كيف بنى المحيط الأطلسي عالمنا المعاصر؟

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_ي عالم مترامي الأطراف، حيث ترتبط القارات والمحيطات بسلسلة من الأحداث التي تشكل مسار التاريخ البشري، يبرز المحيط الأطلسي كركيزة أساسية في تشكيل العالم كما نعرفه اليوم. في هذا التقرير الخاص، يقدم موقع ” أسباب رؤية معمقة لاستكشاف الأطلسي: محيط تجاوزت أمواجه الجغرافية ليصبح مسرحًا لصراعات ونشوء حضارات وأفول أخرى، وشاهدًا على التحولات الاقتصادية، والجسر الذي نقل الأفكار والثقافات بين الشرق والغرب.

كيف ساهم الأطلسي في بناء معالم واقعنا اليوم؟ وكيف تقوده التغيرات اليوم ليُفسح المجال لمحيط آخر يُعيد تشكيل ملامح المستقبل؟ في هذا التقرير سنتعرف على الأطلسي، ماضيه وحاضره، وأثره الممتد إلى الغد.

مقدمة 

يقع المحيط الأطلسي بين أربع قارات ويُعد واحداً من أكبر ساحات النشاط الملاحي في الأرض، إذ كان بمثابة قناة للمستكشفين الكبار ومختبراً لمشروعات البنية التحتية المُبتكرة، وفضلاً عن السمات المادية، يُعتبر الأطلسي رمزاً للارتباط بين الأمريكيين والأوروبيين عبر مؤسسات مثل حلف الناتو.

وإجمالاً، لعب المحيط الأطلسي دوراً استثنائياً في رسم ملامح عالمنا المعاصر عبر الاستكشاف، والتجارة، والاستعمار، والتبادل الثقافي، ولا يزال تأثيره ملموساً على مختلف جوانب المجتمعات العالمية المعاصرة، في ما يُعرف باسم التعاون الأطلسي أو الليبرالية الغربية عادةً.

وكما تمحور العالم القديم حول البحر المتوسط، سنجد أن العالم المعاصر يتمحور حول المحيط الأطلسي، لكن الأزمنة تتغير، وقد بدأ المحيط الهادئ في قلب الموازين، ومع هذا التغيير في موازين القوى، تأتي فرصة إعادة رسم خريطة العالم حسب الرغبة.

وستؤثر هذه الترتيبات الجديدة على المجتمعات حول العالم إذ تقع الكابلات البحرية في قيعان المحيطات وتوفر خدمات الإنترنت السلسة حول العالم.

هذا هو المحيط الأطلسي الذي تبلغ مساحته 85 مليون كلم مربع تقريباً
يحدُّه شمالا المحيط المتجمد الشمالي
المحيط الهادئ من الجنوب الغربي
المحيط الهندي من الجنوب الشرقي
ويتصل المحيط الأطلسي بأكثر من 12 بحراً فرعياً إجمالاً وهذا يشمل بحار الشمال والبلطيق والمتوسط ولبرادور وسرقوسة والكاريبي وغيرها، وتفصل اليابسة أو التيارات السطحية المحيطية بين بعض هذه المسطحات البحرية وبين المحيط.كما يقع المحيط الأطلسي عند ملتقى العديد من الصفائح التكتونية، ويتوسع حجم المحيط سنوياً بفعل النشاط الزلزالي، ما يؤدي إلى إبعاد أوروبا وأفريقيا عن الأمريكتين ببضع سنتيمترات سنوياً، وهذا يعني أن المحيط الأطلسي يعيش حالة حركة مستمرة على السطح.

التيارات داخل المحيط الأطلسي
وفي الأعماق هناك العديد من التيارات الباردة والدافئة التي تقطع المحيط وتؤثر على مناخ القارات المحيطة، ويُعد تيار الخليج واحداً من أبرز تلك التيارات.

هو عبارة عن تيار محيطي دافئ
ينطلق من مضيق فلوريدا ليقطع أكثر من 6,000 كلم حتى يصل إلى السواحل الأوروبية
يمنح هذا التيار مناخاً معتدلاً للقارة
يجعل أوروبا صالحةً للعيش أكثر من غيرها من الأماكن
تغير المناخ يجعل الكثير من التيارات المحيطية عرضةً للخطر
من الممكن أن يغير تيار الخليج مساره في أسوأ السيناريوهات، لينتهي به المطاف إلى مكان آخر
وعلى كل حال، تساهم هذه التيارات الدافئة في التنوع الحيوي الغني للمحيط، كما تدعم وجود مجموعة متنوعة من أشكال الحياة البحرية التي تضم نحو 1,100 نوع من الأسماك، وقد أصبح هذا التنوع الحيوي مصدراً متميزاً للبروتين بالنسبة للعديد من الشعوب.

