هذا الصادق الذي غاب..!

سالم الهنداوي

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_ في بيروت صيف 1993 وأنا داخل ممر مؤسسة “الكفاح العربي” برفقة الكاتب عبدالأمير عبدالله والشاعر حسين نصرالله، ناداني من الخلف صوتٌ متلهّف: “يا سالم يا سالم، الصادق يا سالم” فإذا به الكاتب “فاروق البقيلي” يضمّني إلى صدره ويجهش بكلمات حائرة يسألني عن “الصادق” الذي كان دخل المشفى في جنيف.. نما لعلمه وعلمي نبأ مرض الصادق ولم نتخيّل أن يتوعّك من مرض ذلك البشوش اليافع المرح حين كان يُقبل علينا من بعيد رشيق الخُطى مميّزاً دون المارّة على رصيف شارع الحمرا إلى “الويمبي” حيث نجلس ويأخذ موقعه بيننا وهو يلتفت بخفة ويبتسم فيبهجنا بواقعة طريفة وأخرى ويسترسل في الحديث بأنفاس سيجارة يعتني بملامستها طويلاً وبصحبتها لفنجان القهوة.

    من فورنا حاولنا الاتصال به وبزوجته السيدة “يوديت حنّا” وبـ”إبراهيم الكوني” وترك رسالة صوتية له، كما حاولتُ الاتصال بصديقنا يوسف الدبري في طرابلس، ولا فائدة، وحين علمنا بعودة “رياض الريّس” من لندن اتصلنا به في مكتبه لأكون عنده بعد نصف ساعة، وكانت أخبار الصادق جيّدة وأنها مُجرّد وعكة عارضة وهو باقٍ في جنيف يجري فحوصات دقيقة وسيتماثل للشفاء.. وكان تطمين الريّس مبشّراً لي ولفاروق الذي لم يفارقه القلق على صحّة الصادق، حتى أني سألته إذا كان يعرف شيئاً ويخفيه عنّي، أو أن الصادق قد أخبره شيئاً عن مرضه، لكن إحساس البقيلي يظلُّ يقيناً وهو الذي جاور النيهوم ورافقه طويلاً في “دار التراث” في بيروت.   

   افترقنا من جديد وغادرتُ بيروت إلى دمشق ثم العودة إلى نيقوسيا والاتصالات مستمرة وحالة الصادق غير مستقرة، وبعودتي إلى ليبيا كان “يوسف الدبري” يسافر إليه ويتابع حالته التي ساءت كثيراً ليدخل الصادق غرفة العناية بعد أن فتك به سرطان الرئة، ويُصبح الاتصال به صعباً سوى مع رفيقته “يوديت حنّا” التي لم تفارقه، ومع الكوني والدبري اللذين يطلّان عليه باستمرار، والاتصال الأخير كان مع أخيه إبراهيم الذي أبلغني بسوء حالة الصادق الذي أصبح يشحذ الهواء دفعة واحدة من أجل أن يقول بضع كلمات للتطمين والسلام..!

    في فبراير 1994 كنتُ بجوار غرفة الصادق المُعتادة بالدور الرابع في الفندق الكبير بطرابلس، كان نهاية الممر حينها بارداً وكئيباً بدون حيوية الصادق ودخوله الرشيق في كُل مرة والبهجة التي يصيبنا بها في ترحابه وجلوسه وحيوية نقاشه، حتى أننا كُنّا نقطع التزاماتنا لنستمتع أكثر بأحاديثه الشيّقة في كل شئ، وفي آخر لقاء بيننا عام 1993 طلب منّي أن لا أنقطع عن الكتابة في “الناقد” فحمّلته مقالاً كان جاهزاً ليبعثه لرياض من جنيف وقلتُ له “تستاهلها أهو قعدت ساعي بريد”  فردّ مبتسماً وهو يتأمّل المظروف قائلاً “ذكّرتني برسائل زمان والتهميش الذي نضعه أسفل المظروف نشكر فيه ساعي البريد”.. كُنّا قبل اختراع النت نستخدم الفاكس أو البريد السريع، لكن كان الصادق أسرع من الاثنين معاً وكان مقاله ومقالي يتجاوران في العدد التالي مباشرة.

    غادر الصديق النبيل وترك المكان بارداً سوى من الذكريات الدافئة، ليأتني من بعيد صوت يوسف الدبري يصعقني بنبأ وفاة الصادق وأنه وإبراهيم الكوني في الطريق إلى بنغازي بالجثمان..! 

   مشينا نفراً في جنازته إلى مقبرة “الهواري” وكانت دموعنا تسّاقط كما المطر في ذلك اليوم الغائم، وفي المساء في السرادق الصغير للعزاء بسوق “الحشيش” جلستُ بجوار عمّي رجب والد الصادق الذي كان حزيناً على فقد من كان يحبّه ويصارحه ويمزح معه، فيما كان أخويه عبدالرحيم وإبراهيم ساهميْن في الفراغ على صوت الصادق الذي ابتعد عن بنغازي وإن رقد جسده أخيراً في حضنها، وعلى يميني كان يحلس خليفة الفاخري يسأل يوسف الدبري عن اللحظات الأخيرة في حياة الصادق. 

   بعد أيام هاتفني رياض الريّس يطلب مقالاً عن الصادق في العدد الخاص لمجلة “الناقد” فكتبتُ “العائد إلى بنغازي” وليكون هو العدد الأخير من المجلّة التي انتشرت بريادة النيهوم وتوقّفت برحيله عنها وعن الدنيا التي ملأها بأسئلة الفكر والتنوير والحداثة.

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post هذا العام كان الأكثر رطوبة في بلجيكا 
Next post المدخنين في بلجيكا العام المقبل