فعلتَ بوقتك اليوم؟ هل أضعتَ فرصة لتوفير المال؟”.كانوا يتعاملون مع النقود كغازٍ سام: يخزنونه، يمنعون تسربه.كل شيء عندهم يُستخدم حتى الانهيار: الأثاث، الملابس، حتى الكلمات والعلاقات الاجتماعية.كان هناك هاتف أرضي متهالك، منسيٌّ في أحد الأركان ككل القيم النبيلة في ذلك البيت الضنين، وقد رنّ مرة قبل عام، ولم يُجِب أحد.قالت الأم حينها بتعجرفٍ لا يُطاق:“أظنها مجلة نسائية شهيرة تريد وضع صورتي على الغلاف… وأنا لا أرغب في ذلك”.لم يقلقوا من كونها ربما مكالمة من القدر لسداد فاتورة روحية متأخرة.لكن منذ ذلك اليوم، لم ينم الأخ جيدا.يخشى أن تكون من أحفاد المناضلين الذين وشى بهم جدّه أيام الاستعمار.وهكذا، ظل بيت آل “شيزو” محافظا على زهده غير الديني، تحفظ حيطانه صدى النقود وهي تُعد، لا وهي تُصرف.الصرف يُعد خيانة، والبخل ديانة متوارثة وهواء يُتنفَّس.ومجرد ذكر كلمة “الإسراف” يُعتبر جريمة أخلاقية لا تُغتفر.كما أخذوا تعهدا خطيا من الماء ألا يشربه غريب، وأن يُعاد غليه حتى يتبخر احترامه.تمرّ عليهم الأيام، كل يوم يشبه الآخر: رتيب، بخيل، كأن الزمن قرر ألا يُنفق عليهم لحظة تغيير.لكن في تلك الظهيرة، بعد غداء السمك المجمد عاطفيا، قالت الأم بصوت مبحوح وهي تتحسس وجهها المتشقق:“تبا لقناع الطين والكركم، لقد أفسدا بشرتي الغضة الجميلة”.لم يرد الابنان. يعلمان أن الجملة التالية ستكون عن المال. وكانت كذلك.ضحك الخال، الذي كان جالسا يُلمع أظافره بقطعة قطن عليها أثر صبغة شعر شقراء، وقال:“لكن أسعار مساحيق التجميل مُبالغ فيها. حتى الشمس نفسها لو أرادت العناية بوجهها، لطلبت قرضا”.انطلقت ضحكة الأم، حادة كالسكاكين، قبل أن تتحول إلى سُعال جاف،ثم وقفت العجوز بغتة وعيناها تشعان بفكرة مجنونة (في قاموسهم، تعني: خطة اقتصادية عبقرية)، وقالت ببطء ثقيل، مشيرة إلى السقف:“لِمَ لا يتزوج موروي بالشمس؟”.صمت الجميع للحظات.نظر إليها الأخ وانغ وقال باهتمام بالغ:“نعم… وسنطلب مهرها طاقة شمسية، ونبيعها بالجملة”.ثم أضاف:“الشمس ساذجة. تحترق من أجل الآخرين دون مقابل. مثالية جدا لكي تستغلها عائلتنا العريقة”.قال الخال وهو يصفف شعره بسبابته المبلولة بلعابه:“أظن أن الشمس بحاجة إلى من يُجيد استغلال الشعاع، مثلك يا موروي، يا ابن أختي العزيزة”.حدّق موروي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_
