
عمرو عبد العاطي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_منذ بداية الولاية الثانية لدونالد ترامب في يناير 2025، دخلت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين مرحلة جديدة تتسم بتصعيد حاد في المواجهة، وانعدام متزايد في القدرة على التنبؤ، ما يعيد إلى الأذهان أوجه الشبه القوية مع التنافس الذي ساد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق خلال الحرب الباردة، ولا سيما مع اتخاذ الرئيس الأمريكي جملة من السياسات والإجراءات التي يرى أنها ضرورية لحماية المصالح الأمريكية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، ولكنها أثارت في المقابل ردود فعل صينية سريعة وقوية.
ولم يعد التنافس المتجدد بين واشنطن وبكين محصوراً في الجانب الاقتصادي فحسب، بل امتد ليشمل التكنولوجيا والأمن والتنافس الأيديولوجي، حيث تبنّى الطرفان خطاباً قومياً متصاعداً ورؤية صفرية النزعة للعلاقات الدولية. وقد زاد من حدّة هذا المشهد أسلوب ترامب القائم على المعاملات القصيرة الأمد والتكتيك غير المتوقع، وهو ما قلّص مساحة الدبلوماسية التقليدية وأضعف جهود بناء تحالفات طويلة الأمد، مما أضفى على المشهد الدولي مزيداً من الضبابية والتوتر.
مؤشرات عديدة
يرى عديد من التحليلات الأمريكية أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين المتصاعدة خلال إدارة دونالد ترامب الثانية من الممكن أن تتحول إلى حرب باردة ثانية بين أكبر قوتين في الاقتصاد العالمي، وتتمثل تلك المؤشرات فيما يلي:
1- رفع ترامب الرسوم الجمركية على الواردات الصينية: تشهد المواجهة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين تصعيداً غير مسبوق منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، حيث تبنّت إدارته موقفاً عدائياً حاداً تجاه الصين تجسّد في رفع الرسوم الجمركية على الواردات الصينية إلى مستويات قد تصل إلى245%، وهو الأعلى في تاريخ العلاقات التجارية الحديثة للولايات المتحدة. وتأتي هذه الخطوة ضمن استراتيجية أوسع للإدارة الأمريكية تهدف إلى تقليص اعتماد الاقتصاد الأمريكي على المنتجات الصينية، ودفع عجلة الاكتفاء الذاتي الأمريكي، حتى وإن أدى ذلك إلى اضطراب في سلاسل الإمداد العالمية وارتفاع تكاليف المعيشة على المواطنين والشركات في الداخل الأمريكي. وترى بعض التحليلات الأمريكية أن تلك الإجراءات تؤكد على التحول في النظرة الأمريكية للصين من شريك اقتصادي إلى خصم استراتيجي.
2- فرض قيود أمريكية على شركات التكنولوجيا الصينية: إلى جانب الرسوم الجمركية على الواردات الصينية، فرضت إدارة ترامب الثانية قيوداً صارمة على شركات التكنولوجيا الصينية، حيث أدرجت أكثر من خمسين شركة ضمن القوائم السوداء، ووسّعت نطاق الرقابة على صادرات التكنولوجيا المتقدمة، بما في ذلك رقائق الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية. وتبرر واشنطن هذه الإجراءات بدوافع تتعلق بالأمن القومي، وضرورة منع تسارع التحديث العسكري الصيني، إلا أنها تؤدي عملياً إلى عزل الصين عن الابتكارات الحيوية والأسواق الدولية.
3- رفع الصين التعريفات الجمركية على السلع الأمريكية: ردّت الصين بسرعة وبقوة على التعريفات الجمركية التي فرضتها إدارة دونالد ترامب على الواردات الصينية من خلال فرض تعريفات مضادة والتي بلغت 125%، وقيود على صادرات استراتيجية، من أبرزها المعادن الأرضية النادرة التي تُعدّ أساسية لصناعات التكنولوجيا والطاقة، وأعلنت بكين بشكل واضح أنها لن تدخل في أي مفاوضات ما لم تقم الولايات المتحدة بإلغاء الرسوم الجمركية الأحادية الجانب. وتكشف هذه الخطوات عن تحوّل في العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين نحو سياسة الانتقام الاقتصادي، ما يهدد بزعزعة استقرار الأسواق العالمية ويفتح الباب أمام حروب تجارية مطوّلة.
4- تفكيك الروابط الاقتصادية بين واشنطن وبكين: تشهد العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين مرحلة تفكك متسارعة، بفعل السياسات الحمائية المتشددة التي تتبناها إدارة ترامب في ولايته الثانية، والردود الصارمة من جانب بكين. فبعد عقود من الترابط العميق عبر سلاسل التوريد العالمية والاستثمارات الثنائية، بدأت واشنطن تنتهج سياسة “الانفصال الاقتصادي” عن الصين، عبر فرض رسوم جمركية ضخمة، وقيود صارمة على الاستيراد والاستثمار، ولا سيما في القطاعات التكنولوجية الحيوية. ولا يهدف هذا النهج فقط إلى تقليص العجز التجاري، بل يسعى لإعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية بما يحدّ من اعتماد الولايات المتحدة على المنتجات والمواد الصينية، ويعزز التصنيع المحلي.
