عبد الله جمال
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_أعلنت شركتا “أوبن إيه آي” (OpenAI) و”إنفيديا” (Nvidia)، في 12 سبتمبر 2025، عن شراكة استراتيجية تهدف إلى ضخ استثمارات ضخمة في مجال البنية التحتية للذكاء الاصطناعي داخل المملكة المتحدة، مع تركيز خاص على تطوير مراكز البيانات المتقدمة. وقد كشفت شركة إنفيديا عن خطتها لإنشاء ما أسمته “مراكز بيانات للذكاء الاصطناعي” في الأراضي البريطانية، بالتعاون مع شركاء من أبرز شركات التكنولوجيا، من بينهم “كور ويف” (CoreWeave) و”مايكروسوفت” (Microsoft) و”إن سكيل” (Nscale). وتشير التقديرات إلى أن حجم الاستثمارات سيصل إلى نحو 11 مليار جنيه إسترليني، لدعم البنية التحتية السيادية للذكاء الاصطناعي، وتمكين تطوير النماذج المحلية داخل المملكة المتحدة. وتأتي هذه الخطوة في ضوء جهود المملكة المتحدة لتعزيز قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي وتدعيم طموحاتها السيادية في هذا القطاع الحيوي، بما يؤهلها لاحتلال موقع استراتيجي مثالي للاستثمار في تكنولوجيا المستقبل، نظراً لما تمتلكه من بيئة علمية واقتصادية مشجعة ومرنة.
محفزات النموذج البريطاني
وقع اختيار شركتي إنفيديا وأوبن إيه آي على بريطانيا لضخ استثماراتها دون عن غيرها من الدول الأوروبية للعديد من الأسباب التي تتمثل فيما يلي:
1- احتضان بيئة بحثية وعلمية رائدة: تتمتع بريطانيا ببيئة بحثية متقدمة تشكل العمود الفقري لطموحاتها في قيادة سباق الذكاء الاصطناعي؛ فهي تحتضن مؤسسات أكاديمية مرموقة مثل معهد “آلان تورينج” (The Alan Turing Institute) وهو المعهد الوطني البريطاني المتخصّص في علوم البيانات والذكاء الاصطناعي، ويجذب نخبة من المتخصصين والمواهب العالمية ويغذي منظومة الابتكار المحلية، وتُعزّز جامعات أكسفورد وكامبريدج وإمبريال كوليدج لندن هذه الريادة عبر برامج تعليمية وبحثية متخصصة ذات مستوى عالمي، تُركّز على الذكاء الاصطناعي الأخلاقي، والحوسبة الكمية، وتحليل البيانات الضخمة. كما تلعب هذه الجامعات دوراً متزايداً في صياغة سياسات التكنولوجيا الوطنية، من خلال مراكزها الاستشارية.
2- امتلاكها موقعاً جغرافياً واقتصادياً استراتيجياً: منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، استطاعت بريطانيا تحويل موقعها الجغرافي إلى نقطة وصل استراتيجية بين السوقين الأمريكية والأوروبية، وهو ما منحها ميزة فريدة في استقطاب الاستثمارات التقنية وتبادل الخبرات. فعلى الرغم من مغادرتها الاتحاد الأوروبي، لا تزال لندن تحافظ على شراكات محددة مع الاتحاد الأوروبي في مجالات حساسة، مثل الحوسبة الفائقة للذكاء الاصطناعي من خلال برنامج “EuroHPC” الأوروبي. وفي السياق ذاته، تعزز المملكة المتحدة تعاونها الوثيق مع قطاع التكنولوجيا الأمريكي، ما يوفر لشركات الذكاء الاصطناعي البريطانية شبكة مزدوجة من الفرص تتيح لها النفاذ إلى أسواق متعددة وتوسيع نطاق أعمالها عالمياً.
3- وضع أطر تنظيمية مرنة ومحفزة للابتكار: في يناير 2025، نشرت الحكومة البريطانية خطة “فرص الذكاء الاصطناعي”، التي رسمت خطوات عملية للاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات، من تنمية المهارات والبحث والتطوير إلى التبني المؤسسي في القطاع العام وتعزيز التعاون الدولي. كما أصدرت الحكومة في فبراير 2025 دليل الذكاء الاصطناعي للخدمة الرقمية الحكومية، ليكون بمثابة إطار تنفيذي لترجمة قدرات البحث البريطانية إلى مشاريع وطنية قابلة للتوسع، مما يجعل البيئة الاستثمارية في المملكة المتحدة أكثر اتساقاً واستقراراً بالنسبة للشركات والمستثمرين الراغبين في إطلاق مشاريع طويلة الأمد.