وفي الوقت الحالي، يُعد المحيط الأطلسي ثاني أكبر منطقة صيد في العالم، حيث يستحوذ على ربع إجمالي أنشطة الصيد العالمية، لكنه يظل متخلفاً بفارقٍ كبير عن المحيط الهادئ الذي يستحوذ على أكثر من نصف الإجمالي العالمي، ورغم ذلك، أدت زيادة الصيد والاستهلاك إلى انخفاض أعداد أنواع بعينها مثل أسماك القد، والسلمون، والبلوق.

علاوةً على أن الإفراط في الصيد يتفاقم نتيجة التلوث الواسع للأطلسي بسبب نفايات البلاستيك، إذ تتراكم القمامة والمخلفات الأخرى في بعض أجزاء المحيط منذ عقود، وتستقر كميات كبيرة من هذه النفايات بطول ساحل المتوسط.

فضلاً عن وجود دوامتين عملاقتين من النفايات، تقع إحداهما بين:

  • الساحل الأمريكي وغرب أفريقيا
  • الأخرى بين جنوب أفريقيا وشواطئ البرازيل

وهناك جهود لتنظيف المياه وتقليل نمو دوامات النفايات المذكورة، لكن المهمة تظل صعبةً بسبب حجم وطبيعة التيارات.

المحيط الأطلسي تاريخيا

أما على الصعيد التاريخي، فلطالما كان الأطلسي  مرتبطاً بالاستكشافات، إذ خاضت أجيال مختلفة من المستكشفين في غماره، بدايةً بالفايكنغ في القرن الـ10 الميلادي حين أسس إريك الأحمر أول مستعمرةٍ في غرينلاند، ثم استخدمها كنقطة انطلاق للإبحار عبر شمال الأطلسي.

وبعد عقد من الاستكشافات، وصل إريك إلى اكتشاف تاريخي سيتحوّل فيما بعد إلى قارة أمريكا الشمالية، فقد سافر مع طاقمه عبر ساحل لبرادور، ثم أسسوا مستعمرةً في منطقة ميدوز كوف، التي أصبحت اليوم جزءاً من مقاطعة نيوفاوندلاند الكندية.

ويُعتقد أن الفايكنغ توغلوا نحو الجنوب أكثر بطول نهر سانت لورانس وبجوار ضفته، ووصلوا إلى مناطق أصبحت جزءاً من شمال شرق الولايات المتحدة اليوم، لكن استكشافات الفايكنغ توقفت عند هذا الحد، إذ بدأ المناخ في الانهيار خلال القرن الـ13، وكانت هناك مقاومةٌ شديدة من السكان المحليين حتى تلك الفترة.

بينما اكتسب استكشاف الأطلسي زخماً جديداً في أواخر القرن الـ15 ولعبت ثلاثة اختراعات ثورية جديدة دوراً في تغيير طريقة إبحار البشر.

  • المركب الشراعي 
  • البوصلة 
  • خرائط بورتولان

وبفضل هذه الاختراعات، حصل بحارة أوروبا على الأدوات و الثقة والفرصة اللازمة لمغادرة أوطانهم، والانطلاق في رحلات طموحة نحو المجهول، كانت غالبية تلك الرحلات برعاية المملكتين البحريتين الكبيرتين في ذلك الوقت: إسبانيا والبرتغال.

  • وصل الإسبان أولاً، حيث حطّت إسبانيا الرحال في الكاريبي بقيادة كريستوفر كولومبوس عام 1492، لتفتح بذلك الباب أمام استعمار أمريكا الشمالية والوسطى.
  • البرتغال لم تقف مكتوفة الأيدي، وبعد بضع سنوات، وصل البرتغالي بيدرو ألفاريز كابرال إلى البرازيل ثم تقدم من هناك إلى أفريقيا ليؤسس بؤراً استعمارية بطول سواحلها.

