
محمد عبد الباسط
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_شكّلت منطقة آسيا الوسطى خلال العقود الماضية واحدة من المناطق الحيوية للتحركات التركية، فأنقرة تنظر إلى المنطقة باعتبارها امتداداً تاريخياً لها، فهي جزء مما يسمى بالعالم التركي، وهو مفهوم يستدعي طموحات واسعة للنظام التركي لاستعادة الإرث العثماني. لم يكن الطابع التاريخي هو المحرك الوحيد لسياسة تركيا في منطقة آسيا الوسطى، إذ تخدم المنطقة المصالح الاقتصادية التركية وخاصة في ظل التحولات التي يشهدها النظام الدولي عقب الحرب الأوكرانية. كما تحاول أنقرة إعادة بناء حضورها في المنطقة، ولا سيما مع تصاعد التنافس الدولي هناك.
تحركات متنوعة
تسعى تركيا لتعزيز نفوذها في منطقة الدول الناطقة بالتركية لتعزيز نفوذها على الساحة العالمية، وقد أجرت لذلك عدة تحركات في الفترة الأخيرة يمكن بيانها في الآتي:
1- الترويج لفكرة “الماضي المشترك”: أعلنت وزارة التعليم الوطني التركية، في شهر أكتوبر 2024، عن تغيير في مناهج التاريخ بالمدارس، بوضع مصطلح “تركستان” بديلاً لـ”آسيا الوسطى” للدلالة على منطقة الدول الناطقة بالتركية. وأوضح الرئيس رجب طيب أردوغان أهمية هذا التحول في سياق توسيع رؤية “قرن تركيا” لتشمل وحدة “العالم التركي”، حيث يعبر المصطلح -وفقاً لأكاديميين- عن “موطن الأتراك”، والذي كان مستخدماً تاريخياً قبل أن يحل محله مصطلح “آسيا الوسطى” مع التوسع الروسي في القرن التاسع عشر.
بالإضافة إلى ذلك، انعقدت لجنة من ممثلي منظمة الدول التركية لرسم خريطة مشتركة لـ”العالم التركي” في التاسع من أكتوبر 2024. فضلاً عن ذلك، قدّم زعيم حزب الحركة القومية التركي في نوفمبر 2021 خريطة “توران الكبرى” التاريخية لأردوغان، والتي تمتد من البلقان إلى أجزاء من الصين، في إشارة إلى تطلعات تركيا نحو توحيد دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز تحت قيادتها.
2- تعزيز الروابط الثقافية واللغوية: تسعى أنقرة إلى تعزيز روابطها الثقافية واللغوية مع دول آسيا الوسطى عبر مؤسسات مختلفة، أبرزها الأكاديمية التركية الدولية التي ترتبط عادةً بمنظمة الدول التركية. وفي خطوة لتعميق هذا التعاون، أعلنت الأكاديمية عن نيتها اعتماد أبجدية تركية موحدة تعتمد على الحروف اللاتينية، مكونة من 34 حرفاً، لتحل محل الأبجدية السيريلية التي تستخدمها بعض دول المنطقة مثل كازاخستان وقرغيزستان. تم الإعلان عن هذا المشروع خلال اجتماع عقد في باكو (أذربيجان) في سبتمبر 2024، بعد عملية تطوير استمرت عامين بهدف وضع أبجدية قياسية تعكس الأصوات المختلفة في اللغات التركية، مما يسهل التواصل ويعزز الهوية المشتركة بين شعوب المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، تشمل المبادرات تنظيم فعاليات ثقافية، وتبادل طلابي، وبرامج تعليمية مشتركة مع تركيا لتعميق العلاقات بين المجتمعات الناطقة بالتركية.
3- تفعيل الأدوات الدبلوماسية: تسعى تركيا لتعزيز مكانتها الدولية من خلال لعب دور الوسيط في النزاعات الإقليمية، مما يعكس قدرتها على التأثير في الاستقرار الإقليمي، ويعزز من صورتها القيادية. برزت هذه القوة الدبلوماسية في الأزمة الحدودية بين طاجيكستان وقرغيزستان التي اندلعت في عام 2022، ووصلت إلى مواجهات مباشرة أسفرت عن سقوط قتلى من الطرفين.
