أسماء الصفتي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_يشكّل نموذج (سبايكنج برين 1.0) SpikingBrain 1.0 منعطفاً جديداً في مسار تطور الذكاء الاصطناعي في الصين، إذ يعكس التوجه نحو بناء أنظمة ذكاء اصطناعي تحاكي طريقة تفكير الإنسان. ويقوم هذا النموذج على معالجة عصبية مستوحاة من الإشارات الكهربائية في الخلايا العصبية، ما يمنحه سرعة استثنائية تتجاوز النماذج التقليدية بأكثر من مائة مرة مع كفاءة أعلى في استهلاك الطاقة. والأهمية الحقيقية للنموذج لا تكمن فقط في قدراته التقنية، بل لأنه يعتمد على رقاقات محلية بالكامل، وذلك ضمن مساعي بكين لتقليص اعتمادها على المنظومات الغربية في ظل تصاعد القيود المفروضة على تصدير الشرائح المتقدمة إليها.
أهداف صينية
كشفت الصين عن هذا النموذج الفريد من نوعه خلال شهر سبتمبر 2025، وتهدف من خلاله لتحقيق عدد من الأهداف التي تتمثل فيما يلي:
1- تعزيز الاستقلال التكنولوجي الصيني: تم تطوير النموذج اللغوي الصيني (SpikingBrain 1.0) بواسطة فريق يقوده “لي قوهتشي” و”شو بو” في معهد الأتمتة التابع للأكاديمية الصينية للعلوم. وقد تمّ تدريب النموذج باستخدام مئات من وحدات معالجة الرسومات (GPUs) التي وفرتها شركة MetaX لصناعة الشرائح ومقرها شنغهاي، وهو ما يعني قدرة الصين على تطوير نموذج بمكونات محلية بعيداً عن منتجات شركة (Nvidia) الأمريكية التي حظرت واشنطن وشركاؤها وصول منتجاتها إلى بكين، وقررت الصين استبدال منتجات الشركة كخطة تحوط استراتيجية للبلاد في أعقاب ذلك، بالرغم من رفع إدارة الرئيس “ترامب” لاحقاً لهذا الحظر.
2- تخفيض التكلفة التشغيلية وزيادة الكفاءة: خلافاً للنماذج اللغوية الضخمة القائمة على بنية المحول (Transformer) مثل (ChatGPT)، فإن النموذج الصيني (SpikingBrain 1.0) لا يحتاج إلى القيام بعمليات حسابية ضخمة، لكونه يعتمد على تقنية جديدة تحاكي عمل الدماغ البشري، والتي تعرف باسم الشبكات العصبية النبضية (Spiking Neural Networks)، وهي شبكات عصبية تُحاكي الدماغ البشري، حيث لا تعتمد استجابتها للأوامر على تفعيل الشبكة بأكملها في وقت واحد، بل تُنشّط فقط الخلايا العصبية (الوحدات الحسابية) عند الحاجة، تماماً كما يفعل الدماغ البشري. فهذا النموذج يمتلك شبكات عصبية مختلفة بعضها مسؤول عن حساب الأرقام، وأخرى عن كتابة الأكواد، وذلك على غرار طريقة عمل الشبكات العصبية البيولوجية للدماغ البشري.
3- تحقيق تفوق نوعي على النماذج الغربية: سلط تقرير صادر عن الشبكة الصينية الناطقة باللغة الإنجليزية (CGTN) الضوء على النموذج الصيني الجديد، الذي اعتبرته قفزة نوعية في تقنيات الذكاء الاصطناعي. وتتمثل أهمية هذا النموذج -كما تم الذكر سابقاً- في كونه يعتمد على تقنية الشبكات العصبية النبضية (Spiking Neural Networks)، بدلاً من آليات الانتباه الكثيفة، والتي تسمح بتدريب النموذج على مجموعات بيانات أصغر بكثير، وباستخدام نحو 2% فقط من بيانات ما قبل التدريب التي تستهلكها النماذج الضخمة التقليدية. وهو ما يُمكّن النموذج من القيام بعمليات حسابية سريعة ومتناثرة. فعلى سبيل المثال، ذكر تقرير صادر عن (yicaiglobal ) أنه عند معالجة إدخال يحتوي على مليون رمز (token)، فإن أحد إصدارات (SpikingBrain) قد تمكن من توليد أول رمز مخرَج أسرع بنحو 27 مرة من النموذج التقليدي. بينما أكد تقرير (CGTN) أنه يمكن للنموذج الصيني معالجة المهام الطويلة بسرعة تفوق النماذج التقليدية بـ100 مرة.
