0
0
في زحام المدن المعاصرة وصرخات خرسانتها، يخرج فن الشارع كصوت ملون يروي حكايات لا توجد في الكتب الرسمية. لم يعد هذا الفن مجرد شخبطة على الجدران، بل أصبح نظامًا بيئيًا ثقافيًا كاملاً يعكس التغيرات الاجتماعية والسياسية والجمالية في الحواضر العالمية. هذه الدراسة تستعرض تطور هذه الظاهرة وتحلل أبعادها كأداة اتصال جماهيري وتوثيق تاريخي.
١. الجذور التاريخية: من الكهوف إلى واجهات المتاجر الفاخرة
يمكن تتبع الرغبة الإنسانية في ترك علامة على الفضاء العام إلى عصور ما قبل التاريخ، من رسومات الكهوف إلى نقوش المعابد. لكن فن الشارع المعاصر، كما نعرفه اليوم، ولد في أواخر الستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الأحياء المهمشة لمدن مثل فيلادلفيا ونيويورك. كانت البداية مع “العلامات” (Tags) التي كان يتركها الشباب لتأكيد وجودهم في فضاء يرفضهم. سرعان ما تطورت إلى أشكال أكثر تعقيدًا.
جدارية معاصرة تجمع بين الفن التقليدي والتعبير المعاصر في قلب المدينة
في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، انتقلت الموجة إلى أوروبا، وخاصة باريس ولندن وبرلين، حيث اكتسبت طابعًا سياسيًا لاذعًا. المفارقة التاريخية تكمن في أن هذا الفن الذي بدأ كفعل تمرد ضد النظام الرأسمالي والتجاري، أصبح اليوم يُعرض في صالات المزادات ويُستخدم من قبل العلامات التجارية الكبرى، وهو تحول يثير أسئلة عميقة حول طبيعة الفن وعلاقته بالسوق.
٢. لغة بصرية عالمية: كيف تتحدث الجدران؟
يشكل فن الشارع لغة بصرية فريدة تتجاوز الحواجز اللغوية. فهو يعتمد على الإيماءة البصرية المباشرة، الرمز، الكاريكاتير، والتشبيه. في ساو باولو، تستخدم الألوان الزاهية والأشكال العضوية للتعبير عن التنوع البيولوجي والثقافي للبرازيل.
الوظائف الاجتماعية لفن الشارع
- التوثيق: توثيق الأحداث التاريخية من منظور “الشعب”
- الاحتجاج: التعبير عن المطالب السياسية والاجتماعية
- التجميل: تحويل الأحياء المهمشة إلى مساحات جمالية
- خلق الهوية: تعزيز الانتماء المحلي والحيوي
- التساؤل الفلسفي: طرح أسئلة عن الوجود والمجتمع عبر الصورة
بينما في المدن الأوروبية مثل برشلونة، يسود أسلوب أكثر تجريدًا وتقنية (ستنسل، ملصقات). في العالم العربي، أصبح فن الشارع بعد الربيع العربي وسيلة لتخليد شهداء الثورات ونقد الأنظمة، كما في أعمال الفنان التونسية “سيدة الكاريكاتير” أو الفنان المصري “الراحل جان”.
٣. منظور إدارة الأزمات والعلاقات الدولية
من منظور تحليلي استراتيجي، يمكن قراءة فن الشارع كأداة فعالة في إدارة الأزمات والعلاقات الدولية على المستوى الشعبي. في فترات الصراع، يصبح وسيلة سريعة وغير مكلفة لنشر رسائل الوحدة أو المقاومة أو السلام.
كما حدث في بلفاست مع الجداريات التي تحث على المصالحة بين الكاثوليك والبروتستانت. على المستوى الدولي، يمكن للعمل الفني البارز أن يصبح سفيرًا ثقافيًا غير رسمي لمدينته أو بلده، مشكّلاً صورة ذهنية إيجابية.
فنان يبدع جدارية حية تعكس روح المجتمع المحلي
٤. التحديات والمستقبل: بين الأصالة والاستعمار الرقمي
يقف فن الشارع اليوم على مفترق طرق تحده تحديات مصيرية:
- التجارية والاستيعاب: خطر تحوله إلى مجرد ديكور للمقاهي الفاخرة
- التنظيم والمؤسسية: عندما تتبنى البلديات المشروع، قد تفقده عفويته
- الصراع على الفضاء: تنافس شرس بين الفنانين والسلطات والمعلنين
- الاستعمار الرقمي: تحول الأعمال إلى صور على إنستغرام يفصلها عن سياقها
رغم ذلك، المستقبل يحمل إمكانات هائلة مع ظهور تقنيات مثل الواقع المعزز (AR) الذي يمكنه جعل الجداريات “تتحرك” وتحكي قصصًا، أو استخدام الطلاء الذكي القابل للتحكم بحرارته.
خاتمة: نحو فضاء عام إنساني
في نهاية المطاف، يذكرنا فن الشارع بأن المدينة ليست مجرد كتلة إسمنتية، بل هي كائن حي يتنفس عبر سكانه. هذا الفن هو أحد أنفاسها الأكثر صدقًا وحيوية. دراسته ليست ترفًا جماليًا، بل ضرورة لفهم ديناميكيات القوة، والذاكرة، والهوية في الحضر المعاصر.
المراجع والمصادر
- Young, A. (2016). Street Art, Public City: Law, Crime and the Urban Imagination. Routledge.
- Schacter, R. (2014). The World Atlas of Street Art and Graffiti. Yale University Press.
- Ferrell, J. (1996). Crimes of Style: Urban Graffiti and the Politics of Criminality.
- د. عوكل، هشام. (2024). التواصل في زمن الأزمات: أدوات غير تقليدية.
- شبكة المدار الإعلامية الأوروبية. (2024). أرشيف تقارير عن الحراك الثقافي.
