
كرم سعيد
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_تُبدِي دمشق اهتماماً لافتاً بتطوير العلاقات مع باريس؛ حيث أجرى رئيس الإدارة الانتقالية السورية أحمد الشرع زيارة هي الأولى من نوعها إلى فرنسا في 7 مايو 2025، بدعوة من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون. وحملت الزيارة أهميةً استثنائيةً، خاصةً في ظل مساعي باريس إلى تأكيد أولوية بناء دولة سورية مدنية تعددية، بالإضافة إلى قناعة باريس بأن مكافحة الإرهاب وضبط تدفق المهاجرين ومكافحة تهريب المخدرات، بجانب مستقبل لبنان، كل ذلك يظل مرتبطاً بشكل كبير بالوضع في سوريا، كما تأتي الزيارة في إطار محاولات دمشق تطوير فرص التعاون الأمني والسياسي مع باريس خلال الفترة المقبلة؛ بهدف رفع العقوبات المفروضة على دمشق، التي باتت تمثل تحدياً للسلطات السورية؛ ولذا استهدفت الزيارة التوصل إلى اتفاقات جديدة بشأن زيادة حجم الدعم الفرنسي.
تحركات محفزة
ثمة مجموعة من المحفزات الفرنسية التي تدفع دمشق نحو الحرص على تطوير العلاقات مع باريس، وهو ما يمكن بيانه كالتالي:
1– ترحيب باريس بصعود الشرع: قدَّمت باريس، خلال الأشهر الأخيرة، دعماً دبلوماسياً لافتاً للإدارة الانتقالية السورية، كان آخرها إعلان الإليزيه في بيانٍ له في 6 مايو 2025 دعم فرنسا لبناء سوريا جديدة حرة ومستقرة وذات سيادة تحترم كل مكونات المجتمع السوري، وأضاف أن “زيارة الشرع إلى باريس تندرج في إطار التزام فرنسا التاريخي تجاه السوريين الذين يتطلعون إلى السلام والديمقراطية”، كما سبقت هذه التصريحات، زيارة وفد فرنسي في 17 ديسمبر 2024 إلى دمشق، ثم زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو في 3 يناير 2025، كما يشار إلى تعيين باريس في أبريل 2025 جان باتيست فافر قائماً بالأعمال في دمشق، في خطوة نحو إعادة فتح سفارتها بالكامل، بالإضافة إلى تلقي الشرع في فبراير ومارس 2025 الدعوة الرسمية لزيارة باريس.
2– توفير حاضنة دولية للإدارة السورية الجديدة: لعبت فرنسا دوراً محورياً في محاولة تحفيز المجتمع الدولي لدعم سوريا بعد سقوط نظام الأسد. وتجلَّى ذلك في مشاركة فرنسا في إعداد ورقة “إعادة التفكير في سياسة العقوبات على سوريا”، التي قدمتها بالمشاركة مع بعض دول الاتحاد الأوروبي في 27 يناير 2025، كما استضافت باريس “مؤتمر دعم سوريا” في 13 فبراير 2025، بمشاركة أكثر من 20 دولة، وهو المؤتمر الذي أكد أهمية دعم الانتقال السياسي، ورفع العقوبات، وتقديم الدعم الإنساني لسوريا، بالإضافة إلى التزام الدول المشارِكة بتعزيز التعاون الأمني لمحاربة التنظيمات الإرهابية في سوريا.
3– ترويج باريس لصورة إيجابية للإدارة السورية الجديدة: أبدت باريس اهتماماً لافتاً بتلميع صورة الإدارة السورية الجديدة، وهو ما تجلى في تأكيد الرئيس ماكرون، في المؤتمر الصحفي مع نظيره السوري، أن إدارة الشرع نجحت في تحييد تجارة الكبتاجون، بالإضافة إلى دوره في مواجهة النشاط العملياتي للتنظيمات الإرهابية.