تدخلت أنقرة لتبني مفاوضات ناجحة، مما مهّد لإنجاز ترسيم الحدود المشتركة بين البلدين بنسبة 94% حتى أغسطس 2024. حظيت هذه الوساطة باهتمام واسع، خصوصاً بعد زيارات وزير الخارجية التركي للبلدين في يناير 2024، والتي ساعدت على تهدئة الأوضاع رغم احتمالات التصعيد. في مارس 2024، أعلنت الخارجية التركية انتهاء النزاع، ما يعكس قبول دول الإقليم لدور أنقرة كمحور أساسي في تعزيز الاستقرار الإقليمي.
4- استثمار التعاون في الطاقة والنفط: تركز أنقرة على تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول المنطقة من خلال تنمية التعاون التجاري، وتنفيذ مشاريع استراتيجية في مجالات مثل الطاقة والنقل. تشمل هذه الجهود تطوير خطوط أنابيب جديدة، وتعزيز الشراكات مع الدول الغنية بالموارد الطبيعية مثل تركمانستان وكازاخستان. كما تسعى إلى توقيع اتفاقيات تعاون لتنفيذ مشاريع نقل الطاقة التي تربط آسيا بدول القارة العجوز، مما يُسهم في تحديث البنية التحتية، وتوسيع شبكة الأنابيب لتسهيل تدفق الغاز والنفط.
من أبرز هذه المبادرات خط أنابيب تركمانستان-تركيا-أوروبا (TAPI)، الذي يمتد من تركمانستان إلى تركيا عبر أفغانستان ليصل إلى الأسواق الغربية. بالإضافة إلى خط أنابيب قزوين-تركيا، الذي يربط كازاخستان وأذربيجان بتركيا لنقل النفط والغاز، مما يعزز من دور البلاد كحلقة وصل بين الشرق والغرب. كما يلعب خط أنابيب بحر قزوين-تركيا (CSTO) دوراً مهماً في نقل النفط الخام من بحر قزوين عبر الأراضي التركية إلى البحر المتوسط، مما يعزز قدرة تركيا على التأثير في تدفقات الطاقة العالمية.
وفي ظل العقوبات المفروضة على موسكو، تسعى أنقرة إلى استغلال هذه الظروف لتوفير بدائل لنقل النفط من دول آسيا الوسطى إلى الأسواق العالمية، عبر مشروعات مثل خط أنابيب “باكو-تبليسي-جيهان”، التي توفر مساراً مستقلاً وآمناً للتصدير إلى الدول الأوروبية. هذه المشاريع تُسهم في تعزيز مكانة تركيا كحلقة وصل حيوية للطاقة بين المنتجين في الشرق والمستهلكين في الغرب.
5- التوسع في التعاون العسكري مع دول الإقليم: وقعت حكومة كازاخستان اتفاقية مع تركيا في سبتمبر 2024 بشأن عبور المعدات العسكرية والأفراد عبر المجال الجوي لكلا البلدين، وأعلنت شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية (TAI) توقيع مذكرة تفاهم مع شركة كازاخستان الهندسية لتصنيع طائرات “أنكا” بدون طيار في كازاخستان. ووقعت كذلك أوزبكستان عدة اتفاقيات في السنوات الماضية لتطوير التعاون العسكري والفني مع تركيا. كما دعمت تركيا بشكل كثيف عملية أذربيجان العسكرية لاستعادة السيادة على إقليم “قره باخ” من سيطرة أرمينيا.
أهداف أنقرة
تُركز تركيا في استراتيجيتها تجاه آسيا الوسطى على تحقيق مجموعة من الأهداف التي تهدف إلى تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية. يمكن إبرازها في الآتي:
1- دعم القوة الناعمة التركية: تهدف تركيا من خلال هذه التحركات إلى تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي عبر تفعيل أداة القوة الناعمة، مستفيدة من الروابط الثقافية واللغوية التي تجمع الدول الناطقة بالتركية. التركيز على توحيد الهوية الثقافية لهذه الدول يعكس رغبة تركيا في بناء شبكة تأثير فاعلة تمتد عبر آسيا الوسطى، مما يساعدها على التأثير في السياسات الإقليمية والعالمية. من خلال ترسيخ نفسها كقائد للثقافة التركية المشتركة، تسعى أنقرة إلى استغلال هذه الوحدة لتعزيز استقرارها الداخلي، وفتح أبواب جديدة للتعاون السياسي والاقتصادي مع جيرانها. كما أن هذا النهج يعزز من قدرة تركيا على التأثير في توازن القوى في المنطقة، ويمنحها وسيلة للمنافسة مع القوى الكبرى مثل روسيا والصين على النفوذ في آسيا الوسطى.