4- ترسيخ موقع الصين في مجال الذكاء الاصطناعي العصبي (Neuromorphic AI): يُعد الذكاء الاصطناعي العصبي (Neuromorphic AI) فرعاً من الذكاء الاصطناعي الذي يعمل على تقليد طريقة عمل الدماغ البشري في معالجة المعلومات. وقد ظهر هذا الفرع في أوائل الثمانينيات بالولايات المتحدة الأمريكية، وأخذت الشركات التكنولوجية الأمريكية في تطبيقات أطروحات هذا الفرع في تصنيع عدد من شرائحها الإلكترونية. وقد أوضح تقرير صادر عن مؤسسة (Research and Markets)، والذي جاء تحت عنوان “التقنيات الإلكترونية المتقدمة للذكاء الاصطناعي 2026-2036″، أن الصين قد أصبحت واحدة من أهم القوى الصاعدة في مجال الذكاء الاصطناعي العصبي، وذلك في أعقاب كشف (معهد الأتمتة التابع للأكاديمية الصينية للعلوم) عن أول نموذج في العالم يُشبه الدماغ البشري. وقد أكد التقرير أن هذا التطور يُمثل خطوة استراتيجية نحو الاستقلال التكنولوجي الصيني، كما يعزز قدرة الصين على تطوير ذكاء اصطناعي أقرب إلى التفكير البشري الحقيقي.
5- امتلاك تكنولوجيا ذكاء اصطناعي مستدامة وصديقة للبيئة: يمثل استهلاك الطاقة أحد أكبر تحديات صناعة الذكاء الاصطناعي، إذ يتطلب تدريب نموذج ضخم مئات الميجاوات من الكهرباء. أما SpikingBrain 1.0 فيتميز بتصميم موفر للطاقة لأنه يفعّل فقط الأجزاء المطلوبة من الشبكة، مما يؤدي إلى تقليل استهلاك الكهرباء أثناء التدريب والتشغيل، وخفض الحاجة إلى التبريد في مراكز البيانات، وتقليص البصمة الكربونية، وبذلك يمكن أن يُسهم هذا النوع من النماذج في جعل الذكاء الاصطناعي أكثر توافقاً مع الأهداف المناخية العالمية.
6- سعي الصين إلى قيادة التحولات التكنولوجية الجديدة: أكد تقرير مؤسسة (Research and Markets)، الذي يرصد التحولات التكنولوجية المتوقعة للفترة ما بين 2026 و2036، أن العالم يتجه نحو نقطة تحول حاسمة في الذكاء الاصطناعي، إذ أصبحت المعالجات التقليدية غير قادرة على تلبية المتطلبات الجديدة، وذلك على غرار التدريب الضخم للنماذج اللغوية الكبيرة، وتحليل البيانات الفورية للأجهزة والمعدات ذاتية القيادة، هذا بالإضافة إلى القيود الموضوعة على الأجهزة المحمولة وأجهزة الاستشعار. ولذلك، يجري الانتقال إلى تطوير أنظمة تكنولوجية أكثر تخصصاً، وذلك من خلال التوسع في مجالات علوم حوسبة الذكاء الاصطناعي العصبي، والحوسبة الكمية. وعلى الرغم من أن القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة، ما زالت تتمتع بالريادة في هذا الميدان؛ إلا أن الصين أظهرت في السنوات الأخيرة من خلال برامجها الجامعية وأبحاثها وإنتاجها العلمي في هذه المجالات، أنها تسعى للتحول من مقعد المتفرج إلى موقع القيادة.