واستغلت البرتغال تلك البؤر لرسم طريقٍ جديد يمر حول رأس الرجاء الصالح من أجل بلوغ جنوب وشرق آسيا، بمجرد أن استطاع الأوروبيون دخول الأطلسي والخروج منه، صارت المجتمعات المنعزلة سابقاً جزءاً من منظومة سياسية واقتصادية وعسكرية متشابكة.

لقد كانت خطوةً كبيرةً على طريق التواصل العالمي والتجارة الدولية، لكن بمجرد اكتشاف تلك الأراضي، سعت إسبانيا والبرتغال إلى احتكار مكاسبها بتوقيع معاهدة توردسيلاس عام 1494، ونصت المعاهدة على رسم خط عمودي طويل يقطع المحيط الأطلسي بالكامل ويُقسِّمه بين المملكتين الأيبيريتين، وأصبحت كل الأراضي غرب الخط ملكاً لإسبانيا، بينما حصلت البرتغال على كل ما يقع شرق الخط.

عصر الاستكشاف

وبدت الخطة جيدةً آنذاك، لكن مشكلة الخطوط المرسومة على الخرائط هي أنها ليست مُجديةً في غياب الأدوات اللازمة لفرضها، وقد رفضت دول فرنسا وبريطانيا وهولندا الاتفاق الإسباني البرتغالي، وأطلقت رحلاتها الخاصة لعبور الأطلسي، ويُشار إلى تلك الفترة عادةً باسم “عصر الاستكشاف”، الذي انتهى باستعمار سائر الأراضي الأمريكية على يد القوى الأوروبية في العقود التالية.

كان الدافع الرئيسي لذلك التوسع المعقد والمُرهِق بسيطاً: التعطُّش المستمر لدخلٍ بالنقود المعدنية، إذ كان المال ضرورياً لدعم جيوش أوروبا الدائمة الضخمة، التي حافظوا على وجودها منذ أواخر العصور الوسطى، وجاء ذلك متبوعاً بسباقات تسلُّح باهظة.

ثم تقاتلت الشعوب الأوروبية على حقوق النهب والاستعمار، لكن العالم الجديد كان مليئاً بالخيرات،ركز البرتغال والإسبان على استعمار الكاريبي وامريكا الجنوبية، فاستغلوا العداوات في ساحات المعارك المحلية لخدمة مصالحهم الخاصة.

واستفادت إسبانيا من سلسلة الحروب الأهلية التي اندلعت داخل إمبراطوريتي الإنكا والآزتك، ثم أطاحت بالقوى المحلية المُسيطرة،بينما اعتمدت البرتغال على حلفائها المحليين لخوض القتال الفعلي، ثم تخلصت منهم بعدها.

واتسعت السيطرة الإسبانية والبرتغالية على القارة تدريجياً وسرعان ما بدأت تظهر نخبة جديدة ذات أصول أوروبية وأمريكية معاً، وفي الوقت ذاته، ركّز البريطانيون والفرنسيون على الاستيلاء على أمريكا الشمالية، وكان الوضع في الشمال مختلفاً عن الجنوب، فبدلاً من الممالك المركزية، كان الشمال مليئاً برُقع من التحالفات والقبائل غير المنظمة التي تحكم الأرض.

الاستعمار في الأمريكتين

وعند وصول البريطانيين والفرنسيين، لم تكن لدى تلك التحالفات المحلية غير المنظمة أي سلطةٍ قهرية، ولم يكن لديها حكام أقوياء يمكنهم التفاوض أو قبول الهزيمة نيابةً عن شعوبهم، ولهذا توسّعت المستعمرات البريطانية والفرنسية بشكلٍ مطرد، بينما لم يكن أمام القبائل الأصلية خيار سوى التراجع نحو الداخل، أي إن السكان الأصليين  في أمريكا الشمالية لم يموتوا بسرعة، بل كان زوالهم بطيئاً ومؤلماً.

وعلى كل حال، سجّلت فترة الاستعمار في الأمريكتين واحدةً من أعلى معدلات العنف في تاريخ الكوكب، وبحلول القرن الـ16، خاضت القوى الأوروبية معارك بحرية شرسة فيما بينها للهيمنة على التجارة البحرية واحتلال أراضٍ جديدة.

