
د.محمد عز العرب
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_يُعد أحد الاتجاهات الرئيسية الحاكمة لتفاعلات الشرق الأوسط، خلال النصف الأول من عام 2025، السعي من جانب الأطراف الحكومية (النظامية) وبعض القوى الإقليمية وكذلك بعض الأطراف الدولية لنزع سلاح المليشيات التي صارت لاعباً محورياً في تفاعلات الإقليم، لدرجة أن البعض طرح أن الملمح الأكثر بروزاً في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين هو تنامي دور الفاعلين المسلحين من غير الدول التي صارت أقرب إلى الجيوش الموازية، وتمتلك قدراً من الموارد الاقتصادية، فضلاً عن محاولتها إدارة نمط من السياسات الخارجية مع القوى الدولية والإقليمية بما يجعلها أقرب إلى تعبيرات مثل “شبه الدولة” أو “سلطة الأمر الواقع” أو “دولة داخل الدولة”.
بداية، تعني مقاربة “نزع السلاح” Disarmament في الأدبيات السياسية، جمع الأسلحة والذخائر من كافة الفصائل والجماعات والتنظيمات المسلحة والقوات شبه العسكرية والمقاتلين، بما يقضي على حالة “فوضى السلاح” ويكرس لاحتكار الدولة له، وهو ما يتفق مع ما هو سائد في تعريف ماكس فيبر بأن الدولة هي “الكيان الوحيد الذي يحتكر العنف المشروع”. ويعزز من ذلك تزايد الطلب على الدولة أو عودة الدولة في الشرق الأوسط، بعد اتضاح مخاطر هؤلاء الفاعلين على الأمن والاستقرار وتغذيتهم لمظاهر الفوضى الممتدة، ولا سيما بعد الحراك الثوري في أعوام 2011 و2029 و2024.
حالات عاكسة
توجد عدة اتجاهات مرتبطة بحالات مختلفة لقضايا وإشكاليات، داخلية وخارجية، تعكس محورية الحد من دور الفاعلين المسلحين من غير الدول في تشكيل اتجاهات الشرق الأوسط، خلال عام 2025، على النحو التالي:
1- نزع سلاح حركة حماس وإيقاف حرب غزة الخامسة: تشترط إسرائيل لوقف حرب غزة نزع سلاح حركة حماس، ومغادرة كوادرها وأعضائها القطاع بحيث لا تكون جزءاً من ترتيبات “اليوم التالي” بعد سكوت المدافع، فضلاً عن إعادة الرهائن بالطبع. وفي هذا السياق، أعرب الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن تأييده مقترح إسرائيل قيام حماس “بإلقاء السلاح” و”التوقف عن حكم غزة” كجزء من دولة فلسطينية مستقبلية، والإفراج عن كامل الرهائن، في رسالة وجّهها بتاريخ 10 يونيو 2025 إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبيل مؤتمر الأمم المتحدة بشأن حل الدولتين، وفق الإليزيه.
2- نزع سلاح حزب الله وبسط سيطرة الدولة اللبنانية: تتصدر أولويات الحكومة اللبنانية برئاسة نواف سلام، احتكار الدولة للسلاح. وعلى الرغم من نجاح الجيش اللبناني في السيطرة على العديد من المواقع التابعة لحزب الله في الضاحية الجنوبية، إلا أن هناك مواقع أخرى لا تزال خارجة عن السيطرة، وهو ما يعكس النفوذ الذي يتمتع به الحزب على مدار السنوات الماضية، سواء في هيكل الحكم أو موقع المعارضة ورفضه أي نقاش حول تسليمه إلا ضمن شروط يصفها بأنها “مرتبطة بالسيادة الوطنية”، لدرجة أن هناك تصريحاً صادر عن الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، بأن “فكرة نزع السلاح غيرُ واردة”.
غير أن هناك ضغوطاً حكومية ودولية تؤكد استحالة إعمار واستقرار لبنان في ظل وجود سلاح خارج سلطة وسيادة الدولة، لأن الحكومة الحالية تستند إلى مشروع واضح نالت على أساسه الثقة البرلمانية، وهو مشروع يرفض وجود أي قوى مسلحة خارج إطار الجيش وقوى الأمن، وبذلك يهدد بقاء السلاح الاستقرار الداخلي في حين أن الحزب يشترط نزع سلاحه بانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، وإنهاء الضربات الجوية المتواصلة على البلاد. ووفقاً لرؤية الحزب، فإن نزع سلاحه يضعف حالة المقاومة في مواجهة إسرائيل، في حين أن الرؤية الأمريكية يحكمها أن نزع سلاح حزب الله هو جزء من سياسة الضغط الأقصى التي يمارسها الرئيس دونالد ترامب على إيران.