تداعيات متعددة
لا يزال نموذج الذكاء الاصطناعي الصيني المطروح في مرحلته التجريبية، حيث صمم الباحثون نسختين: نسخة تحتوي على 7 مليارات مُعامل، وأخرى أكثر تقدماً تضم 76 مليار مُعامل للتجربة والاستخدام من قبل كلٍ من المتخصصين والعامة. وقد يكون لمثل هذا النموذج عدد من التداعيات على المستوى التكنولوجي والسياسي والاقتصادي، وذلك على النحو التالي:
1- زيادة وتسريع وتيرة السباق التكنولوجي الصيني الأمريكي: منذ عام 2019، تتمتع الولايات المتحدة بتفوّق واضح في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. فقد أنتجت الشركات الأمريكية أكثر من نصف النماذج الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي. وخلال السنوات الثلاث الأخيرة، استثمرت ست شركات كبرى ما يزيد على 212 مليار دولار أمريكي في البحث والتطوير، بينما جمعت الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي حوالي 90 مليار دولار في عام 2024. كما تمتلك الولايات المتحدة أكبر عددٍ من المتخصصين في الذكاء الاصطناعي، بنحو 500 ألف خبير، بالإضافة إلى أكبر قدرة على استيعاب مراكز البيانات في العالم، والتي تبلغ 45 جيجاوات (GW). ومع ذلك، فإن تفوّق أمريكا ليس مضموناً، حيث تعمل بكين على تقليص الفجوة القائمة بينها وبين واشنطن، وذلك من خلال الاعتماد على استراتيجية التخطيط المركزي، بدلاً من دفع القطاع الخاص لقيادة التطوير في هذا الميدان على غرار ما هو قائم في الولايات المتحدة. وقد ركزت استراتيجية التخطيط المركزي على الكفاءة والاستخدام الدقيق والفعال للموارد المحدودة المتاحة. كما ضخّت الحكومة ما يقارب 132 مليار دولار أمريكي في قطاع الذكاء الاصطناعي منذ عام 2019، وتستثمر سنوياً نحو 60 مليار دولار في البحث والتطوير المؤسسي. ونتيجة لذلك، تمتلك الصين 15 نموذجاً من أصل 40 نموذجاً رائداً عالمياً، وتوظف 18% من كبار الباحثين في المجال، كما تمتلك أكبر ثاني سعة عالمية لمراكز البيانات، بسعة تقدر بحوالي 20 جيجاوات. وهو ما ساهم في تحقيق الصين نتائج مرضية من خلال نموذج (DeepSeek)، أو النموذج اللغوي الصيني الجديد (SpikingBrain 1.0)، والذي يعد بمثابة جيل جديد من الذكاء الاصطناعي الذي يتجاوز في عمله آليات الذكاء الاصطناعي التقليدي.
2- تحفيز مزيد من الدول للاستثمار في الذكاء الاصطناعي: لم يعد الصراع حول مستقبل الذكاء الاصطناعي مقتصراً على الصين والولايات المتحدة وأوروبا، فقد امتد ليشمل دول الجنوب العالمي، التي لم تعد مجرد متلقٍّ سلبي لأنظمة لم تساهم في تصميمها أو تدريبها، كما أنها تخضع لقواعد لم تشارك في صياغتها. فقد تبنّت بعض الحكومات العربية والآسيوية والأفريقية واللاتينية العديد من المبادرات الوطنية والإقليمية، التي تستهدف تطوير نماذج تتناسب مع الأولويات والاحتياجات المحلية، مما يُعزز السيادة اللغوية والرقمية. ويُعد الشرق الأوسط مثالاً بارزاً على ذلك؛ إذ تبنت كل من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر مبادرات مهمة لتطوير مراكز بيانات عالمية الطراز ونماذج ذكاء اصطناعي محلية الصنع.
