
صفوح صادق
حين بللتُ حنجرتي بتراب القصائد
نزف الوطن من حافة نَسْيهِ
كأنه خارطة مهجورة،
تطويها الرياحُ في كتب المدارس المنسية.
أطلقتُ حروفي كحمامٍ مسموم
يحلق فوق المنابر،
ينعقُ باسمي القديم،
ويُسقطُ راياتٍ كانت تُغني.
كنا نكتب أسماءنا على جذوع الزيتون،
نحسبها خنادق،
فإذا بها مقابرٌ مؤقتة،
تؤجل سقوطنا لشتاءٍ آخر.
الوطن؟
ذاك المنديل الذي لوّحنا به للجنود العائدين،
فاكتشفنا أنه كان كفنًا مبتلاً
بنشيدٍ لم يُغنَّ كاملًا.
كأنّ الخرائط محض خدعة،
نرتق بها جراح اللغة،
ونعلّق على حدودها
خيباتنا المنقوشة بخط النسخ.
طفلٌ كان يرسم ساريةً بعلبة تلوين،
كبُر… فصار الظلُّ سلاحَه،
والعَلَمُ وشاحًا للغربة.
صرختُ كثيرًا في أفواه التماثيل،
لم يسمعني إلا صدى
يرتدي بزّةً عسكرية،
ويوقّع صمته بالحبر الأحمر.
هل فقدنا الوطن، أم فقدنا أنفسنا؟
من منا ارتكب الآخر؟
أكُنّا المنفى الذي أنجب الخراب،
أم خرائب أجهضت فكرة الوطن؟
وحين سقطت آخر طلقةٍ من فم القصيدة،
ابتسمتُ،
وأدركت أن الشعر
هو آخر الخنادق،
وأن الكلمات وحدها
تحملنا على أكتافها
حين يسقط الوطن.
كلماتي المبللة بالسهر والتبغ
أهدتني قبل شهقة الفجر
قلادة كرز بطعم الوطن
فمضغت حباتها
وغفوت على وسادة اللقاء
وما إن تنفّستْ النافذةُ تنهيدتها،
حتى رأيتُ خريطةً
تذوب في كأس الشاي،
وطنٌ صغيرٌ
يطفو كرقعة شطرنج
ضاعت فيها كل الجيوش.
كنتُ أفتّش عن وجهه
في المرايا،
في دخان السيجارة الرابعة،
في ارتعاش الملاعق داخل أكواب الكلام البارد…
لكنّه كان يمشي
بلا ملامح،
كأن الحنين ارتدى قناعًا.
المنفى؟
ليس جواز سفرٍ بل رائحة،
رائحة نبتت في رئتي
حين فتحتُ أول دفتر،
وقرأت اسم “القدس”
مطبوعًا بخطٍ مائل
كأنها اعتذارٌ لغويّ.
الحب؟
قميصٌ خفيفٌ
لا يليق بشتاءات الخراب،
كنت أرتديه كلما تشققت البلاد،
وأنزعه
حين تفيض نشرات الأخبار بالأنين.
وها أنا،
أكتب بيدٍ مقطوعة من ضوء،
أغني لأجل قصيدةٍ لا تحفظ اسمها،
وأقول للأرض:
سامحيني،
لم أكن نبيًّا
ولا قاتلاً،
كنت فقط…
طفلًا يفتش عن مكانٍ يسند فيه اسمه.
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_