ويبقى السؤال عالقاً دون إجابة شافية: هل تنجح الدولة اللبنانية في فرض معادلة “لا سلاح خارج الشرعية”؟ وإنهاء نظام دولة داخل الدولة الذي يتبعه الحزب أم أن حزب الله سيواصل فرض شروطه في معادلة “السلاح مقابل الاحتلال”؟
3- بدء سحب السلاح من المخيمات الفلسطينية بلبنان: ظلت تسوية مسألة السلاح الفلسطيني في المخيمات بلبنان إحدى الإشكاليات الرئيسية خلال السنوات الماضية، لأنه بمرور الوقت، تحولت هذه المخيمات إلى مناطق شبه مستقلة، لا تدخلها القوى الأمنية اللبنانية، ويُترك أمر ضبط الأمن فيها للفصائل المسلحة، غير أن ثمة تحولاً بدأت تظهر ملامحه مع زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى لبنان في مايو الفائت، إذ تم الاتفاق مع نظيره اللبناني جوزيف عون على بدء خطة تنفيذية لسحب السلاح من المخيمات وفقاً لجدول زمني محدد، تبدأ في يونيو الجاري في مخيمات بيروت وتليها المخيمات الأخرى، وجاء هذا الاتفاق خلال الاجتماع الأوّل للجنة مشتركة لمتابعة أوضاع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وحصر السلاح بيد الدولة.
وفي هذا السياق، تعددت التصريحات المعبرة عن التوجه اللبناني الرسمي الجديد، إذ أكد رئيس الحكومة اللبنانية “أن هذا السلاح لم يعد سلاحاً يساهم في تحقيق حقوق الشعب الفلسطيني، بل الخطر أنه قد يتحول لسلاح فتنة فلسطينية-فلسطينية وسلاح فتنة فلسطينية-لبنانية”. وأشار إلى أن “قوة القضية الفلسطينية اليوم ليست في السلاح الموجود في المخيمات الفلسطينية في لبنان، بل قوة القضية الفلسطينية اليوم، في تزايد أعداد الدول التي تعترف بدولة فلسطين، وفي مئات الآلاف من المتظاهرين في مختلف أنحاء العالم نصرة لفلسطين وغزة، كما هو في مقررات الشرعية الدولية وأحكام المحاكم الدولية التي تدين إسرائيل وممارساتها”.
4- إطلاق مؤتمر الحوار الوطني السوري دعوة لحصر السلاح في يد الدولة: تواجه الإدارة السورية الجديدة تحدياً يعبر عن قدرتها على الانتقال السياسي السلس وهو النجاح في مهمة حصر امتلاك السلاح للدولة، لأنه لا تزال هناك جماعات مناوئة ومتخوفة من توجهات النظام الجديد وخاصة تجاه الأقليات. وفي الوقت الذي شدد فيه المشاركون بالحوار الوطني السوري المنعقد في فبراير 2025 على أن التشكيلات المسلحة جماعات خارجة عن القانون، مع ضرورة بناء جيش وطني؛ فإن هناك قطاعاً مجتمعياً لم يشارك في مناقشات هذا الحوار، ولا يلتزم بالاستجابة لهذه الدعوة، ويعتبر نفسه مستهدفاً مما يجعله يتمسك بامتلاك السلاح للدفاع عن بقائه.
5- رفض حكومة شياع السوداني “ثنائية السلاح” في العراق: ظل العراق يعاني من فوضى السلاح بعد إسقاط نظام صدام حسين واحتلال الولايات المتحدة للبلاد، ولم تنجح أي من الحكومات العراقية المتتالية خلال عقدين من الزمن (2005-2025) في حل إشكالية السلاح السائب، خارج إطار الجيش والقوات الأمنية، نتيجة حزمة من العوامل. وعلى الرغم من تأكيد رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، في تصريحات صحفية لسكاي نيوز عربية بتاريخ 15 مايو 2025، رفض حكومته القاطع لمبدأ “ثنائية السلاح” في البلاد، وأن السلاح يجب أن يكون حصرياً بيد الدولة، من خلال امتلاك الحكومة خارطة طريق واضحة لتحقيق هذا الهدف؛ إلا أن التحدي يظل مرتبطاً بكيفية تجاوزه في ظل محفزات مجتمعية وسياقات إقليمية داعمة للاحتفاظ بالسلاح لدى مليشيات وأفراد داخل العراق.