أهداف حاكمة
ترتبط زيارة الشرع إلى باريس، التي تعد الأولى من نوعها إلى دولة أوروبية، بالرغبة في تحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1– توظيف نفوذ باريس الدولي لرفع العقوبات على سوريا: تسعى دمشق إلى استثمار النفوذ الفرنسي في الكيانات والمؤسسات الدولية، وخاصة العضوية الفرنسية الدائمة في مجلس الأمن، بالإضافة إلى موقع باريس في الاتحاد الأوروبي؛ من أجل دعم جهود رفع العقوبات المفروضة على سوريا، كما أن الرئيس السوري أحمد الشرع لا يزال خاضعاً لحظر سفر فرضته الأمم المتحدة. وعلى ضوء ذلك، فإن الإدارة الانتقالية في سوريا تُعوِّل على الثقل الدولي لباريس لدفع جهود رفع العقوبات، وتأمين مصالح دمشق.
إذ باتت العقوبات المفروضة على دمشق تمثل تحدياً للسلطات السورية؛ لذلك سعى الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى استثمار هذه الزيارة للتوصل إلى اتفاقات جديدة بشأن زيادة حجم التعاون مع فرنسا على كافة المستويات، بما يخفف الارتدادات العكسية للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا منذ عهد الرئيس السابق بشار الأسد. ويُلاحَظ أن الترحيب الذي حظي به الشرع في باريس، قد يساهم في تطوير الصورة الذهنية للدولة السورية الجديدة، ويؤكد قدرتها على التأثير في المعادلة السياسية الدولية، أو على الأقل إمكانية التأثير في التفاعلات الإقليمية.
2– إعادة بناء العلاقة مع أوروبا من البوابة الفرنسية: وفقاً لبعض التقديرات، فإن دمشق تعتبِر فرنسا حالياً هي اللاعب الرئيسي في الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الدعم الألماني والبريطاني للرؤية الفرنسية بشأن الملف السوري، وهو ما يُوفِّر لدمشق فرصاً أكبر لإعادة بناء علاقاتها الأوروبية عبر البوابة الفرنسية، كما يراهن الشرع على توظيف الزيارة لتبديد الشكوك المتزايدة بشأن القيادة السورية الجديدة، لا سيما بعد أعمال العنف التي استهدفت الأقليات، والتجاوزات التي ارتكبتها مجموعات متطرفة محسوبة على السلطة في دمشق، ناهيك عن تشوهات لا تزال عالقة بشأن صورة الشرع لدى قطاعات واسعة من الأوروبيين؛ بسبب ارتباطه في فترات سابقة بالتنظيمات المسلحة والجماعات المتطرفة. وعلى ضوء ذلك، فإن فرنسا في رؤية الشرع تمثل شريكاً محتملاً قد يُمهِّد لاحقاً لتحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، خاصةً في ظل الحاجة الماسة لسوريا إلى استثمارات ومساعدات دولية لإعادة بناء البنية التحتية والاقتصاد المدمر.
3– دعم جهود إعادة الإعمار في سوريا: مع تقدير البنك الدولي لتكاليف إعادة الإعمار في سوريا بأكثر من 250 مليار دولار؛ يعول الشرع على الدعم الفرنسي، والدور النشط للشركات الفرنسية في جهود إعادة الإعمار، وإصلاح البنية التحتية. ويشار إلى توقيع دمشق اتفاقاً في فبراير 2025 مع مجموعة الشحن والخدمات اللوجستية الفرنسية CMA CGM لتطوير وتشغيل محطة الحاويات في ميناء اللاذقية. ويستهدف الاتفاق الذي تبلغ مدته 30 عاماً، وفقاً للحكومة السورية، تحديث البنية التحتية لمرفأ اللاذقية على ساحل البحر المتوسط، ورفع قدرته التشغيلية ضمن استراتيجية أوسع لإعادة تأهيل المرافئ التجارية في البلاد.
4– تحفيز الوساطة الفرنسية بين “قسد” ودمشق: جاءت زيارة الشرع في ظل استمرار الدعم الفرنسي لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وهو ما ظهر في تأكيد الرئيس ماكرون، خلال المؤتمر الصحفي مع الشرع، أن بلاده “لن تتخلَّى عن المقاتلين الكرد الذين كانوا شركاء في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي”، كما يشار إلى أن ثمة تحركات فرنسية لدعم المكون الكردي السوري، وهو ما ظهر في تسريب وسائل إعلام كردية في يناير 2025 معلومات بشأن تسليم باريس لقوات “قسد” طائرات مُسيَّرة لتوظيفها في المعارك ضد الفصائل الموالية لتركيا.