2- تحويل منظمة الدول التركية إلى كتلة إقليمية فاعلة: تسعى تركيا لتحويل منظمة الدول التركية إلى كتلة إقليمية تمتلك وزناً دولياً، مشابهاً للاتحاد الأوروبي. من خلال تعزيز التعاون في مجالات الأمن، والتجارة، والسياسة، تهدف أنقرة إلى بناء هيكل تنظيمي يساهم في تنسيق الجهود المشتركة بين الدول الأعضاء. هذه الاستراتيجية تعزز من دور تركيا كقائد للمنظمة وتمنحها ميزة التحدث باسم الدول الناطقة بالتركية في المحافل الدولية، مما يزيد من قوتها التفاوضية.
3- تعزيز الصادرات الدفاعية: تركز تركيا على تعزيز نفوذها العسكري في منطقة آسيا الوسطى من خلال تصدير التكنولوجيا الدفاعية، حيث تعتبر الطائرات المسيرة من أبرز الأمثلة على تطور صناعاتها المحلية في هذا المجال. ومن خلال توقيع اتفاقيات تعاون مع دول مثل كازاخستان، تهدف تركيا إلى تنويع التعاون مع الإقليم عبر نقل هذه التقنيات.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى تركيا إلى تعزيز شراكات استراتيجية مع دول المنطقة، مما يساهم في تعزيز نفوذها السياسي والعسكري. هذه التحركات لا تقتصر فقط على دعم الأمن الإقليمي، بل تسهم أيضاً في تعزيز مكانة تركيا كمورد رئيسي للتكنولوجيا العسكرية، مما يعزز من قدرتها على التأثير في الشؤون الإقليمية.
4- استغلال حالة الاستقطاب الدولي في الإقليم: تشهد منطقة آسيا الوسطى حالة من الاستقطاب الدولي نتيجة للصراع القائم بين القوى الكبرى. هذا التنافس يعكس أزمة متصاعدة بين الغرب وروسيا في أوكرانيا، بالإضافة إلى محاولات الغرب للحد من النفوذ الصيني المتزايد. في هذا السياق، تعمل تركيا على استغلال هذه الظروف لتقديم نفسها كطرف محايد يعزز التعاون مع دول المنطقة دون الانحياز إلى أي من الأطراف المتصارعة. وفي وقت تركز فيه روسيا على حربها في أوكرانيا، وتواجه توترات متزايدة مع الغرب، تجد دول آسيا الوسطى نفسها في حاجة إلى شركاء جدد يسهمون في ضمان استقرارها ويدعمونها اقتصادياً وسياسياً. في هذا الإطار، تبرز تركيا كبديل متوازن يمكنه تقديم الدعم دون التورط في الاصطفاف مع أي من القوى العظمى.
في الوقت ذاته، توسع الصين نفوذها الاقتصادي في المنطقة عبر مبادرتها “الحزام والطريق”، مما يثير القلق لدى بعض الدول بشأن مخاطر الهيمنة الاقتصادية. تلعب تركيا دوراً محورياً هنا، مستفيدة من الروابط الثقافية والتاريخية مع دول المنطقة، وتقدم شراكات مبنية على توازن المصالح والتقارب الحضاري. هذه العوامل تجعلها خياراً مرناً ومقبولاً للدول التي تسعى إلى تجنب التورط في صراعات القوى الكبرى، مع الحفاظ على استقلاليتها الاستراتيجية.
وفي سياق ذي صلة، تروج بعض الأطراف في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، إلى أهمية تعزيز دور تركيا كقوة بديلة لموسكو في مناطق نفوذها التاريخية. ومن ثم يطرح البعض ضرورة تقديم واشنطن دعماً شاملاً للمبادرات التركية الهادفة إلى توسيع نفوذ أنقرة في آسيا الوسطى. في هذا السياق، تسعى تركيا لاستغلال الدعم الغربي لتعزيز موقعها الإقليمي وتنافس القوى الكبرى مثل روسيا والصين، بما يخدم مصالحها في المنطقة ويعزز من مكانتها الدولية.
5- تحسين صورة الحزب الحاكم داخلياً: تسعى تركيا إلى تخفيف وطأة الأزمات الاقتصادية التي تواجهها من خلال تعزيز علاقاتها مع دول أخرى وتحسين مكانتها على الساحة العالمية. تهدف حكومة الرئيس أردوغان إلى تعزيز صورتها داخلياً، خاصة في أعقاب نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة التي شهدت خسارة حزب العدالة والتنمية الحاكم للعديد من المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير. في هذا السياق، يبرز الترابط الثقافي بين شعوب تركيا كأداة هامة لتحقيق هذا الهدف، حيث يُمكن لهذا الترابط أن يعزز الدبلوماسية الثقافية ويزيد من تأثير تركيا في المنطقة والعالم، خاصة في ظل تزايد الاهتمام بالروابط المشتركة مع دول آسيا الوسطى، والتي قد تساهم في تقوية موقف تركيا على الساحة الاقتصادية والسياسية العالمية.
