
دكتورة نجلاء الخضراء
إلى المهاجرين والمهاجرات والمسافرين والمسافرات، إلى من فرقته الغربة وجال
يبحث عن نفسه في عالم غريب، إلى من هجّر قصراً عن أرضه ووطنه، إلى من
أرغمته دنياه على العيش بعيداً مع أبنائه وأحلامه ونجاحاته.
أرسل لك رسالة من أعماق القلب بلغة الأرض والشجر، وقصيدة جمعت بحور النغم،
ولوحة لونت بضوء الصباح وغسق عكر المقل وعتمة المجرات بأفلاكها وما فيها من
بريق العيون.
اعتاد أجدانا العرب عند التعريف بشخص ذكر اسمه مع اسم أبيه وأجداده بالتسلسل،
لينتهي التعريف بالكنية وهو اسم المكان أو القرية أو البلدة التي ينتمي إليها كالسوداني
والمصري والشامي و المقدسيي…، أومهنة امتهنتها العائلة كالحبال والسقى
والحلاق…، أو صفة اتصف بها معظم أفراد العائلة كالطويل والقصير والأسمر
والأشقر…أو لقب عرف به أحد الأجداد فلحق بالأبناء.
كان لهذا التسلسل أهمية كبيرة في الثقافة العربية والإسلامية، وكان له علم قائم
بعلمائه وأبحاثه ومخطوطاته وكتبه والمهتمين به هو علم الأنساب الذي يبحث في
نسب الانسان وأصوله وانتمائه.
تتعدد انتماءات الانسان وتتراكم بتراكم معارفه وخبراته وتجاربه وتفاعله على
الأرض فهناك علاقة طردية بين التاريخ والتجارب من جهة وبين تعدد الانتماءات
من جهة أخرى.
لهذا يعتز العربي ويفتخر بأصالته وتاريخه وأجداده ومنجزاتهم وحمل خبراتهم
ليتميز بها ويزيد عليها ويتركها لأبنائه ورث يتناقلوه عبر الأجيال ، فهو ينتمي لأسرة
وعائلة وحمولة وقبيلة وقرية وبلدة ودولة ووطن عربي وعقيدة وحضارة وطائفة
ومذهب وفصيل ومؤسسة و…. الخ، ونجده بفطرته يحترم انتماءه ويقدره ويعمل
لأجله. مهما قصر عمره أوقل عدد الأفراد فيه.
سبّب هذا التعدد صدمة للعدو، وحالة من التشويش الذهني في محاولاته للسيطرة على
أي بقعة من بقاع الوطن العربي، وأعاق من قدرة تدخله في الحياة الثقافية للإنسان
العربي وقيّض من قوة تأثيره على المجتمع بسبب كثرة الأبواب التي تصدُّ بوجهه
كجبهات حماية ودفاع ضدّ محاولات سيطرته بأنواعها، سواء كانت سياسية أو
اقتصادية أو عسكرية.
ناهيك على أنه وجد في الدين الإسلامي جبهة حديدية تدخل في مناحي الحياة كلها
مهما صغرت وقلت أهميتها. كما وجد في العروبة قلعة ممانعة بسبب كثافة الثقافات
المكونة لها والحضارات التي حطّت على أرضها ومساهمتها بأحداث تعود لآلاف
السنين قبل الميلاد واستمرارها إلى اليوم.