في المقابل، شرعت الصين في خطوات مماثلة لتقليل انكشافها على الاقتصاد الأمريكي، من خلال دعم الصناعات الوطنية، وتسريع جهود “الاعتماد على الذات” في مجالات مثل الرقائق الإلكترونية والطاقة، والتوسع في الشراكات التجارية مع دول بديلة. وقد أدى هذا الانفصال التدريجي إلى تراجع في حجم التبادل التجاري والاستثمارات المباشرة بين البلدين، وأثر سلباً على الشركات متعددة الجنسيات، التي باتت تعيد حساباتها حول جدوى استمرارها في بيئة تتسم بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي. وبذلك، يتجه العالم نحو نظام اقتصادي أكثر انقساماً، تهيمن عليه معسكرات متنافسة بدلاً من العولمة المتشابكة التي ميزت العقود الماضية.
5- تصاعد اللهجة القومية في الخطابين الأمريكي والصيني: تتزامن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة، وتصاعد التوترات حول السيطرة على التكنولوجيا والموارد، مع تصاعد القومية في الخطابين الأمريكي والصيني، حيث تزايد الشعور لدى الجانبين بأن المواجهة لم تعد اقتصادية فقط، بل جزءاً من صراع أوسع على الهيمنة والنفوذ العالمي. فقد عززت الصين خطابها القومي، معتبرة الإجراءات الأمريكية محاولة لعرقلة صعودها وتهديداً لسيادتها. وفي المقابل، يعرض الرئيس ترامب هذه المواجهة كمعركة دفاع عن “الاستقلال الاقتصادي الأمريكي” واستعادة الهيمنة الأمريكية العالمية.
واتسم الخطاب السياسي في البلدين بنبرة تصعيدية، حيث يروج كل طرف لرواية “الدفاع عن المصالح الوطنية” و”مواجهة التهديد الخارجي”. ويؤدي تصاعد هذا الخطاب القومي إلى تعزيز روايات الصراع الحضاري والتهديد المتبادل، ما يزيد من صعوبة الوصول إلى تسويات دبلوماسية أو اقتصادية ويعمّق الانقسام بين البلدين، ويُعيد إلى الأذهان مشهد الاستقطاب الدولي الذي ميز الحرب الباردة، مع تداعيات واسعة على الاستقرار والنمو الاقتصادي العالمي.
6- تصوير الولايات المتحدة للصين على أنها منافس أيديولوجي: ترتبط الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين ارتباطاً وثيقاً بتصوّر أمريكي للصين بوصفها خصماً أيديولوجياً يتحدى القيم الأساسية للنظام الليبرالي العالمي. فمنذ انطلاق الولاية الثانية لدونالد ترامب، لم تقتصر المواجهة مع الصين على الجوانب الاقتصادية أو التكنولوجية، بل اتخذت طابعاً أيديولوجياً واضحاً، حيث باتت الإدارة الأمريكية تصوّر الحزب الشيوعي الصيني على أنه تهديد جوهري للديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون.
وقد عبّر مسؤولون كبار عن هذا التوجه بوضوح، معتبرين الحزب الشيوعي “نظاماً غير شرعي” يتبنى سياسات قمعية في هونج كونج وشينجيانج. يعكس هذا التصعيد الخطابي قطيعة مع عقود من سياسة الانخراط مع الصين، لصالح تصور جديد يعتبرها خصماً استراتيجيا ينبغي احتواؤه. ولم يؤدِّ هذا التأطير للصراع باعتباره صراعاً بين نموذجين حضاريين متعارضين فقط إلى تشديد السياسات الأمريكية، بل ساهم أيضاً في زيادة الاستقطاب العالمي، وَخَلْقِ مناخ من الشك والتوتر يعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
تفكيك النظام
في الختام، تُشبه التدابير التي تتخذها الولايات المتحدة والصين مع تصاعد الحرب التجارية بينهما خلال الفترة الرئاسية الثانية للرئيس دونالد ترامب في طبيعتها حروب الحصار الاقتصادي التي كانت تُستخدم في حقبة الحرب الباردة، ما يشير إلى تحوّل جوهري في السياسة الأمريكية من الانخراط الاقتصادي إلى استراتيجية الاحتواء. وقد ساهم هذا النهج في تعميق الهوة بين الاقتصادين الأكبر في العالم، كما دفع عدداً من حلفاء الولايات المتحدة إلى تبنّي سياسات مماثلة، ما يُسرّع من تفكك النظام التجاري والتكنولوجي العالمي القائم منذ عقود، وإعادة تشكيل سلاسل التجارة العالمية وتقويض الاستقرار الاقتصادي العالمي.
ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، فإن الانقسام الناجم عن تشكل تكتلات تجارية متنافسة بين محورين أمريكي وصيني قد يؤدي إلى خسارة تصل إلى 7 تريليونات دولار في الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وقد تراجعت التجارة بين الكتل المتحالفة مع الولايات المتحدة وتلك المرتبطة بالصين بنسبة 12% منذ عام 2022، على غرار ما حدث في بدايات الحرب الباردة. كما باتت الدول النامية في قلب الأزمة، حيث تواجه خسائر تصل إلى 10% من ناتجها القومي بسبب انخفاض تدفق التكنولوجيا والاستثمارات.
انترريجورنال للتحليلات الاستراتيجية