د. الياس أبوبكر الباروني…أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة نالوت
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_في المشهد الليبي الراهن، تبدو بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL) وكأنها نمر من ورق، فقدت كثيرًا من أدواتها وتأثيرها، بعدما انسحبت القوى الغربية الرئيسية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، من دعمها المباشر، واتجهت نحو خلق مسارات موازية تتجاوز دور البعثة وتهمّشها على أرض الواقع.
هذا التحول لم يكن مفاجئًا؛ إذ باتت واشنطن ولندن تديران الملف الليبي عبر قنوات ثنائية منفصلة، تقوم على تعزيز التواصل مع الأسرتين الحاكمتين شرقًا وغربًا — الحفترية في الشرق والدبيبية في الغرب — في صيغة غير معلنة لتقاسم النفوذ والسلطة والمؤسسات والامتيازات.
وبات هذا المسار، المدعوم من دوائر اقتصادية نافذة يقودها رجل الأعمال الأمريكي وصهر الرئيس السابق دونالد ترامب، توماس بولز، غطاءً لعقد صفقات اقتصادية وتجارية، تحت ذريعة “تحفيز الاستقرار”، فيما تتجه الأنظار إلى الأرصدة الليبية المجمدة التي تقارب 80 مليار دولار، باعتبارها الجائزة الكبرى في لعبة المصالح الدولية.
أما على الصعيد الإقليمي، فإن الدول المتداخلة في الملف الليبي – قطر، الإمارات، مصر، وتركيا – تتعامل مع الواقع كما هو، بل وتسعى أحيانًا إلى تعزيزه بما يخدم مصالحها الخاصة، في مشهد تتجلى فيه الانتهازية السياسية بأوضح صورها، حيث تستفيد كل دولة من استمرار حكم فئة ضيقة تستولي على مفاصل الدولة وتعيد إنتاج أزمتها.
تقرير غوتيريش: تشخيص أم إعلان فشل؟
في تقريره الأخير إلى مجلس الأمن، قدّم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تقييمًا حذرًا لكنه صريح:
“ليبيا ما تزال
تواجه تحديات معقدة تهدد مسار الاستقرار السياسي والأمني، رغم مرور أكثر من أربعة عشر عامًا على إنشاء البعثة الأممية”.
ورغم إقراره بأن البعثة أدت دورًا في إدارة الأزمات والحد من العنف، إلا أن الانقسامات العميقة وتعدد مراكز القوى واستمرار انتشار السلاح أضعفت قدرة الأمم المتحدة على تحقيق أي اختراق حقيقي.
بل يمكن القول إن البعثة تحولت من فاعلٍ إلى مراقب، تكتفي بتقارير وإحاطات دورية لا أثر لها على الأرض.
وغوتيريش نفسه حذّر من أن غياب تسوية سياسية شاملة سيبقي ليبيا “دولةً معلّقة على حافة الانقسام والتوتر الأمني”، داعيًا إلى إعادة تركيز الجهود على عملية سياسية طويلة الأمد ودعم التوازن بين الأطراف الليبية.
لكن المفارقة المؤلمة، أن آلية عمل البعثة نفسها باتت تعاني من فقدان الذاكرة المؤسسية، إذ اعترف التقرير الأممي بأن الوسطاء المتعاقبين “نادراً ما استندوا إلى ما حققه أسلافهم”، وهو ما خلق مبادرات سياسية مجزأة ومتناقضة أضعفت مصداقيتها أمام الليبيين.
ازدواج السلطة… وانهيار الثقة الوطنية
منذ عام 2022، ترسّخ في ليبيا ما يمكن تسميته بـ “الهيكل الثنائي للحكم” بين الشرق والغرب، حيث تتقاسم النخب السياسية والعسكرية النفوذ وتعيد إنتاج الوضع الراهن حفاظًا على مصالحها.
وقد أدى هذا إلى شلل كامل في العملية الانتخابية وفقدان الثقة الشعبية بالمؤسسات، وتآكل الوحدة الوطنية أمام سطوة شبكات الفساد والريع السياسي.
ولم يعد أمام البعثة سوى إدارة الأزمات وتجميد الانفجارات المحتملة عبر التهدئة المؤقتة، دون أن تمتلك الأدوات اللازمة لفرض مسار سياسي جديد.
وباتت محدودة جغرافيًا داخل طرابلس، مع وجود شبه معدوم في الشرق والجنوب، وهو ما جعلها بعيدة عن تمثيل المشهد الليبي الحقيقي.
اقتصاد ممزق… وثروة بلا سيادة
على الصعيد الاقتصادي، أشار تقرير الأمم المتحدة إلى أن الصراع على الموارد والمؤسسات بين الشرق والغرب يُهدد بانهيار الدولة، خاصة في ظل غياب ميزانية موحدة منذ عام 2014.
وباتت هناك إيرادات موازية، وصراعات على قيادة المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط وديوان المحاسبة، فيما بلغ عجز النقد الأجنبي 4.6 مليار دولار في الربع الأول من عام 2025 فقط، وهو مؤشر خطير على تدهور الوضع المالي.
أما الثروة النفطية، فقد تحولت من عنصر قوة إلى أداة انقسام، تغذي مراكز النفوذ وتمنع نشوء عقد اجتماعي جديد يوحّد الليبيين.
بعثة بلا تأثير… ومجتمع بلا مشروع
يمكن القول إن بعثة الأمم المتحدة في ليبيا اليوم بلا أوراق ضغط حقيقية، بعد أن فقدت الدعم الدولي الفعلي، وتاهت في تفاصيل الانقسامات المحلية.
تحذيراتها من “العودة إلى الحرب” لا تجد صدى، وإحاطاتها أمام مجلس الأمن لم تعد سوى طقس دبلوماسي متكرر لا يغير شيئًا في الواقع الميداني.
لكن الأزمة الحقيقية لا تكمن فقط في عجز البعثة، بل في غياب مشروع وطني ليبي جامع.
إن استمرار التعويل على الخارج، دون مراجعة داخلية حقيقية، هو ما يجعل البلاد تدور في حلقة مفرغة من التسويات المؤقتة والفوضى المنظمة.
هنا أستطيع القول لا خلاص بلا وعي وطني
الطريق إلى الحل لا يمر عبر البعثة ولا العواصم الغربية، بل يبدأ من وعي النخب الليبية بأن المستقبل لا يُبنى على انقسام ولا على إملاءات.
نحتاج إلى رؤية وطنية موحدة ومشروع جامع يعيد ترتيب الأولويات ويستفيد من دروس الماضي.
فالسياسة ليست انتظارا للمنقذ الدولي، بل إرادة وطنية تستيقظ من سبات طويل، تواجه واقعًا شديد التعقيد بروح مسؤولة وطموح صادق.
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_