وفي الوقت ذاته، بدأ المحيط الأطلسي يتحوّل إلى مركز رئيسي لتجارة المواد الخام، والبضائع المُصنّعة، والعبيد بالطبع، وقد كانت هناك الكثير من الخيرات المتاحة للنهب والسرقة، لكن التفاعل بين العالمين الجديد والقديم لم يكن مادياً فقط، بل شمل تبادل الأفكار والثقافات أيضاً.

وكانت حقبة التبادل الكولومبي تحديداً فترة تبادلٍ حيوي وثقافي بين الأمريكتين وبين أوروبا.

  • دخلت أطعمة جديدة أوروبا للمرة الأولى، مثل الذرة الشامية والبطاطس والتبغ.
  • وصل القمح والقهوة وقصب السكر إلى الأمريكتين
  • ترك هذا التبادل أثراً جوهرياً على الزراعة، والأنظمة الغذائية، والاقتصادات العالمية
  • تجارة العبيد عبر الأطلسي ازدهرت، إذ جرى نقل ملايين الأفارقة إلى الأمريكتين قسرياً ليصبحوا عبيداً
  • تركت هذه التجارة الوحشية أثراً دائماً على شعوب، وثقافات، ومجتمعات الأمريكيتين، خاصةً في الولايات المتحدة والبرازيل.

إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية

وإجمالاً، لعبت التفاعلات الثلاثية بين أوروبا وأفريقيا والأمريكتين دوراً كبيراً في نمو التجارة الدولية، كما أرست دعائم شبكات التجارة العالمية المعاصرة، وبحلول القرنين الـ17 والـ18، صار المحيط الأطلسي واحداً من الأسباب الرئيسة لازدهار أوروبا.

فبفضل تداول الثروة، استطاع الأوروبيون تمويل وبناء وتطوير ممتلكاتهم الاستعمارية في الأمريكتين، وأفريقيا، وآسيا، لكن الحفاظ على التنظيم الفعال للمستعمرات، وعملها على مدار الساعة، أثقل كاهل الحكومات المركزية الأوروبية بمسؤوليات متزايدة.

ونتيجةً لذلك:

  • جرى وضع أنظمة قانونيةٍ جديدة
  • برزت لغات جديدة
  • تطورت ثقافات جديدة بمرور الوقت
  • كوّنت بعض مستعمرات الأمريكتين هويات مختلفة ومتميزة 

وكان لتلك التجربة المجتمعية تداعيات بعيدة المدى على العالم المعاصر إذ أعادت تشكيل الجغرافيا السياسية حتى يومنا هذا، وفي الفترة نفسها عام 1823 تحديداً، أصدرت الولايات المتحدة مبدأ مونرو، الذي اعتبر نصف الكرة الغربي جزءاً من فنائها الخلفي.

ومنذ ذلك الوقت، تغيّرت موازين القوى بين شاطئي الأطلسي.

إذ أسهمت دبلوماسية مدافع الأسطول الأمريكية في إبقاء الأوروبيين بعيداً عن أماكن مثل كوبا، وهايتي، وبنما، وجامايكا، وجمهورية الدومينيكان، وأسفر هذا عن تراجعٍ متواصل في النفوذ الأوروبي داخل الأمريكتين، لهذا وجّهت أوروبا أنظارها صوب أفريقيا.

التسابق على أفريقيا

وبحلول القرن الـ19، أصبح من الممكن التوغل في عمق أفريقيا واحتلال قارة الثروات الوفيرة بفضل الابتكارات في مجالي النقل والتسليح، وكانت تلك الفترة تُعرف باسم فترة “التسابق على أفريقيا”، وسرعان ما فرضت بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، وبلجيكا سيطرتها على مختلف أجزاء القارة.

وتحركت تلك الدول بشكلٍ عام لخدمة مصالحها الاقتصادية، ومكانتها الوطنية، وأفضليتها الاستراتيجية، لكن أفريقيا تغيّرت جوهرياً ولن تعود منظومتها الاجتماعية والسياسية كما كانت مطلقاً.

وعلى نحوٍ مماثل، أدت الابتكارات الجديدة في مجال الشحن إلى تسريع التجارة عبر الأطلسي، ومع اختراع السفن البخارية، أصبح بإمكان المرء السفر من لندن إلى نيويورك في 15 يوماً فقط، وهو ما فعله الكثيرون، إذ هاجر الملايين من الأوروبيين إلى الأمريكتين، وخاصةً الولايات المتحدة.

