د. مجدي صالح _رئيس الاتحاد العالمي للمثقفين العرب _السويد
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_في رحلة سياحية إلى بلد من العالم الثالث، شهدت موقفًا لا يزال محفورًا في ذاكرتي، جعلني أُعيد التفكير في مفهوم الإنسانية. كانت رحلة هادئة، هدوءًا يخترقه فقط صوت محرك السيارة. في المقعد الخلفي، جلست عائلة: أب خمسيني، وابنته الشابة، وطفل صغير في العاشرة. مرّ الوقت بلا أحداث تُذكر، إلى أن بدأت ألمح تذمر الأب، يهمس لابنته ثم يرتفع صوته بغضب متصاعد. فجأة، أمر السائق بالتوقف. فتح الباب وصرخ في وجه الطفل، الذي بدا للوهلة الأولى لا يختلف عن أي طفل آخر، ليترجل.
من طريقة نزول الطفل، أدركت أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة. أشار الأب بعصبية لابنته أن تتولى أمره. بخوف وارتباك أمسكت به وفتحت سرواله، وطلبت منه التبول أمام أعيننا. شعرت وكأن حجرًا تدحرج نحو حنجرتي. تجمدت مكاني، ولم أعد قادرًا على استيعاب ما يجري. حاول الطفل أن يقضي حاجته، وهو يحرك رأسه يمنة ويسرة، يعلم أن لا خصوصية له، لكنه فشل. اشتط الأب غضبًا، وانهالت عليه الشتائم، يلعن اليوم الذي وُلد فيه. نظر الطفل إلى والده بصمت، وفي عينيه قرأت جملة لم تُقال: “من منا حقا يستحق الرحمة؟! أنتم المعاقون إنسانيًا”.
لم يجرؤ أحد على التدخل، فالقانون في هذا البلد يفسره العُرف القبلي: الطفل ملك أبيه. لكن السائق كسر هذا الصمت بحدة، ضرب مقود السيارة بيده، ثم صرخ:
– لماذا لم تخبرني بحاجة ابنك للحمام؟ ألا تخجل وأنت تأمره بالتبول أمام الناس؟!
رد الأب بغضب:
– هو يستطيع فعلها! هذا الطفل أتعبني!
في مشهد صادم، سحبت الأخت أخاها وجرته خلفها نحو خلف السيارة لعله يستطيع أن يتبول، تبعها بخطوات متعثرة، وكأنه ينسحب من العالم. حينها، ترجل السائق من السيارة، وأخذ الطفل إلى الجهة المقابلة، حيث يعلم بوجود حمام عمومي.
صرخت في وجه الأب الذي لم يغادر مقعده قط:
– ابنك لطيف ويستحق الإحسان!
رد الأب بحدة:
– أنا بار به وأبذل جهدًا لعلاجه، هذا الطفل أتعبني جدًا.
أجبته بهدوء:
– لو كانت هناك خدمات اجتماعية، لأخذوا ابنك منك.
صرخ في وجهي:
– هكذا أنتم المتعلمون، تنظرون لكل شيء مخالف. أنتم سبب البلاء.
توقفت عن الجدال، فقد أدركت أنه محصن بجهله، وأن أي نقاش لن يجدي نفعًا. وفي ذهني، تبادر مشهد آخر مألوف لي في السويد، حافلة تنحني على الرصيف، بابها يفتح ليستقبل طفلاً على كرسي متحرك، يرفعه موظف تمريض حكومي بحرص ويثبته باحترام لينقله إلى المدرسة. تذكرت ذلك الكرسي المليء بالأجهزة التي تمكّن الطفل من السماع والتعبير عما في صدره ويشارك في الفصل. أدركت حينها أن الإعاقة ليست في الجسد، بل في الفكر. هم الأنقياء، من لا يقودون حروبًا ولا يغتصبون، ولا يتآمرون، ولا يلوثون البيئة. هناك من الأصحاء من يحتاج حقًا إلى الشفاء.
عاد السائق بعد دقائق، ثم خرج الطفل بابتسامة صافية موجهة له. شعرت أن الطفل لو خُيّر، لما اختار الشفاء من إعاقته، بل لاختار السائق أبًا بديلًا.
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_