لهذا باءت محاولات الاحتلال السابقة بالفشل على مر التاريخ فعندما دخل اليونان
لفرض حضارتهم على الأرض العربية خرجوا يحملون معهم حضارة هنلستية، وقدم
الرومان بحضارتهم التي استطاعت أن تربط أنحاء العالم بعاصمتهم روما، لتتحول
حضارتهم إلى حضارة بيزنطية على الأرض العربية، وحمل كل من جاء بأساطيله
وعرباته العسكرية الكثير من العادات والتقاليد العربية، و تأثرت لغتهم فدخلت
الكلمات العربية فيها، بالرغم من محاربتهم لها ومنع أهلها من استخدامها، لكنها لغة
القرآن، الذي تعهد الله بحفظه، (إنا له لحافظون)
وبعد حملات الاستشراق والدراسات الاثنوغرافية والأنثروبولوجي، توصّل
الاستعمار الحديث إلى أن التحكم بهذا الموقع الجغرافي الهام وما يملك من موارد
طبيعية وسكانه والانتصار عليه، لن يكون إلا بتقويض تلك الانتماءات وتقليصها؛ عن
طريق بثّ الأفكار الايجابية المناسبة لمخططاته ودس السم بين السطور، من تلك
الأفكار: أن الانسان لا يكون إلا بعمله وجهده وما يقدمه لمجتمعه، وأن النسب
والتاريخ مجرد ذاكرة شعبية غير جديرة بالاحترام، وأنه على الانسان بناء شخصيته
الخاصة به بعيدا عن آبائه وأجداده، وأنه من الضروري للسير إلى الأمام نبذ الماضي
واللحاق بالحداثة والتطوير، فالتمسك بالماضي ليس إلا جريا في المكان، وأن الوطن
هو حيث يعيش الانسان ويجد مأواه الآمن ومأكله ومشربه، وأن الحديث عن الوطن
والتاريخ والاعتزاز والفخر بهما لا يخرج عن سياسة القطيع وترديد للأصوات
والشعارات دون فهمها، وأن الوطن الذي لا يجلب لصاحبه العيش الرغيد والمسكن
الخاص لا يستحق الدفاع عنه، وأنه من الغباء أن تضحي بنفسك ليعيش أطفالك
مشردين ومن العار أن تترك زوجتك فريسة للكلاب من بعدك، وأن الوطن حيث
تتوفر مقومات الحياة لا مسببات الموت. وأن الانتماء كذبة اخترعها الساسة لتموت
من أجلهم، وأنه لايوجد موت من أجل وطن وأن الوطن لا يخسر أبدا وانت الخاسر
دوما، ويقنعونك بأن الفقراء فقط هم من يدافعون عن الوطن في الحروب والمعارك
وفي نهاية الحرب يتقاسم الأغنياء الغنائم.
هو حوار عقل يشعر بالراحة والأمان ويناسب النفس الإنسانية وطموحاتها وأحلامها
لكنه يدس سما غير مباشر تظهر أعراضه مستقبلا، بظهور أفراد مشوهين مغربين،
أضاعوا ماضيهم، فتشابهت أيامهم وانتهت بانتهاء أنفاسهم.
هكذا يصبح الانسان العربي كطير قصّت أجنحته وجرد من أدوات دفاعه، بعيداً عن
وطنه ومجتمعه وأرض تحدث بلغتها، وفهم من خلالها معتقده ودينه وحفظ كتابه
وقرآنه. ولاتمام الوصفة سلطوا الضوء على نظرية المؤامرة وقاموا بنفيها، واعتبارها
نظرية لتعليق الأخطاء وحجة من لا يعمل، ووهم لمن لم يرتقِ ولم يلحق بركب
الحضارات. ليتحول الانسان العربي لآلة تعمل لمصالح معينة مقابل المأكل
والمشرب والمكان الآمن. وهذا ما يجب أن يطلق عليه سياسة القطيع حيث الراعي
والماء والكلأ والمعلف والبائكة.
عمل العدو عند احتلاله لفلسطين على تهجير أهلها لقطع ارتباطهم بها ومنعهم من
التفاعل معها وممارسة عاداتهم وتقاليدهم عليها، ووزعهم على الدول المجاورة ثم إلى
أنحاء المعمورة، ليتفاجأ بانتساب الفلسطيني اللاجئ إلى أرضه الجديدة وتفاعله معها،
فأعطاها بحب وقدم لها ابداعاته، فأعطته من خيراتها وبادلته العطاء، دون أن يلغي
انتسابه وانتماءه لتاريخه وأرضه وأصوله، بل قام بنشر معتقده وقضيته وعمّم
روايته، ما زاد من انتماءاته ليزيد من حيرة عدوه فيه ويفقده السيطرة على أرض
احتلها وعاش عليها لكنه لم يتعلم التفاعل معها، ويمنعه من سرقة ثقافة عربية إسلامية
لا تناسبه، فباءت مخططاته –العدو- بالفشل، وثبت عكس دراساته الاستعمارية
ونظرياته التي اقام دولته على أساسها كنظرية أرض بلا شعب ومبدأ الكبار سيموتون
والصغار سينسون، لهذا يقوم بالتنكيل بالشعب الفلسطيني على الأرض المحتلة
والضغط عليه، ويمعن في اجرامه وعمليات الإبادة وتدمير وتجريف ما يتعلق
بتاريخه ويثبت ملكيته وأحقيته في أرضه، ومحو التقاطع بين الأرض وأصحابها
وتمايزهم لأجلها، ويتعمد قتل الأطفال وهدم معاملهم أي قتل الأطفال مع أمهاتهم، في
عملية انتقامية، تصبّ حقده على أصحاب الأرض ،وتدل على خلل في تقيمه
لمخططاته، وفهمه لطبيعة أرض أرادها له فنبذته بما فيها من مياه وهواء وتراب.