4- منح حوافز حكومية قوية: تسعى حكومة المملكة المتحدة إلى ترسيخ موقعها كقوة عالمية في الذكاء الاصطناعي من خلال حزمة من الحوافز المالية والتنظيمية غير المسبوقة؛ ففي إطار مراجعة الإنفاق لعام 2025، خصصت الحكومة البريطانية ملياري جنيه إسترليني لتسريع تنفيذ خطة عمل “فرص الذكاء الاصطناعي”، مع التركيز على تطوير البنية التحتية للحوسبة، وتنمية المهارات البشرية، وتوسيع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في القطاع العام. كما تتضمن الخطة التزاماً بزيادة الإنفاق السنوي على البحث والتطوير في الذكاء الاصطناعي إلى 22 مليار جنيه إسترليني بحلول عام 2029، إلى جانب استثمار قدره 10 مليارات جنيه إسترليني لتحديث أنظمة هيئة الخدمات الصحية الوطنية عبر دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في خدماتها.
5- البنية التحتية المتقدمة للذكاء الاصطناعي: تعمل المملكة المتحدة على بناء منظومة حوسبة من الجيل التالي لتدعيم النمو المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي. وتشمل هذه الجهود إنشاء ما يعرف بـ”مناطق نمو الذكاء الاصطناعي”، وهي مناطق مخصصة مزودة ببنية تحتية متقدمة للحوسبة والطاقة، تمكن من دعم عمليات تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتشغيلها بكفاءة على نطاق واسع. كما تخطط الحكومة لإقامة شبكة من مراكز البيانات عالية السعة مزودة بأنظمة طاقة مستدامة، بهدف الوصول إلى سعة إجمالية تبلغ 6 جيجاوات من مراكز البيانات المتخصصة بالذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.
6- اتساع حجم سوق الذكاء الاصطناعي البريطاني: أصبحت المملكة المتحدة لاعباً رئيسياً في الاقتصاد العالمي للذكاء الاصطناعي، إذ يقدر حجم سوقها بنحو 92 مليار دولار (72.3 مليار جنيه إسترليني) عام 2024، ما يجعلها ثالث أكبر سوق عالمي بعد الولايات المتحدة والصين، وهو ما يعكس التبني الواسع لتقنيات الذكاء الاصطناعي في قطاعات رئيسية مثل: الرعاية الصحية، والقطاع المالي، والخدمات العامة. كما يُظهر ارتفاع الاستثمارات الخاصة، التي بلغت مؤخراً 44 مليار جنيه إسترليني في مشاريع مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي منذ يوليو 2023، مدى نضج المنظومة التقنية البريطانية وثقة المستثمرين بها.
7- استقطاب المواهب التكنولوجية الرائدة: تعمل الحكومة البريطانية على استقطاب المواهب العالمية عبر برامج تأشيرات مخصصة مثل برنامج المواهب العالمية للتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، إلى جانب خطط المنح الدراسية الجديدة التي أعلنت عام 2025 لدعم الباحثين والمبتكرين في هذا المجال. وقد تم في العام نفسه تبسيط إجراءات التأشيرات ومسارات الاعتماد، في خطوة تؤكد أن المملكة المتحدة تسعى لتقديم نفسها كمركز عالمي يستطيع خبراء الذكاء الاصطناعي العيش والعمل والابتكار فيه، وهو عامل حاسم في جذب فرق التطوير الدولية لتأسيس مقارها البحثية في البلاد.
