بقلم: فريق التحليل السياسي – شبكة المدار الإعلامية الأوروبية
في منطقة تعتمد منذ عقود على التوازنات الدقيقة والتحالفات طويلة الأمد، شكّلت سياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تجاه دول الخليج صدمةً حقيقية للمراقبين الاستراتيجيين. فقد اتسمت قراراته بالاندفاع العاطفي، والميل إلى التحالفات الشخصية مع قادة بعينهم، أكثر من الالتزام بمبادئ السياسة الخارجية الأمريكية أو مصالح الاستقرار الإقليمي. النتيجة؟ فوضى دبلوماسية، تعميق الانقسامات العربية، وفراغ استغلّته قوى إقليمية ومنافسون جيوسياسيون.
الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل: قنبلة دبلوماسية بلا خطة
في ديسمبر 2017، أعلن ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها – قرارٌ طالما تجنّبت الإدارات الأمريكية السابقة اتخاذه خشية تفجير الغضب العربي والإسلامي. وجاء القرار، الذي لم يسبقْه أي تحضير دبلوماسي مع الحلفاء العرب، كضربة قاصمة لمصداقية واشنطن كوسيط نزيه في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
رغم محاولة البيت الأبيض تبرير الخطوة بأنها “واقعية”، فإنها أثارت غضبًا واسعًا في الشارع العربي، وعرّضت القادة الخليجيين الموالين لأمريكا لمأزق شعبي وأخلاقي. والأهم أنها قدّمت هدية مجانية لخصوم أمريكا في المنطقة – كالحرس الثوري الإيراني وحركات المقاومة – الذين استثمروا القرار في خطابهم المناهض للغرب.
صفقة القرن: حلّ أمريكي أحادي لا يُرضي أحدًا
في يناير 2020، كشف ترامب عن “خطة السلام” المعروفة إعلاميًا بـ”صفقة القرن”، التي رسمت مستقبل الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي من منظور أمريكي–إسرائيلي بحت. ورغم أن بعض العواصم الخليجية (مثل أبوظبي والمنامة) رحّبت بها صامتة، إلا أن الخطة فشلت في تحقيق أي تقدّم حقيقي، بل زادت من عزلة الفلسطينيين ودفعهم نحو اليأس.
المفارقة أن ترامب، الذي وعد بـ”أفضل صفقة في التاريخ”، قدّم خطة لم تُجرَ بشأنها أي مشاورات حقيقية مع الطرف الفلسطيني، ولا حتى مع الشركاء الأوروبيين. وكان الهدف منها، بحسب مصادر دبلوماسية، تسجيل “إنجاز انتخابي” قبل عام 2020، لا بناء سلام دائم.
التطبيع المُسرَّع: مكافآت دون ضمانات
ربما كان أبرز ما ميّز سياسة ترامب تجاه الخليج هو دفعه المتسارع لاتفاقيات التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية، تحت مسمّى “اتفاقيات إبراهيم”. ففي غضون أشهر قليلة عام 2020، تمّ الإعلان عن تطبيع العلاقات بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب.
لكن هذه الاتفاقيات، رغم أهميتها الرمزية، جاءت نتيجة مقايضات مادية وعسكرية مباشرة (مثل بيع طائرات F-35 للإمارات، أو الاعتراف بمغربية الصحراء الغربية)، وليس نتيجة عملية سلام شاملة. وقد انتُقدت بشدة لتجاهلها القضية الفلسطينية، ولإنشائها تحالفًا إقليميًا غير معلن ضد إيران، ما زاد من حدة الاستقطاب في المنطقة.
الأدهى أن هذه القرارات اتُخذت دون دراسة تداعياتها على الاستقرار الداخلي لتلك الدول، أو على التوازنات الإقليمية. فاليوم، تجد دول الخليج نفسها في مواجهة مأزق: فهي مرتبطة بأمنها بواشنطن، لكنها تدرك أن الاعتماد الكامل على الحليف الأمريكي – كما ظهر في أفغانستان أو سوريا – قد يكون كارثيًا إذا تغيّرت الأولويات في البيت الأبيض.
الحرب على إيران: من “الضغط الأقصى” إلى شفا المواجهة
في مايو 2018، أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل المشترك الشاملة)، وفرض عقوبات “قاسية” على طهران في إطار ما سمّاه “سياسة الضغط الأقصى”. القرار، الذي عارضه الحلفاء الأوروبيون، أدّى إلى تصعيد خطير في الخليج، بما في ذلك هجمات على ناقلات نفط، واستهداف منشآت أرامكو السعودية عام 2019.
رغم أن واشنطن اتهمت إيران بالوقوف وراء الهجمات، إلا أن ترامب تراجع في اللحظة الأخيرة عن الرد العسكري، في تناقض صارخ يعكس طبيعة قراراته المتسرعة: يهدّد بالحرب، ثم يتفاوض عبر وسطاء، ثم يعود ليهدّد من جديد. هذا النمط خلق حالة من عدم اليقين لدى الحلفاء الخليجيين، الذين وجدوا أنفسهم في خط النار دون ضمانات أمنية حقيقية.
التحالف الشخصي مع محمد بن سلمان: دعم بلا حدود
لا يمكن فهم سياسة ترامب تجاه الخليج دون الحديث عن علاقته الوثيقة بولي العهد السعودي محمد بن سلمان. فقد دافع ترامب عنه علنًا بعد مقتل الصحفي جمال خاشقجي عام 2018، قائلاً: “ربما يكون وراء الجريمة… أو ربما لا”. ووصفه بأنه “صديق”، ورفض فرض عقوبات شخصية عليه، مُفضّلًا “مصالح النفط والأسلحة”.
هذا الدعم غير المشروط، رغم الانتقادات الدولية، عزّز من شعور بعض القادة الخليجيين بأن بإمكانهم اتخاذ قرارات مصيرية (كالتدخل في اليمن أو مواجهة قطر) دون خشية من ردّ أمريكي. لكنه في الوقت نفسه، جرّد السياسة الأمريكية من مصداقيتها الأخلاقية، وجعلها تبدو وكأنها تُباع مقابل صفقات سلاح وعقود نفط.
خلاصة: سياسة قائمة على الصفقات، لا على الاستراتيجية
قرارات ترامب تجاه الخليج كانت انعكاسًا لعقيدته التجارية: كل شيء قابل للتفاوض، وكل علاقة قابلة للشراء. لكن السياسة الخارجية ليست سوق عقارات. فالمنطقة التي تشهد صراعات وجودية، وتاريخًا معقدًا من التحالفات والعداوات، لا يمكن إدارتها عبر تغريدات مفاجئة أو صفقات ثنائية سرية.
اليوم، تدفع دول الخليج ثمن هذا التسرّع: فهي تسعى جاهدة لإعادة التوازن في علاقاتها، بين واشنطن وموسكو وبكين، وبين الأمن والاستقرار والشرعية الشعبية. والدرس الأهم أن التحالفات القائمة على الأشخاص لا تدوم، أما تلك القائمة على المبادئ والاستراتيجية، فهي وحدها القادرة على صنع السلام الحقيقي.