وأدى اندماج المجتمعات إلى ظهور ثقافات ولغات وأفكار جديدة وتطورّ نسيج من المجتمعات المتنوعة في الأمريكتين وأوروبا وأفريقيا، وترك هذا التبادل أثراً دائماً على الفن، والموسيقى، والأدب، والمطبخ.

كما قفز تعداد سكان الولايات المتحدة ليتجاوز تعداد سكان الدول الأوروبية، ومن أجل التكيُّف مع الحركة الضخمة للأفراد والبضائع حينها شهدت موانئ روتردام، وأنتويرب، وهامبورغ، وفيليكستو، ونيويورك، وميامي، وسان خوان فترة نمو استثنائي، وفي الوقت ذاته، أسفرت زيادة سعة الشحن والبضائع عن ظهور وجهات تجارية أكبر، وأكثر من ذي قبل، وازدادت كثافة التجارة العالمية بدرجةٍ استدعت حفر قنوات جديدة لتسريع تدفق البضائع.

  • في المتوسط، ألغت قناة السويس الحاجة إلى الرحلة الطويلة حول رأس الرجاء الصالح.
  • لم تعد هناك حاجة إلى السفر حول كيب هورن بفضل قناة بنما.
  • أصبح شمال الأطلسي متصلاً بالمحيطين الهندي والهادئ مباشرةً عبر هاتين القناتين.
  • مطلع القرن الـ20، أصبحت الرحلات الجوية فوق الأطلسي ممكنةً بفضل اختراع الطائرات.
  • صار السفر من أحد شاطئي المحيط إلى الآخر أسرع وأقل تكلفة.

وكان تشارلز لندبرغ أول شخصٍ يسافر في رحلةٍ جوية منفردةٍ فوق الأطلسي بلا توقف عام 1927، واستغرق نحو 33 ساعة ونصف للتحليق من نيويورك إلى باريس، بينما كانت السفن تستغرق نحو أسبوعين لإتمام الرحلة آنذاك.

ولهذا قلبت رحلة لندبرغ الجوية كل الموازين، إذ بدأت المسارات الجوية تحل محل الطرق البحرية بخطى ثابتة وواثقة.

التعاون الأطلسي

وأدى هذا إلى تعزيز التبادلات الثقافية والتجارية بين جانبي المحيط بقدرٍ أكبر، وصار السفر الجوي شائعاً جداً لدرجة أن أمريكا الشمالية وأوروبا طورتا علاقةً خاصة صارت تُعرف بـ”التعاون الأطلسي”.

  • جرت مزامنة الروابط الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية والأمنية.
  • ظهر تقارب إقليمي غير مُعلن بين أوروبا وأمريكا الشمالية
  • تمحور حول المبادئ الليبرالية الغربية.
  • جاءت السيطرة الأوروبية الأمريكية على سائر المنطقة الجغرافية للأطلسي لتُحوِّل القوى الغربية إلى قوى مُهيمنة عالمياً.
  • امتزجت الجغرافيا السياسية لكلتا القارتين معاً.

فما يحدث في أوروبا يؤثر على رفاه الولايات المتحدة، والعكس صحيح، وانتشرت القوات الأمريكية داخل أوروبا في مناسبتين بهدف القتال لأجل مصالحها ومصالح حلفائها.

وإبان الحرب العالمية الثانية، تحوّل النصف الشمالي من الأطلسي إلى ساحة معركةٍ ستحدد ملامح النظام العالمي الجديد، إذ استخدم الألمان الغواصات والمدمرات للسيطرة على تدفقات الأسلحة والجنود والمُؤن من أمريكا إلى أوروبا.

وحتى بعد نهاية الأعمال العدائية، أسفر الصراع لتحقيق هيمنة الأطلسي عن إنشاء عدة تحالفات وهياكل مؤسسية، وهذا يشمل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية وغيرها.

واعتمد تصميم تلك المنظمات على اللوائح القانونية بهدف الترويج للاستقرار والرخاء والأمن، ولم يحدث أمر كهذا في تاريخ العالم من قبل، كما أن التحرك بمقتضى القواعد لم يكن أمراً سهلاً أو عملياً في بعض الأحيان، لكن بناء مؤسسات الأطلسي أرسى دعائم ما بات يُعرف اليوم باسم القانون الدولي، وهو عبارة عن مجموعة من الاتفاقيات والقواعد العامة التي تُشرف على التفاعلات بين الدول.