3- تحول في معايير التفوق التقني في الذكاء الاصطناعي: يعتمد النموذج اللغوي الصيني (SpikingBrain 1.0) على الجمع بين آلية الانتباه الهجينة الخطية (Hybrid-linear attention)، والتدريب القائم على التحويل (Conversion-based training)، والخلايا العصبية النبضية (Spiking neurons)، وهو ما يجعله قادراً على تقديم الأداء نفسه الذي اعتادت تقديمه النماذج اللغوية الغربية الضخمة القائمة على هندسة المحولات (Transformer architecture)، بسرعة وكفاءة غير مسبوقة. وعلى الرغم من أن الإسهامات الحالية والمستقبلية التي يتوقع أن تقدمها النماذج الغربية تمثل دفعة قوية في هذا الميدان، إلا أنها تعتمد على القوة المفرطة في الحساب، وهو ما يجعل استمراريتها على هذا النحو صعباً للغاية، خاصة مع ارتفاع تكاليف الحوسبة والطاقة بشكل هائل. ومن هنا تظهر أهمية وقوة النموذج الصيني الجديد، الذي يمنحها ميزة استراتيجية على المدى الطويل.
4- تقليص هشاشة سلاسل الإمداد المرتبطة بالغرب: يظهر التعاطي الصيني الحالي مع الحرب التكنولوجية التي تقودها واشنطن ضد بكين، أنها قد تعلمت من سنوات المنافسة السابقة. وتتمثل أبرز السياسات الصينية في هذا الميدان، في تطوير تقنيات محلية متقدمة في مجال الذكاء الصناعي، وصناعة السيارات الكهربائية “BYD”، وتعزيز الاكتفاء الذاتي التكنولوجي. هذا بجانب فرض رسوم جمركية مضادة، وحظر تصدير المعادن النادرة الحيوية لصناعة الأسلحة الأمريكية، ضمن استراتيجية “صُنع في الصين 2025”. وتكمن أهمية النموذج اللغوي الصيني (SpikingBrain 1.0)، في أنه لا يعتمد على رقائق الشركة الأمريكية (Nvidia)، في ترجمة فعلية لاستراتيجيتها القائمة على زيادة الاستقلال الذاتي، وتقليل حجم الضرر الناتج عن إمكانية عزلها عن سلاسل التوريد التكنولوجية العالمية، وذلك على غرار الحظر الذي طبقته الولايات المتحدة على تصدير شرائح الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى الصين سابقاً. فقد تم تدريب النموذج وتشغيله بالكامل على أجهزة صينية الصنع، مما يجعله إنجازاً استراتيجياً هاماً يعزز من استقلال الصين التكنولوجي في مجال الذكاء الاصطناعي.
5- إمكانية توظيف النموذج في مجالات مختلفة متقدمة: أظهر النموذج اللغوي الصيني (SpikingBrain 1.0) تفوقاً في التعامل مع التسلسلات فائقة الطول، مما يجعله مناسباً لتطبيقات مثل تحليل الوثائق القانونية والطبية، وفيزياء الجسيمات عالية الطاقة، ونمذجة تسلسلات الحمض النووي (DNA)، وذلك على حد قول أحد أبرز الباحثين الصينيين الذي قاموا على عملية تطوير النموذج.
ختاماً، رغم أن نموذج SpikingBrain 1.0 يعكس إنجازاً علمياً بارزاً ويؤكد تسارع الصين نحو تحقيق استقلالها التقني في مجال الذكاء الاصطناعي، فإن طريقها لا يزال محفوفاً بالتحديات. فنجاح التجارب الأولية لا يضمن انتقالاً سلساً إلى التطبيق التجاري واسع النطاق، خاصة في ظل التنافس الحاد مع الولايات المتحدة والقيود المستمرة على الشرائح المتقدمة. ومع ذلك، فإن الجمع بين الابتكار المحلي والنظم المتقدمة يمنح بكين فرصة حقيقية لإعادة تشكيل قواعد السباق العالمي في الذكاء الاصطناعي، شريطة أن تواصل الاستثمار في البحث العلمي وتوسيع نطاق التجريب التطبيقي.
انترريجورنال للتحليلات الاستراتيجية