6- نزع سلاح حزب العمال الكردستاني ووقف الصراع مع تركيا: أعلن حزب العمال الكردستاني، في مايو 2025، عبر تسجيل مصوّر ورسالة سياسية حذرة، إنهاء صراعه المسلح مع الدولة التركية، داعياً إلى انتقال القيادة السياسية للقضية الكردية نحو الأحزاب المدنية ضمن ما وصفه “مسار الأمة الديمقراطية”، وهو ما يمثل تحولاً فعلياً عبر تجاوز فكرة الكفاح المسلح والإيمان بالأدوات السياسية المدنية، والانتقال من “السلاح إلى السلام”. وقد غلب على رد الفعل التركي الرسمي الترحيب الحذر، حيث وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذه الخطوة بأنها “مهمة”، لكنه ربط نجاحها بتنفيذ فعلي يشمل الأذرع السياسية والعسكرية للحزب، ولا سيما في سوريا والعراق وأوروبا.
7- نزع سلاح المليشيات ومعضلة الانتقال السياسي في ليبيا: فالمليشيات المسلحة في مرحلة ما بعد سقوط نظام القذافي في ليبيا صارت بمثابة “الكتائب المناطقية”، التي عززت سيطرتها على مناطق وأقاليم مختلفة على مدى أكثر من عقد كامل، وتسهم في عرقلة أي اتفاقات أو تفاهمات تؤدي إلى الخروج من “حالة الصراع” والتحول إلى وضعية الاستقرار. ولعل التحركات التي يقودها الجيش الليبي تثير هواجس المليشيات التي تسعى لامتلاك السلاح خارج سيطرة الدولة، حتى ترسخ مسار الفوضى كخيار بديل لسيناريو الاستقرار الذي يتحقق بتعافٍ متدرج لمؤسسات وأجهزة الدولة، والبت في طبيعة وجود تلك المليشيات (وخاصة ذات النفوذ الواسع) وحلها ونزع سلاحها ومدى دمج بعض أفرادها في بعض مؤسسات الدولة، وخروج قوات المرتزقة من البلاد، وإجراء الانتخابات العامة.
8- المعضلة المحيرة لنزع سلاح الحوثيين في اليمن: على الرغم من الضربات التي وجهتها قوات التحالف العربي لاستعادة الشرعية اليمنية، وكذلك الهجمات التي قامت بها الولايات المتحدة وإسرائيل ضد الحوثيين خلال العامين 2024 و2025، فقد استندت إلى ضرورة التصدي للحوثيين من بعدين؛ أولهما عرقلتها حركة الملاحة البحرية والتجارة العالمية عبر استهداف السفن التي ترتبط بشكل أو بآخر بإسرائيل. وثانيهما تقليص أظافر أحد وكلاء إيران، وخاصة أنه لم يتم ردعه حتى منتصف عام 2025. إلا أن البعد الغائب هو ضرورة تحجيم نفوذ الحوثي في الداخل اليمني بحيث يكون طرفاً ضمن أطراف أخرى في العملية السياسية وليس الطرف المهيمن الوحيد، وهو لم يحدث.
شرعية الدولة
خلاصة القول، إن ظاهرة ثنائية السلاح، بين شرعية الدولة الوطنية وسلاح الجماعات الخارجة عنها، ستظل العنوان العريض لتفاعلات الإقليم خلال المرحلة المقبلة، بل قد تأخذ منحى دولياً في حال استهداف عسكري لبعض الحركات أو الجماعات أو الكتائب المسلحة، ولا سيما الموالية والمرتبطة بإيران من قبل الولايات المتحدة، في ظل تراجع نفوذ المحور الإيراني في الإقليم، وتكبد بعضها خسائر في البنية التحتية والقتالية خلال الحرب مع إسرائيل، فضلاً عن تعرض بعض قادة المليشيات والجماعات المسلحة لعقوبات دولية صادرة عن مجلس الأمن، كنوع من الضغط عليها. غير أن التحدي الرئيسي الذي يواجه الكيانات النظامية في دول الشرق الأوسط غياب الاستراتيجيات البديلة لفشل نزع سلاح هؤلاء الفاعلين في كل حالة على حدة. فمعركة الدولة في مواجهة المليشيا ستأخذ فترة ليست بالقليلة.
انترريجورنال للتحليلات الاستراتيجية