وبعد ختام الحرب العالمية الثانية، برز الاتحاد السوفيتي بصفته العدو الجديد للتكتل الليبرالي الغربي، لهذا سنجد أن الدول المجاورة لشمال الأطلسي أبرمت معاهدة عسكرية لمراقبة النفوذ السوفيتي والسيطرة عليه، وفي عام 1949، تحوّلت المعاهدة إلى منظمة حلف شمال الأطلسي أو (الناتو) وتمثّلت مهمتها في تأسيس كيان دفاعي مشترك ضد التهديد السوفيتي.

ولم يكن هناك بديل عن الناتو إبان الحرب الباردة، وجرى بناء قواعد غواصات وقواعد جوية جديدة في الدنمارك وألمانيا وإيطاليا وتركيا وذلك لرصد تحركات الأسلحة السوفيتية في بحر الشمال والمتوسط والبلطيق، وبفضل هذه الجهود الجماعية، ظل الاتحاد السوفيتي تحت رحمة قبضة الناتو الصارمة.

لكن الاتحاد السوفيتي بدأ الانهيار من الداخل في النهاية بحلول عام 1989، وفقد حلف الناتو جدواه كمنظمة موازية، فانخفضت ميزانيات الدفاع وعاشت أوروبا فترة سلامٍ طويلة، وغيّرت العديد من الدول الشيوعية السابقة في وسط وشرقي أوروبا مواقفها، وانضمت إلى حلف الناتو في المقابل، وقد تستغرق الأمم عقوداً قبل أن تفاجئها حقائق جيوسياسية جديدة على الأرض.

 حدث هذا مع أوروبا في عام 2014، حين غزت روسيا منطقة القرم الأوكرانية، وبدأ الناتو يستعيد أهميته المفقودة وغرضه الرئيسي بوتيرةٍ ثابتة، وفي وقتنا الراهن، سنجد أن الناتو يضم 32 من الدول الأعضاء، بعدما انضمت إليه فنلندا عام 2023، وانضمت السويد عام 2024.

وفي الوقت ذاته، هناك كابلات تنقل البيانات بين أمريكا الشمالية وأوروبا تحت الماء بطول المحيط، وجرى مد تلك الكابلات البحرية للمرة الأولى في القرن العشرين، ثم بدأ نطاقها في الاتساع منذ ذلك الحين.

ويُمكن القول باختصار إن هذه الكابلات ضرورية من أجل التقارب الإقليمي بين أوروبا وأمريكا الشمالية، ومن أجل التعاون الأطلسي الليبرالي المعاصر.

المحيط الأطلسي يخسر أمام الهادئ

لكن الأطلسي يخسر بوتيرةٍ ثابتة إجمالاً لصالح محيطٍ آخر أكبر منه مساحة: المحيط الهادئ، إذ لا يُقارن حجم التجارة العابرة للأطلسي بالتجارة التي تمر عبر الهادئ، فقد ضمنت اليابان والهند وكوريا الجنوبية والصين حصتها السوقية لتقلب الموازين لصالح آسيا.

لهذا سنجد أن موازين الثقل السياسي والاقتصادي والدبلوماسي تميل أكثر فأكثر لصالح المحيط الهادئ، ومن المرجح أن يستمر هذا الوضع في المستقبل القريب، وتُعتبر الصين مصدر التهديد الجديد للتكتل الغربي في القرن الـ21، ويُعد بحر الصين الجنوبي تحديداً موقعاً للصراع والنزاع الساخن.

إذ يضغط الأمريكيون من أجل تقوية تواجدهم في المناطق القريبة عبر مبدأ استراتيجي يُدعى “الاتجاه نحو آسيا”، لكن ذلك الاتجاه قد يأتي على حساب المحيط الأطلسي، الذي يُنهي دورته الطبيعية كمسرحٍ مركزيٍ للسياسة الدولية، ومع تكشُّف الأحداث ونضج المحيط الهادئ أكثر؛ ستصبح الأمور واضحةً وضوح الشمس.

لقد بدأ العالم القديم دورة وفاته، بينما يكافح العالم الجديد لميلاد حياته.

عربي بوست

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post الأميرة أستريد تقود مهمة اقتصادية مهمة إلى البرازيل
Next post السمنة لدى الخلايا الدهنية والحفاظ على وزنك