ويبدو أن التحركات الفرنسية تجاه الملف الكردي لا تروق لدمشق، وهو ما يفسر حرص الشرع خلال الزيارة على محاولة إقناع باريس بالضغط على الكرد للاندماج في مؤسسات الدولة السورية، أو على الأقل لعب دور الوسيط بين دمشق والأكراد السوريين في الملفات الخلافية، خصوصاً بعد إعلان البيان الختامي “للمؤتمر القومي الكردي الموحد” في 26 أبريل 2025 عن التمسك بصيغة نظام حكم لا مركزي فيدرالي؛ ما أثار حفيظة دمشق التي تعارض أي شكل من أشكال الحكم اللامركزي شمال شرق سوريا.
نتائج محتملة
قد تسفر زيارة الشرع إلى باريس عن تنشيط الدور الفرنسي على الساحة السورية؛ إذ يبدو أن اختيار الشرع باريس كمحطة أولى في أول زيارة له إلى أوروبا، قد تسفر عن تنشيط دور باريس على الساحة السورية خلال المرحلة المقبلة، وهو ما ظهر في إعلان الرئيس ماكرون خلال لقائه نظيره السوري في الإليزيه عن استمرار الدعم الفرنسي للدولة السورية؛ الأمر الذي سيفتح المجال أمام توسيع نطاق الحضور الفرنسي هناك، وسيمنح باريس حرية أكبر في الحركة؛ ولذا ربما تفرز هذه الزيارة التوصل إلى تفاهمات جديدة تتعلق بتوسيع نطاق النشاطات التي تقوم بها باريس في سوريا، وربما يدعم هذا الطرح إعلان ماكرون نية بلاده توسيع التعاون مع دمشق، والعمل على زيادة حجم الدعم الاقتصادي والسياسي لسوريا، ومحاولة تقديم الإدارة السورية الجديدة على أنها تمثل نموذجاً يمكن الاعتماد عليه في المستقبل.
فضلاً عن ذلك، تحاول باريس موازنة التحركات التركية في سوريا؛ حيث يكشف استقبال ماكرون للشرع عن اهتمام باريس المتزايد بموازنة تحركات القوى المنافسة على الساحة السورية، وعلى رأسها تركيا. وقد برز هذا الاهتمام بشكل واضح عقب ضغوط تركيا في يناير 2025 على الحكومة الفرنسية لاستعادة مقاتليها المنتمين إلى “داعش”، وهو ما يعكس التوتر الكامن تحت السطح بين باريس وأنقرة على الساحة السورية. وأمام هذا التمدد التركي، تبدو باريس قلقة بشكل خاص من احتمال تهميش حضورها في منطقة المشرق العربي التي تمثل إحدى نقاط الارتكاز المهمة لها لمصلحة تركيا. وهنا، يمكن تفسير استضافة باريس في فبراير 2025 مؤتمراً دولياً لدعم دمشق، وكذلك القمة المصغرة حول سوريا في 28 مارس 2025 بمشاركة اليونان وقبرص ولبنان وسوريا.
ختاماً، يمكن القول إن الشرع يحاول استثمار المواقف الفرنسية الداعمة لدمشق، بجانب تعزيز الانفتاح السوري على القارة الأوروبية، لكن ذلك لا ينفي أن تكون هناك حسابات محلية وخارجية لها دور في التأثير على توجه باريس حيال تطورات الملف السوري؛ إذ يدرك ماكرون الاشتراطات الأمريكية بشأن التعامل مع الإدارة السورية الجديدة، بالإضافة إلى وجود مخاوف قائمة لدى الداخل الفرنسي بشأن الهوية الأيديولوجية للشرع، وهو ما تجلى في انتقاد اليمين الفرنسي المتطرف استقبال الشرع؛ حيث عبَّرت زعيمة التجمع الوطني مارين لوبن عن “الصدمة والاستياء”، واصفةً الرئيس السوري بـ”الجهادي”، وهو قد ما يفرض قيوداً على فرص استفادة دمشق من الانفتاح على باريس.
انترريجورنال للتحليلات الاستراتيجية