تداعيات متوقعة
من المتوقع أن يؤدي قيام شركتي “أوبن إيه آي” (OpenAI) و” إنفيديا” (Nvidia) بضخ هذه الاستثمارات في بريطانيا إلى عدد من التداعيات التي تتخطى العوائد التكنولوجية، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:
1- تعزيز مكانة لندن كمركز عالمي للذكاء الاصطناعي: يشكل التوسع المتسارع لشركات الذكاء الاصطناعي في بريطانيا عنصراً رئيسياً لترسيخ مكانة لندن كعاصمة عالمية للتكنولوجيا الذكية، حيث زاد عدد شركات الذكاء الاصطناعي في المملكة المتحدة بنسبة تزيد على 600% خلال السنوات العشر الماضية، لتصبح أكبر تجمع من نوعه في أوروبا، مما يسهم في جذب رأس المال الاستثماري العالمي، والمواهب التقنية، والشراكات البحثية، وهو ما يخلق بيئة متكاملة تحفز الابتكار وتعزز قابلية الشركات على التوسع والنمو. ووفقاً لإدارة التجارة الدولية الأمريكية، من المتوقع أن ينمو سوق الذكاء الاصطناعي في المملكة المتحدة إلى تريليون جنيه إسترليني بحلول عام 2035.
2- تعدد المكاسب الاقتصادية والتشغيلية: يحقق قطاع الذكاء الاصطناعي المزدهر في المملكة المتحدة عوائد اقتصادية فورية وملموسة، تتجلى في خلق فرص عمل جديدة، وزيادة الإنتاجية، وتحسين عمليات اتخاذ القرار عبر مختلف القطاعات؛ فقد بلغت قيمة سوق الذكاء الاصطناعي البريطاني نحو 92 مليار دولار في عام 2024، ويعمل فيه أكثر من 360 ألف شخص ضمن منظومة متنامية تشمل الشركات، والمؤسسات البحثية، والهيئات الحكومية. وتشير التقارير إلى أن الشركات التي تبنت تقنيات الذكاء الاصطناعي شهدت قفزات كبيرة في الكفاءة التشغيلية وخفضاً في التكاليف وتحسيناً لتجربة العملاء، ولا سيما في مجالات الرعاية الصحية، والخدمات المالية، والخدمات العامة. كما يسهم اعتماد القطاع العام للذكاء الاصطناعي في تسريع هذه المكاسب على نطاق وطني، ما يؤدي إلى رفع الإنتاجية الإجمالية وتعزيز النمو الاقتصادي طويل الأمد.
3- تحول توازن القوى داخل أوروبا: يعيد صعود بريطانيا في مجال الذكاء الاصطناعي رسم خريطة النفوذ التكنولوجي داخل أوروبا، بشكل يضع المملكة المتحدة في موقع محوري في مستقبل أوروبا الرقمي رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي. فعلى سبيل المثال، جمعت الشركات الناشئة في المملكة المتحدة تمويلاً استثمارياً أكبر من أي دولة أوروبية أخرى في النصف الأول من عام 2025، حيث بلغ 8 مليارات دولار، مقارنة بـ4.4 مليار دولار في ألمانيا، و3.2 مليار دولار في فرنسا.
كما يشجع هذا الأمر بعض الشركات متعددة الجنسيات على توجيه استثماراتها نحو المملكة المتحدة للاستفادة من بيئتها القانونية المرنة الناطقة بالإنجليزية ورأس مالها العالمي، في الوقت الذي تحتدم فيه المنافسة الأوروبية على استقطاب المواهب ومراكز البحث والتطوير، ما يُنذر بمرحلة من التنافس الاستراتيجي المكثف على قيادة الابتكار في أوروبا الغربية.
4- دعم التحالف الغربي ضد بكين: يمتد تأثير توسع المملكة المتحدة في الذكاء الاصطناعي إلى التنافس بين الولايات المتحدة والصين على الريادة التكنولوجية؛ حيث إن بريطانيا تعزز موقعها كحليف غربي رئيسي ومؤيد للابتكار، من خلال شراكات وثيقة مع واشنطن في مجالات أمن الذكاء الاصطناعي، والأطر التنظيمية، واستراتيجيات الاستثمار. وتجسد استثمارات الشركات الأمريكية العملاقة -مثل مايكروسوفت وإنفيديا- في البنية التحتية البريطانية للذكاء الاصطناعي عمق هذا الارتباط. كما تسهم في بناء قدرات سيادية أوروبية داعمة للتحالف الغربي تحد من الهيمنة الصينية. وفي المقابل، قد يدفع هذا التوجه بكين إلى تسريع تطوير منظوماتها المحلية للرقائق والحوسبة السحابية، في محاولة للحفاظ على التوازن التكنولوجي العالمي.