6- تطوير القاعدة الاقتصادية الإقليمية: تعمل تركيا على تطوير قاعدة اقتصادية إقليمية قوية من خلال تشجيع التبادل التجاري والاستثمار في مشاريع البنية التحتية والنقل. يهدف ذلك إلى بناء شبكة اقتصادية تدعم الدول الأعضاء في منظمة الدول التركية، وتفتح مجالات جديدة للتعاون التجاري. من خلال تعزيز الروابط الاقتصادية، تسعى أنقرة إلى تحقيق مصالح مشتركة تدعم النمو الاقتصادي للمنطقة، وتزيد من نفوذها كقوة اقتصادية مؤثرة.
7- توظيف ورقة النفط كورقة لإدارة العلاقات مع أوروبا: تستغل تركيا موقعها الجغرافي الاستراتيجي لتعزيز مكانتها كحلقة وصل رئيسية في نقل الطاقة بين آسيا الوسطى وأوروبا، مما يعزز من قدرتها على استخدام النفط والغاز كأداة لإدارة العلاقات والتفاوض مع الدول الأوروبية والدولية. بالإضافة إلى ذلك، تهدف أنقرة إلى تحقيق تأثير سياسي واقتصادي أكبر من خلال تأمين خطوط الإمداد وتعزيز استقرار أسواق الطاقة، وهو ما يمكنها من تعزيز موقفها في القضايا الإقليمية والدولية. فضلاً عن ذلك، يسهم هذا التوجه في جعل تركيا لاعباً أساسياً في تحقيق أمن الطاقة الأوروبي، مما يعزز من نفوذها السياسي على الساحة العالمية.
تحديات رئيسية
تواجه تركيا صعوبة كبيرة في تعزيز نفوذها في آسيا الوسطى بسبب الهيمنة السياسية والاقتصادية الراسخة التي تمارسها كل من روسيا والصين. تُعتبر الصين الشريك التجاري الأكبر لمعظم دول المنطقة، وتبذل جهوداً مكثفة لضمان ولاء هذه الدول من خلال مبادرة الحزام والطريق، مما يعزز نفوذها الاقتصادي والسياسي. في المقابل، تحتفظ روسيا بنفوذ تاريخي وجيوسياسي قوي، إذ تعتبر آسيا الوسطى جزءاً من “سياستها الخارجية القريبة” وتعمل على الحفاظ على نفوذها التقليدي في المنطقة. هذه السيطرة المزدوجة تمثل تحدياً كبيراً لتركيا في سعيها لتحقيق تقدم استراتيجي في المنطقة دون إحداث توترات مع القوتين الكبيرتين.
إضافة إلى ذلك، تواجه تركيا تباينات داخلية في المنطقة من خلال التعامل مع الجماعات العرقية غير التركية مثل الطاجيك، مما يتطلب منها تبني استراتيجيات مرنة تحقق التوازن بين مصالحها ومصالح الدول الأعضاء. علاوة على ذلك، يتمثل التحدي في التأثيرات الإقليمية لكل من إيران والهند، إذ تبرز إيران كقوة تسعى لحماية مصالحها في آسيا الوسطى واستغلالها للالتفاف حول العقوبات الغربية. في الوقت نفسه، تتزايد مشاركة الهند في المبادرات الإقليمية والتعاون الاقتصادي، مما يضيف بُعداً جديداً من المنافسة على النفوذ في المنطقة، ويجعل من الصعب على تركيا تحقيق تقدم متوازن يراعي جميع التحديات الإقليمية والدولية.
وختاماً، على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها تركيا لتعزيز نفوذها في منطقة آسيا الوسطى، إلا أن الطريق أمامها يبدو محفوفاً بالعقبات. إذ تظل الهيمنة الروسية والصينية في المنطقة تحدياً كبيراً يعيق تحقيق الطموحات التركية، كما أن المنافسة المتزايدة من قبل قوى أخرى مثل الهند وإيران قد تزيد من تعقيد المشهد السياسي والاقتصادي بالمنطقة.
انترريجونل للتحليلات السياسية