5- تحديات البنية التحتية والطاقة: رغم الزخم الاستثماري الكبير، تواجه المملكة المتحدة تحديات هيكلية تتعلق بالبنية التحتية والطاقة الضرورية لدعم طفرة الذكاء الاصطناعي؛ فتعهدات الاستثمار لعام 2025 تتطلب تخطيطاً دقيقاً للبنية التحتية يشمل اتفاقيات شراء طاقة طويلة الأمد، وتعزيز قدرات الشبكة الكهربائية، وتسريع الحصول على التصاريح البيئية والمحلية. وقد يؤدي ضعف التنسيق بين سياسات الطاقة ومواقع مراكز البيانات إلى اختناقات تشغيلية وتأخير في التنفيذ، أو حتى توترات سياسية محلية، ما قد يبطئ تحقيق العوائد الاقتصادية المتوقعة.
6- تفاقم المخاوف السيادية والأمنية: من المرجح أن يؤدي الاعتماد المتزايد على البنية التحتية الرقمية الأمريكية إلى حالة انكشاف للبيانات الحساسة في المملكة المتحدة، خاصة في ظل خضوع الشركات الأمريكية لقوانين مثل قانون “CLOUD Act”، الذي يتيح للحكومة الأمريكية الوصول إلى بيانات هذه الشركات حتى وإن كانت مخزنة خارج الأراضي الأمريكية، ويأتي هذا القلق متجدداً في ضوء الصفقة الأخيرة بين “إنفيديا” (Nvidia) و”أوبن إيه آي” (OpenAI)، فعلى الرغم من أن الاتفاق من شأنه أن يعزّز قدرة بريطانيا على استضافة أنظمة حوسبة فائقة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، فإنه يرسّخ أيضاً الاعتماد البريطاني على شركات أمريكية خاضعة لرقابة واشنطن القانونية والتنظيمية
7- ارتفاع الطلب على المواهب لمواكبة ديناميكيات السوق: يسهم النمو المتسارع لقطاع الذكاء الاصطناعي في تعميق الطلب على الكفاءات المتخصصة، مما يدفع الحكومة والشركات إلى تنفيذ برامج واسعة النطاق لسد فجوة المهارات الوطنية من خلال التعليم والتدريب واستقطاب المواهب الدولية. وفي الوقت نفسه، تعيد الشركات الناشئة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تشكيل المشهد التنافسي، مما يجبر الشركات التقليدية على تبني التكنولوجيا الجديدة أو مواجهة خطر التراجع وفقدان حصتها في السوق.
ختاماً، في ضوء الصفقة بين “إنفيديا” (Nvidia) و”أوبن إيه آي” (OpenAI)، يمكن القول إن المملكة المتحدة تدخل مرحلة جديدة من سباق الذكاء الاصطناعي العالمي، حيث تجمع بين الفرص الاقتصادية الضخمة والمخاطر الاستراتيجية العميقة. فالاستثمارات المخطط لها تضع لندن في قلب البنية التحتية للحوسبة المتقدمة، وتمنحها موقعاً تنافسياً قوياً داخل أوروبا، لكنها في الوقت ذاته تكشف هشاشة السيادة الرقمية البريطانية أمام التشريعات الأمريكية التي تُخضع شركات التقنية الكبرى لرقابة واشنطن.
وإن نجاح بريطانيا في هذه المرحلة لن يُقاس فقط بحجم الاستثمارات أو عدد مراكز البيانات، بل بقدرتها على تحويل هذا الاعتماد الخارجي إلى شراكة متكافئة تدعم استقلال قرارها التقني، وتحمي بياناتها الوطنية، وتضمن أن تكون مركزاً منتجاً للذكاء الاصطناعي لا مجرد مستضيف له. وإذا تمكنت من تحقيق هذا التوازن بين الانفتاح على رأس المال الأمريكي وترسيخ السيادة التكنولوجية المحلية، فستتحول الصفقة من مشروع استثماري ضخم إلى ركيزة استراتيجية لنهضة بريطانية جديدة في ميدان الذكاء الاصطناعي العالمي.
انترريجورنال للتحليلات الاستراتيجية
